أولّ مرة ألتقي به في شتاء 2001، في مهرجان الجنادرية، في العاصمة السعودية، الرياض، أحسست بالزهو، كوني وهذا الرجل العظيم، من منبت واحد، ارتوينا من نيل واحد، وشممنا رائحة زهر البرسيم، وأظلتنا سماء واحدة، وأصخنا السمع للأصوات ذاتها، وعجنت أجسادنا من الطينة ذاتها، طينة السودان.أحسست بالزهو، لأن الطيب صالح كان أكثر المثقفين الموجودين شهرة وعظمة، وأشدهم تواضعا في آن. تواضع يشدّك من الوهلة الأولى، إلى جانب سماحة، وألق روحي يفيض على من حوله، وبشاشة، وتحامل جلّي على النفس من أجل الآخرين، أثرة تبلغ حد انكار الذات.ولا تملك إزاء جوهرة إنسانية كالطيب صالح إلا أن تحبه حبّا يخلو من أيّ غرض، سوى المحبة لأنه أهلٌ لذلك، ولأن صفاته، ومعدنه النفيس، وسريرته الصافية، التي تنعكس على صفحة وجهه، تحاصرك من الجهات كلّها.
أولّ حديث دار بيننا، حين قمتُ بتعريف نفسي، كان عن اسمي.استرعى انتباهه اسم «عويس»، فسألني عنه، وعن انتشاره في شمال السودان.ثم تحدث عن أصل الاسم «أويس القرني» في اليمن، وكيف تمّ تحريف الاسم في مصر والسودان والإمارات والسعودية. كانت «الجنادرية» مناسبة سنوية للالتقاء بالطيب صالح، صرت أنتظرها بفارغ الصبر.وكان هدفي في المرة الأولى إجراء حوار صحافي معه، لفائدة صحيفة «الزمان» اللندنية التي كنت أعمل مراسلا لها في السعودية.
وبحديث نابع من القلب فعلا، قال إن غيره من الأدباء السودانيين يستحقون أن تُجرى مثل هذه الحوارات معهم. من جهتي، شحذت ذاكرتي جيدا، لأكتب لاحقا عن أيامي معه في الجنادرية، ونشر الموضوع فعلا بعنوان «الطيب صالح..تهويمات إنسانية»، أذكر أنني عرضت فيه إلى سؤالي إياه عن أبيات الفيتوري «في حضرة من أهوى..عبثت بي الأشواق..حدقت بلا وجه ورقصت بلا ساق»..إلى آخر الأبيات، وسألته لماذا يحبّ هذه القصيدة. قال إنه كان يعشق شعر التفعيلة، وحين كتب الفيتوري تلك القصيدة، شدته بقوة وأحبها جدا. قال لي أيضا إن الروائي البرازيلي، جورج أمادو أكثر استحقاقا لجائزة نوبل من الروائي الكولومبي، غبراييل غارسيا ماركيز.ولفت إلى أنه يحب الروائي الإيطالي، إيتالو كالفينو. سألته: ماذا عنك يا أستاذي، ألا ترى نفسك أهلا لجائزة نوبل؟ قال، بلهجة سودانية محببة: « يا أخوانا انتوا عاملين جوطة ما بستحقها , انا مجرد تربال بسيط قال ليهو كلمتين وخلاص»!
تحدث كثيرا عن الشاعر محمد المهدي المجذوب واصفا إياه بالشاعر الفحل. تحدثنا عن الروائي الليبي، إبراهيم الكوني، وشعر احمد مطر و»الدوبيت» وكان حين تتجاوز الساعة منتصف الليل، يهب واقفا ليقول: «يا أخي أنا اتعبتكم معاي» !! والتعب الذي يعنيه، هو أن – الصديق الصحافي محمود عابدين وشخصي -، نصطحبه دائما إلى مطاعم الفول السودانية، حيث يلتف حوله السودانيون، ويجد في ذلك متعة لا تضاهى. تجرأت وسألته : «انت عندك رأي في المرأة السودانية … ليشنو عرست خواجية».ضحك قبل أن يجيب: «والله يا اخوي انا مرقت من البلد بدري وما كان في طريقة ارجع عشان افتش مرة سودانية»، لكنه لا ينسى أن يشير إلى أن زوجته أسكتلندية، وأن الأسكتلنديين، هم بدو الإنكليز، يتصفون بالشهامة والمروءة والكرم. يضيف: «بعدين يا خالد انا زوجتي دي ما كنت حألقي احسن منها . فاهماني وفاهمها ومرتاح معاها». ابنته الكبرى زينب اكتفت بتأليف مسرحية واحدة باللغة الانجليزية وانصرفت بعدها لعملها الأكاديمي. يهوى البذلات الداكنة والقمصان الرمادية. قال إن اروع أمانيه حوش كبير وزير موية وشجرة نيم هناك في الشمالية، في كرمكول. عشرة أيام، في كل عام، على مدى أربع سنوات، تعني أربعين يوما، قضيتها مع الطيب صالح.هذا غير أيام أخرى في لندن وفي دبي.ما كان يفوتني مجلسه أبدا.أغتنم فرصة تشاغل الناس عنه، لأستزيد منه، من علمه، وأحاديثه العميقة. والطيب، إن لم تسأل وتلح في السؤال، يؤثر الصمت.ويحسن الإصغاء إلى الآخرين. وحتى لو أدلى أحدهم بكلام غير دقيق عن شأن ما، وكان هو -رحمه الله- مستوثقا منه، لم يكن يتباهى بمعرفته، كان يعمد إلى التصحيح بأكثر الطرق سلاسة، ومن دون أن يتسبب في جرح أحد. أمسيات الرياض، في حضرته، كانت أمسيات أدبية باذخة.
يُستدرج إلى الحديث عن المتنبيء، فيردد أبياته الأثيرة إلى نفسه. يشير إلى أنه يحبّ، كذلك، جون كيتس، وأمبسون. يلتفت ببطء ويشعرك بحميمية دافئة. يقهقه برزانة. يتحدث على مهل وترف ابتسامة عذبة على طرف فمه. يأتي على ذكر أبي نواس والبحتري وجماعة الأكبريين في الجامعة الإنكليزية العتيقة، أولئك المعنيين بالشيخ محي الدين بن عربي. قال لي إنه وجد صعوبة في فهم ابن عربي. هل يسهل على الإنسان -إنسان في مقامه الأدبي والثقافي الرفيع – الاعتراف بعجزه عن فهم بن عربي ؟ يرشف القهوة ويتابع , «انا بسمع احمد المصطفى وعثمان الشفيع ووردي وابو داؤود».يضيف «ايوة بثينة خضر مكي قابلتها في القاهرة وافتكر انها زولة مبدعة». قال لي «تعرف انا عندي روايات نشرت في إسرائيل , أخوانا الفلسطينيين لو وصلوا لي اتفاق وسمحوا لينا بي زيارة إسرائيل انا حأمشي أطالب بحقي». البرد عاصف، يتقيه بمعطف شتوي ثقيل, ويخطر في ردهات الفندق. يطيب لنا أن نقوم بجولة أخيرة قبل أن يخلد إلى فراشه. نزهة مع الكاتب العراقي، خالد القشطيني، ندخن خلالها سيجارة أو إثنتين، ثم أودعه وأقصد بيتي على أمل اللقاء في الغد.
khalidowais@hotmail.com
* روائي سوداني مقيم في الإمارات