“كعهدك ستبقى تورطنا بالامل يا سيار”
الراحل امير الدراجي
*
مقدمة : دعونا نتأمل
كنت قد وعدت القراء الأعزاء بوقفة تأملية في بعض مقول قول المثقف العراقي الصديق الراحل أمير الدراجي.. وها أنا ذا اخترت أن أتوقف عند جملة من التعابير التي تطالبنا بالمزيد من التفكير.. إنها حكاية احتضار أي مثقف عراقي حقيقي.. دام ذلك الاحتضار سنوات طوال ولم يلتفت أحد إليه البتة.. لا في حياته ولا بعد رحيله المؤلم، ليغدو رقما في سلسلة المثقفين العراقيين الراحلين.. ها أنا ذا أقف وقفة تأملية فلسفية وأدعو كل من يريد أن يفكّر معي من قرائنا الأعزاء إزاء تشخيص المعاناة التي جسدها بفكره وخطابه الصديق الراحل أمير.. وكنت احفزه دوما، وأشعل أمامه النار، وكان يعتبر ذلك ورطة للأمل المنشود الذي كان قد افتقده الرجل منذ زمن بعيد.. وكان يفكّر في مساحة هي غير المساحة التي أفكر عليها. وكانت قد انتهت عنده كل المساحات. فماذا وجدت في خطابه من مقول قول يعبر تعبيرا حقيقيا عن احتضار مثقف عراقي أنجبه القرن العشرون..؟؟ لقد عاش المثقفون العراقيون منذ خمسين سنة مضت، وما زالوا يعيشون القهر والضيم والذكريات المريرة. إن من رحل منهم ومن ينتظر.. فهو في حالة احتضار متقّطع، ففي كل لحظة زمنية يعيش مأساة جديدة لا يمكن للمرء أن يتخيلها.. دعوني أتوقف عند مثقف عراقي راحل عانى من احتضار طويل، وكانت له الشجاعة كي يعّبر تعبيرا رائعا عن ذاك الاحتضار!
سليل الثقافات بملابس خاكية
وجدت أميرا ” لا يريد أن يكرر ما اعتاد عليه الآخرون من استخدام نفس العبارات! ” ـ كما يقول ـ، وعنده الحق كونه من المثقفين المحترفين الذين يؤمنون بالتفكير لا بالتقرير.. ويؤمنون بالتجديد لا بالتقليد.. يؤمنون بالإبداع لا بالأتباع.. ويعّلق : ” إن الغربة ليست واحدة، بل غربات لا متناهية “! أواه كم تعذبت أيها المثقف العراقي في وطنك من عذابات، فلم تعد تنشد غربة واحدة، بل عدة غربات! أواه كم طال احتضارك، وأنت تتعذّب في وطنك الذي احرقوه أمام عينيك، وأنت لا تدري ماذا تفعل! أواه، كم أهانوك، وهم كائنات من سقط المتاع.. جهلة ومتخلفون ليس عن ركب الحضارة فحسب، بل حتى عن ركب الحياة نفسها! أواه كم جعلوك تكرههم وتبقى ملتصقا بوطنك وأرضك وعطر ترابك القديم في ارض وادي الرافدين! وانتقل إلى صورة أخرى يقول فيها أمير بأنه ” لا يعتبر نفسه مواطنا جديدا، بل من مخلفات القرن العشرين الرائعة! “.. فمن الطبيعي أن يخرج للعالم وقد شكّلته مجموعة من العظام وفيها روح عظيمة.. روح مثقف عراقي أسطوري قديم البسوه، أو أرادوا أن يلبسوه ملابس (عراقي) جديد تحت شعارات خاكية ومسميات لا أول ولا آخر لميليشيات تافهة العناصر ليس لهم الا التصفيق والرقص.. وقد ذبح المتخلفون حناجرهم وهم يرددونها في الشوارع البائسة بمسيراتهم وتظاهراتهم وسيطراتهم عند فوهات المدن ومسدساتهم المتدلية وشواربهم الكثة.. وأنت قابع تنتظر فرصة الهروب مع روحك العظيمة وعظامك الرميمة إلى خارج الحدود لتسمي نفسك من مخلفات القرن العشرين الرائعة!
وطن رائع بايدي البرابرة
كنت ـ كما قلت يا أمير ـ تخجل من: “حنين للوطن كونه يرتبط برسم تراث بربري حروبي.. انه يتجاوز الوطنية إلى الكونية! فالوطنية بربرية متوحشة والإنسانية أخلاقية كونية! ” نعم، هكذا أوصلوك إلى مثل هذه الحال والأحوال، لتقول مثل هذا الكلام المثقل ليس بكره الوطن، بل بحبه، وأنت تجده وقد أصبح ألعوبة بيد سفاح أشر، أو أضحوكة بيد بربري متوحش.. أو شوارع اسفلتية قائضة لسحل الإنسان.. أو ضفافا لبناء القصور الرئاسية.. أو بحيرات واهوارا مجففة ماتت فيها الحياة.. أو سجونا وقلاعا للأسرى والمعتقلين.. أصبح وطنهم هم، وقد تركوك بعيدا بعد أن قتلوا فيك كل المشاعر والأحاسيس وجعلوك تحتضر سنينا.. ومات الواحد منّا تلو الآخر ولم يرتو أحد منّا من ماء النهرين الأزليين دجلة والفرات.. وطن سجلوه بالطابو باسم تراثهم البربري المتوحش كونه غدا مقاطعة باسمهم واسم من خلفهم.. وهكذا، أصبح كل مثقف عراقي كالمومياء، سّبة في العالم كله، كونه قادم من بلاد التوحش.. ولم يقتصر التوحش على تلك الضباع في داخل العراق، بل جعلوا موتى الضمير يتوزعون على العالم أيضا، إناثا وذكورا، مستغلين البطاقة الإنسانية التي وصفها أمير بالأخلاقية الكونية.. جاءوا واستقروا في إرجاء العالم، وبالأخص بريطانيا وأمريكا وأرجاء أوروبا، ليلعنوا العراقيين لعنة أزلية، ويلاحقوا كل المثقفين العراقيين الأحرار، ويجهضوا عليهم! وثمة إشكالية مثيرة للتناقضات، فهؤلاء إذا كانوا أعداء للغرب والاستعمار.. فكيف لهم أن يقيموا فيه ويحملوا جنسياته وانتماءاته؟؟ إن أميرا يتأوه صائحا بوجه الضباع حتى وان اكتسى الضبع قلائد كاذبة باسم مثقف، أو مختص، أو خبير، أو شاعر.. الخ إذ يكفي أن يستذكر كل العراقيين مآسي مثقفين رائعين وأكاديميين كبارا كانوا ضحايا أبرياء بعد تعذيبهم تعذيبا بطيئا وعلى نار هادئة!
مثقف يقتلعوه من الجنة!
أمير المثقف المحتضر، لم يكره العراق / الوطن، بل كره من كان يستخدم هوية العراق له، وهو بلا هوية إنسانية! يقول: “إن الخروج من الوطن هو الاقتلاع من الجنة. أنا لا أتوقف عند المفهوم الفاضل للجنة، بل اخترق هذا الجدار السحري للمفردة واعترف بان الفضيلة الإنسانية، هي ما بعد الجنة..” .. إن الجنة التي تركها للحفاة والعراة من تراث العراق الخالد لا يريدها أبدا، كونهم سجلوها باسمهم.. وكانوا وما زالوا برابرة ومتوحشين يكرهون العراق كرها لا حدود له! وكأنهم غرباء عنه.. وكأنهم يمتلكون ولاء لطرف آخر من الأطراف.
ونتابع معه قوله “وأنا وريث العصيان الأول وريث نكران الإعماء الوطني والقفر المعرفي..” انه سليل ثورة البحث عن الخلود، وهي أول ثورة فكرية في تاريخ البشرية.. ولكنه مع الأسف اليوم غدا وريثا لكل هذا العمى الوطني لمجتمعه الذي يرقص أمام تلك الداهية، أو ذاك الزعيم، أو ذلك المشير، أو تلك الصناجة، أو هذه الضرورة.. وهو مجتمع أقفر من المعرفة، ويسوده الجهل، ويطبق عليه الانغلاق! لقد وصلت حالة التمرد عند بعض المثقفين العراقيين إلى أوج مداها إبان النصف الثاني من القرن العشرين كي نجد صنفا رائعا من المثقفين المتمردين حتى على ذاتهم.. وخرج من بينهم بعض المتشردين والمتسكعين والمدمنين والعابثين والمجانين والضالين والثوريين والمساجين والمعتقلين.. الخ فلا غبار أن نجد مثقفنا يقول: “أنا غريب حتى عن رحم أمي. لا اشعر بأي طمأنينة حتى في بلدان تضع الحرية والإنسانية بمكانة أهم من الآلهة..”! ويتابع في مكان آخر، قوله: “كنت في العراق أخاف من نفسي ومن أفكاري، أخاف على صحبي وأخوتي وأسرتي. لذا قطعت نفسي، اجتثثت جذوري من تحميل أهلي مسؤولية ما أفكر به”.
من جعله يحتضر؟ من قتل ركائزه؟
وأسأل: لماذا تصل الحال عند مثقف عراقي ملتزم إلى هذا المآل؟ ما الذي جعله يشعر بفقدان الانتماء حتى عن رحم أمه؟ من الذي افقده الطمأنينة وراحة البال؟ أو بالأحرى من قتل حريته البسيطة التي يريد من خلالها أن يغني.. أن يرقص.. أن يكتب شعرا.. أن يشرب كأسا، أن يأكل خبزا، ويدك اصباعتين.. أن يمضي إلى حيث يريد في ارض وطنه.. أن لا يراقبه احد.. أن لا يحصي أنفاسه أحد.. أن لا يهينه احد.. أن لا يرشق بنظرة مخيفة.. أن لا يوشي به احد ظلما وعدوانا.. أن لا يخطفه أحد.. أن لا يقطع رقبته أحد..؟؟ إن المثقف الحقيقي إنسان حر، وإنسان لما فوق العادة، فالحرية والإنسانية التي وجدها في مكان غير العراق جعلها في مصاف الإلهة! فهو هنا لا ينتمي إلى وطن كالعراق، يسحقه العراقيون سحقا ويدمروه تدميرا، ولا يقف مع معاناته ومأساته منهم أحد.. وهو يجد نفسه وقد حوصر من قبل أغبياء، ورعناء، وأميين مفلسين وجهلة مارقين ـ كما يقول ـ ” بهذا الغباء والرعونة لمفهوم متوتر حروبي يستغفلنا من قبل مجموعة من الأميين ثقافياً والمفلسين أخلاقيا والجهلة إنسانيا.. وطننا هو رسالة كونية ثقيلة العيار.. ولهذا اجزم واكرر دائماً ومن حق الآخر أن يسألني ويسمعني.. أنا مؤمن بشعاري أكرهك يا شعبي احبك يا وطني!! “. هنا نسأل : هل كره المثقف العراقي شعبه، أم أنها نفثة الم وآه انسحاق قالها أمير الدراجي، وهو ببيروت يشهد مأساة الحرب الطاحنة بين العراق وإيران؟ إنني اعتقد أن أي مثقف عراقي، وبضمنهم أمير نفسه، لم يكره شعبه أبدا.. أبدا. إذ لا يمكن أن ينفصل أي عراقي، مهما كانت غربته عن أهله، إذ يبقى يحمل هويتهم وعاداتهم وتقاليدهم باستثناء اولئك السفهاء الذين ماتت ضمائرهم..
مشكلة المهرجين.. والمنافقين
وربما ثمة تفسير آخر، وجدته وأنا اقرأ ما كتبه شتراوس وهو يحلل الأصول الانثروبولوجية لسايكلوجية البعض من المثقفين الأحرار ممن لهم أحاسيس جد مرهفة.. فهم يحاولون التخلص من كل تناقضات المجتمع بالانعزال عنه، بعد التمرد عليه وإعلان البراءة منه.. ولكنهم يبقون ملتصقين بأعماقهم أي بأوطانهم.. ويموتون بعد احتضار طويل الأمد، بسبب غربتهم عنها! وهذا ما أجده ليس عند أمير وحده، بل عند اغلب المثقفين العراقيين الأحرار الملتزمين، وليس عند أولئك المهرجين، أو المنافقين الذين ترقصهم الشعارات، أو أولئك الذين يسميهم أمير بالأغبياء المنافقين! واسميهم أنا بأنصاف المثقفين! انه يعرفهم، كونه خبرهم وعاش معهم أكثر مني.. فهو يقول : ” هذا تراث وفولكلور ثقافي قديم بني على النفاق..” ويتابع : ” اجل كنت مناضلاً راهباً. وهذا يعرفه الجميع عني لكني أبول على هذا ” المجد ” بل هذا العار المخجل “. انظروا إليه الآن، وهو يرفض كل ذاك المجد المزيف الذي بني على النفاق.. سجّل مناضلا راهبا متبتلا في محراب الثورة من اجل تحرير فلسطين وقد أتى من العراق.. ولكنه اكتشف هول الفاجعة، فلم يعد يريد أن يسميه أحد بمناضل! لقد آمن بجملة من المبادئ التي لم يزل يصفق لها الأغبياء من المهرجين والمنافقين، ولكنه بال عليها، وعلى أمجادها التي قادتنا هي الأخرى إلى الهزائم المخجلة! لقد كشف لنا الزمن بضاعتهم بعد سنوات من دجلهم.. قال لي صاحبي منذ زمن طويل، وهو يهمس خوف التقاط ما يقول : انظر إليهم وافعالهم في مهرجاناتهم سيئة الصيت التي كانت تحييها الراقصات المبتذلات اللواتي يجلبوهن من هنا وهناك؟
وأخيرا.. ماذا يريد امير؟
يقول : ” نحن بحاجة لتطهير ذاتي وتبتّل شخصي , لذا لابد أن تكون خطوتنا الأولى هي الاعتذار كثيراً من أمجادنا وتواريخنا كما اعتذرت الأمم عن أخطائها. ولكن هذا يحتاج لألف عام قادمة، لان العرب من الطفل حتى الزعيم كلهم آلهات وبرر ومعصومين لا يعرفون الخطأ “. دعونا نفكّر طويلا بهذا النص ونتأمل ما يطالبنا به فقيدنا أمير.. تطهير ذاتي أولا وتبتّل شخصي ثانيا.. إذن أخلاقية راهب هي البدء، فالمعرفة لا تبني على وضاعة وانحراف! ثم الاعتذار ممّن؟ من ذاك الذي جعلناه فوق رؤوسنا واعتبرناه أمجادا.. ويقايسنا بالأمم الأخرى التي اعتذرت عن أخطائها! هنا اختلف معه فالأمم الأخرى كانت لها قطيعتها مع الماضي من دون حاجة كي تعتذر، والقطيعة أهم وأفضل لنا.. فمن يعتذر لمن؟ ربما كان مصيبا في ألف عام قادمة.. فالأمر ليس هينا كي يكون لنا وجود رائع بترسبات ومخلفات وبقايا شنيعة مع إبقاء المثقفين يحتضرون وهم غرباء يتمزقون ويموتون في عزلتهم عن أوطانهم.. وقد صدق الراحل أمير الذي مضى فالكل زعماء والكل رهبانا والكل أبرارا، والكل أفذاذا، والكل ملائكة.. ولم نجد من يعترف بذنبه، ويتراجع عن خطئه ويتقدّم للناس يقول لها : اطلب منكم أن تسامحوني قبل أن اطلب المغفرة من الله..
* كاتب عراقي
(مع النسخة المنشورة على الموقع: ملحق ببعض رسائل المثقف الراحل أمير الدراجي إلى الدكتور سيار الجميل)