الإستسلام الذليل لقوى الجهاد والظلامية هو الصفة التي تطلقها الأوساط الليبرالية والتقدمية في باكستان على إتفاقية السلام التي طبّلت لها الحكومة وزعيم “تحريك نفاذ شريعة محمد”، مولانا صوفي محمد، والتي تقضي بوقف أعمال العنف الطالبانية في وادي “سوات” مقابل تطبيق “الشريعة” في منطقة “مالاكاند”.
ويبدو أن هنالك إجماعاً واسعاً في باكستان على أن الإتفاقية التي أبرمت بين “تحريك نفاذ شريعة محمد” وحكومة منطقة الحدود الشمالية الغربية تمثّل مؤشّراً إلى درجة اليأس الذي تعاني منه النخبة الحاكمة لباكستان، سواءً المدنية والعسكرية. فالحكومة التي، ببساطة، أخفقت في إلحاق هزيمة عسكرية بمجاهدي طالبان في وادي “سوات” (الذي غالباً ما يُقارَن بسويسرا بحكم جماله الطبيعي)، أعلنت عن هدنة مع المجاهدين تقضي بسحب الجيش والسماح بتطبيق الشريعة الإسلامية بصفتها القانون الأعلى للمنطقة. من جهتهم، أعلن الطالبان عن هدنة من جانب واحد لمدة 10 أيام بدأت عشية بدء المفاوضات مع حكومة المقاطعة. وقبل ذلك، وكبادرة حسن نيّة، أطلق الطالبان سراح المهندس الصيني “لونغ كساوي” الذي كان جرى اختطافه في 29 أغسطس 2008.
وقد أصدر رئيس وزراء حكومة حزب عوامي الوطني- حزب الشعب الإئتلافية “أمير هيدر هوتي” إعلاناً رسمياً في 16 فبراير عن تنفيذ الشريعة، التي أطلق عليها تسمية “قوانين نظام العدل 2009” في منطقة مالاكاند ومقاطعة كوهيستان: “إنني أعلن إصدار قانون نظام العدل (المعدّل) 2009 الذي سيُطبّق في مالاكاند بعد عودة السلام واستتاب سلطة الحكومة”. وبعد أسبوع، في 23 فبراير، أعلن “مولانا صوفي” رسمياً، في مؤتمر صحفي، إلتزامه باتفاقية السلام مع حكومة مقاطعة الحدود الشمالية الغربية، وطلب من المجاهدين ومن الجيش إطلاق سراح الأسرى بغية إحلال سلامٍ دائم في “سوات”. وكشف “مولانا صوفي” عن خطة سلام من عشر نقاط، وحثّ الحكومة على سحب جنودها من المدارس والمراكز الصحية بغية تحسين أوضاع سكان “سوات”.
إن نظام العدل الجديد يجعل الشريعة الإسلامية رسمية، مما يعني أن القضايا المرفوعة أمام المحاكم سوف تُنظّر من جانب قضاة يحكمون بموجب الشريعة في منطقة مالاكاند، التي تشمل سبعة اقضية في “سوات”. إن تطبيق النظام القضائي الجديد مشروط باستتباب السلام في وادي “سوات”. وتزعم الحكومة أن النظام الجديد سيوفّر عدالة ً سهلة وسريعة للناس في مالاكاند وأن دوائر القضاء والشرطة ستخضع للمحاسبة أي تأخير في تنفيذ قرارات العدالة.
إن حكومة باكستان تزعم أن تطبيق الشريعة هو مطلب شعب مالاكاند. ولكن نقّاد هذا الإتفاق يقولون أن الناس في مالاكاند لم يصوّتوا لصالح الشريعة بل صوّتوا لصالح أحزاب علمانية، وليبرالية، وقومية في الإنتخابات العامة التي جرت في 2008. والواقع أن حزب عوامي وحزب الشعب (اللذين هزما إئتلاف “متحدة مجلس عمل” الذي كان يضم 6 أحزاب إسلامية) قد خاضا معركة الإنتخابات العامة تحت شعار مكافحة الجهاديين والتطرف. وبناءً عليه، يبدو من سخرية الأمور أن الأحزاب السياسية العلمانية والليبرالية التي يقودها صهر “ذو الفقار علي بوتو” وحفيد “باشا خان” قد فعلت عكس ما كانت قد وعدت به، وعادت فخضعت للمتطرفين.
إن إحوال السياسة غريبة في باكستان لأن الشخص عينه يمكن أن يكون قاتلاً في نظر المؤسسة الحاكمة ثم يتحوّل إلى بطل في اليوم التالي. ومن الواضح أن قرار الحكومة بتوقيع معاهدة سلام مع “صوفي”، المعروف بآرائه المتطرفة المؤيدة للطالبان، وبتحدّيه الدائم لسلطة الدولة، قد أعاد الإعتبار لهذا الإرهابي الكهل وأضفى الشرعية على جماعة “تحريك نفاذ الشريعة المحمدية” التي كان مشرّف قد حظرها في يناير 2002 بسبب تورّطها في أعمال إرهابية مناوئة للدولة. إن “صوفي” الذي يبلغ 77 عاماً، والذيب تسبّب بموت مئات الشبّان من مالاكاند في العام 2001 حينما أخذ عشرة آلاف شاب من “سوات” إلى أفغانستان لمواجهة القوات الأميركية ومساعدة الطالبان، كان قد أطلق من السجن بدون تفسير وتم العفو عن جرائمه.
بالنسبة لـ”مولانا فضل الله” الملقّب “ملا راديو”، الذي يتحكم جيشه الخاص برقاب الناس في “سوات”، فإنه كان قد اتّهم بقتل مئات من أفراد الجيش والقوات المؤازرة للجيش، ومن رجال الشرطة، بطريقة وحشية. وقام جماعته بتفجير المدارس، واستهدفوا الشخصيات الإجتماعية والسياسية المعتدلة، والصحفيين، في المقاطعة، وقتلوا كثيرين وأجبروا الألوف على الرحيل من وادي “سوات”. ولهذا كله، يبدو مشيناً أن حكومة باكستان سوف تعلن عفواً عاماً عن فضل الله ورجاله، أي أن الأشخاص المسؤولين عن كل أعمال القتل والإجرام التي عاشها شعب “سوات” خلال العامين الماضيين.
لهذه الأسباب كلها، ندّدت الدوائر الليبرالية والسياسية، ووسائل الإعلام الناطقة بالإنكليزية، في باكستان بالإتفاقية التي كشفت مدى يأس حكومة إسلام آباد ومدى إزدواجيتها. وقبل يومن من إبرام إتفاقية “سوات”، ذكّرت إفتتاحية جريدة “نيوز” بأقوال الرئيس زرداري الذي كان قد حذّر من أن حكومته عازمة على اقتلاع الإرهابيين من جذورهم أيا كان الثمن، مضيفاّ أن الطالبان يسعون للإستيلاء على دولة باكستان بعد أن رسخوا أقدامهم في مناطق واسعة من البلاد. وذكّرت الإفتتاحية بقول زرداري: “نحن نقاتل من أجل بقاء باكستان”. وقد أدلى زرداري بهذه التصريحات في حين كان التفاوض جارياً مع المتطرفين. إن هذا التناقض يجعل الأمور مشوشة حتماً. فبعد 3 أيام من إعلانه أن القوة هي الخيار الوحيد لمواجهة الجهادية الصاعدة، صرّح زرداري لصحفيين صينيين في بكين، في يوم 16 فبراير، أن مكافحة الإرهاب لا تتمّ بالبنادق والقنابل وحدها.
ويقول “إمتياز علام”، السكرتير العام لرابطة وسائل الإعلام الحرة في جنوب آسيا،أن إتفاقية السلام في منطقة الحدود الشمالية الغربية تندرج ضمن إستراتيجية الطالبان لفرض سيطرتها على باكستان. ويضيف أنه، كما حدث في الماضي، سيستفيد الطالبان من وقف إطلاق النار بغية تجميع قواتهم، وإعادة تسليحها، وتعزيز وضعهم في المناطق الخاضعة لسيطرتهم، وذلك في حين سيعملون لمدّ نفوذهم إلى المقاطعات المجاورة: “إن ما يسمّى إتفاقيات السلام التي عُقِدَت في الماضي بين الجيش والجهاديين لم تسفر سوى عن السماح لقوات الطالبان والقاعدة بالحصول على ملاذ آمن والإنطلاق منه لتوسيع جهادها”.
ويعتبر “إمتياز” وآخرون ممن لا يعيشون في وادي “سوات” أن الإتفاقية هي عبارة عن إستسلام للطالبان. أما شعب “سوات” الذي يعيش حالة يأس، فإنه يعتقد أن الإتفاقية ستشتري السلام في المستقبل القريب ولذا فهو قانع بها. سوى أن إستتباب السلام في وادي “سوات” هو إمكانية بعيدة كما تفيد التطوّرات التي وقعت بعد توقيع إتفاقية السلام في 16 فبراير الحالي. إن عملية خطف الضابط المسؤول عن التنسيق في منطقة “سوات”، ويدعى “خوشال خان” وثلاثة أشخاص آخرين، على يد “تحريك طالبان باكستان” ثم إطلاق سراحهم بعد 6 ساعات، هي مجرّد مؤشر إلى مدى عدم إستقرار الوضع. وكان الناطق بلسان “تحريك طالبان باكستان”، ويدعى “مسلم خان”، قد نفى في البداية مسؤولية الحركة عن عملية الخطف، ثم عاد فأقرّ بأن الحركة خطفتهم من أجل مقايضتهم بمجاهدين معتقلين لدى السلطات.
إن عملية الخطف المذكورة لم تكن الخرق الوحيد لاتفاقية السلام: فقد تمّ خطف عدد من أعضاء حزب عوامي في “مينغورا”. وحيث أن الجهاديين كانوا قد أعلنوا عن هدنة 10 أيام قبل إبرام الإتفاقية، فإن خطف هؤلاء يعني أن الجهاديين ليسوا مجمعين حول إحلال السلام في المنطقة. وعلى الأقل، يمكن التكهّن بأن فضل الله لم يكن يتوقّع تعهّد الحكومة بتطبيق الشريعة تطبيقاً كاملاً في المنطقة. وقد أقرّ فضل الله بأن النظام الجديد يلبّي ما كان الجهاديون يطالبون به، ولكن ما لا يستطيع قوله جهراً هو أن مشروعهم يتجاوز تطبيق نظام قضائي أفضل ليصل إلى السيطرة الكاملة على المنطقة.
وقد جاء في إفتتاحية جريدة “دون” الباكستانية أن الجهاديين، الذين غلّفوا قتالهم ضد الدولة بشعار السعي لتحقيق العدالة، بدأوا الآن يتهمون الدولة بالتحايل والخداع بعد أن نزعت الدولة ورقة التين التي كانوا يتغطون بها. وتنقل “دون” عن الناطق بلسان “تحريك طالبان باكستان”، المدعو “مسلم خان” تبريراً لعملية خطف الضابط المسؤول عن التنسيق في المنطقة مفاده أن “الحكومة خرقت وقف إطلاق النار باعتقال واحد من رجالنا في بيشار وقتل آخر في “دير”. ولذلك اضطررنا لخطف الضابط”. تضيف الإفتتاحية أن طالبان باكستان سيصعدون مطالبهم في الأيام المقبلة وسيفرضون شروطاً جديدة سيصعب على الدولة قبولها. وسيكون في أول هذه المطالب سحب كل القوات الحكومية من “سوات” وإطلاق سراح كل الجهاديين… ولكن على الدولة أن تتحلى بالحزم: فينبغي تحقيق مطلب تحسين النظام القضائي، وبالمقابل ينبغي إستعادة السيطرة الحكومية على المنطقة وتفكيك مرافق الإرهاب.
وفي تطوّر ذي صلة، وبعد أيام من إبرام إتفاقية “سوات” بعد إخفاق حملة عسكرية استغرقت 18 شهراً، قامت 3 جماعات طالبانية رئيسية بتشكيل تحالف “شورى إتحاد المجاهدين” في منطقتي شمال وجنوب وزيرستان، وأعلنتا “الملا عمر” قائداً أعلى، وأسامة بن لادن نموذجا ً يحتذى. وبعد أن كانوا يسمّون بيت الطالبان المنقسم على نفسه، قام قادة الحرب الثلاثة، “بيت الله محسود”، و”مولوي ناظر”، و”حفيط غول بهادور”، بإصدار كرّاس في يوم 24 فبراير يتعهدون فيه باستهداف الأعداء الرئيسيين للقاعدة، وهم: أوباما، وزرداري، وكرزاي.
ووفقاً لإعلان صدر عن طالبان باكستان، فقد اجتمع القادة الثلاثة في مكان مجهول وقرّروا حل خلافاتهم بغية إحباط مخططات القوى الخارجية الرامية إلى تقسيم جماعات الطالبان المتعددة الموجودة في باكستان: “كما يقف اليهود والمسيحيون والهندوس موحّدين تحت قيادة الولايات المتحدة، فإن المجاهدين قد نحّوا خلافاتهم الداخلية ووحدوا قواهم”. وفي اليوم التالي، في 23 فبراير، أمر الملا عمر المجاهدين في شمال وجنوب وزيرستان بوقف هجماتهم على الفور ضد قوى الأمن الباكستانية. وفي رسالة إلى المجاهدين الذين أعلنوا عن تحالفهم، أضاف الملا عمر أن الهجمات ضد قوى الأمن الباكستانية سيسيء إلى سمعة المجاهدين وسيسيء إلى الحرب ضد القوات الأميركية وضد قوات حلف الأطلسي في أفغانستان. وأضاف أن “هدفنا هو تحرير أفغانستان من قوات الإحتلال، ولكن إحلال الموت والدمار داخل باكستان المجاورة لم يكن يوماً من ضمن أهدافنا”.
موقف أميركي ملتبس: هولبروك ضد الإتفاقية وكلينتون تتحفظ عن التنديد بها
يشير كل ما سبق إلى أن إتفاقية السلام تملك مغزى مهماً جداً من الزاوية الأميركية، وخصوصاً أنها ستؤثر في كيفية مواصلة الحرب ضد الإرهاب في باكستان وأفغانستان. وبناءً عليه، فقد أعلن المبعوث الأميركي إلى باكستان وأفغانستان، “ريتشارد هولبروك”، في مقابلة صحفية أن القائمين بعملية 11 سبتمبر 2001 والذين خططوا لهجمات مومباي، وطالبان وادي “سوات”، يملكون جميعاً جذورا واحدة، وأن الولايات المتحدة تشعر بالقلق من التطورات الحاصلة في وادي “سوات”.
ولكن محلّلة دفاعياً كبيرة، هي الدكتورة عايشة صدّيقي، تزعم أن أحد أسباب التوصّل إلى إتفاقية السلام هو إسلام آباد وواشنطن والطالبان يملكون جميعاً مصلحة في وقف إطلاق النار: ” ففي حين سيحصل الطالبان على الإعتراف بهم كقوى أمر واقع، فإن باكستان وقوات حلف الأطلسي والقوات الأميركية ستكسب حيّزاً يخفّف الضغوط عنها. ويمكن الزعم بأن ذلك هو ما جعل وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون تتحفظ عن التنديد باتفاقية السلام مع الطالبان، وهو ما جعل البعض يتحدث عن الإتفاقية كوسيلة لإيجاد شقاق بين الطالبان الخاضعين للقاعدة وطالبان وادي “سوات”. لكن ذلك كله لا يغيّر في واقع أن السلام قد يستتب في المستقبل القريب في جزء من باكستان، سوى أن العنف قد يتصاعد في أنحاء أخرى يسعى الطالبان فيها إلى فرض إرادتهم على الناس بحجة تغيير النظام القضائي أو الإقتصادي أو السياسي. وفي نهاية المطاف، فإن ذلك كله سيؤدي إلى إعادة صياغة هوية باكستان نفسها بصورة كاملة”.
amir.mir1969@gmail.com