رحم الله الشريف حسين الهندي الذي كان يقول أن السودان بلد “قارة” لا تضبط الأمن فيه قوى الأمن والجيش الصغيرة العدد بل تقاليد الناس وأعرافها! مات الشريف الهندي شريداً بعد أن قضى معظم حياته في صراعٍ ضد عسكر جعفر النميري الذي “ابتدع” تقليد “القتل السياسي” في تاريخ السودان الحديث، بالإعتماد على العسكر في البداية، ثم بتواطؤ “إسلاميي” حسن الترابي و”بنك الفيصل” لاحقاً.
النميري دمّر حياة السودان الديمقراطية، وقضاءه، وصحفه، ونُخَبَه التي هاجرت إلى حيثما شاءت لها الصدف. بعد النميري (“السكّير” الذي فرض “الشريعة” على السودانيين)، عادت الديمقراطية عودة خجولة، قبل أن يطيح بها مجدّداً تحالف العسكر وجماعة الترابي (القابع في سجن تلاميذه الآن). جاء البشير إلى الحكم ليحول دون عقد صلحٍ مع الجنوبيين المتمردين، فانتهى بعقد صلحٍ معهم، ولكن بعد أن نشرت ممارساته التمرّد في كل أنحاء السودان. البشير أيضاً حظي بدعم “إسلاميي” الترابي، و”بنك الفيصل” السعودي.
كانت معركة العسكر السوداني مع الجنوب الوثني-المسيحي-المسلم (حرفياً، فبعض أهل الجنوب “مسيحيون مسلمون وثنيون”، وتعدّد الزوجات ممارسة “مسيحية” منتشرة)، فصارت حرباً شعواء على الدارفوريين “المسلمين”!
سفك حكم البشير “الدماء” في كل أنحاء السودان، ونشر الفساد بلا حدود.. حتى ضاق به العالم المتمدّن. عمر البشير ليس الوحيد الذي يستحق المحاكمة. هذا صحيح. وصحيح أيضاً أن الغرب يغض النظر أحياناً عن حلفاء له يستحقون المحاكمة والإدانة. لكن ذنوب “الآخرين” لا تبرّر ذنوب البشير (وغيره من حكام العرب) ضد شعوبهم.
على الأقل، محاكمة البشير يمكن أن تضع حدّاً لتسلّط العسكر على المجتمع السوداني، ويمكن أن تؤذن ببداية العودة إلى حكم مدني ديمقراطي، يخضع لسلطة القانون والقضاء، قبل أن يتشرذم السودان إلى سودانات..
وعلى الأقل، فمحاكمة البشير قد تكون إيذاناً بأن “حياة العربي” (و”الإفريقي” أيضاً) ليست “رخيصة” كما كانت طوال الستين عاماً الماضية!
من منطق عربي، ونكاد نقول “عروبي”، نحن مع محاكمة الرئيس البشير، وصديقه “البشّار”، وما يزال يؤسفنا أن تفاهة إدارة بوش حوّلت محاكمة أشهر مجرم عربي في التاريخ، ونقصد صدام حسين طبعاً، إلى مهزلة غير مقنعة ومطعون فيها بدل أن تسمح للعراقيين بمحاكمته بالصورة المثالية التي كانت جرائمه تستوجبها.
من منطق عربي، أو حتى “عروبي”، نحن مع محاكمة البشير لأنه حان الوقت لكي يعترف “العروبيون” بأن أعداد العرب الذين أبادهم حكامهم أكبر بكثير من العرب الذين سقطوا ضد “العدو الصهيوني” و”الإمبريالية الغادرة”! وبأن حالة الدمار و”الخراب” التي تعيشها مجتمعات العرب كلها كانت غالباً من صنع “عرب”؟
أم، هل نحن مخطئون؟
في المقال التالي، يستعرض خالد عويس إحتمالات الوضع في السودان بعد صدور قرار توجيه إتهامات لرئيس السودان.
“بيار عقل”
*
السودان بعد 4 مارس
خالد عويس
إذا كانت الحكومة السودانية، طوال نحو 20 عاما، استطاعت، بشكل آخر أو بآخر، تجاوز أزمات وعقبات كبيرة، اعترضت سبيلها، فإنها تجد نفسها اليوم في ورطة، من الصعب التكهن بمآلاتها الكارثية، ليس عليها فحسب، وإنما على السودان كله!
فهي، وإن كانت، تغلبت على الحصار الاقتصادي، وجهود المعارضة، لسنوات، لاسقاطها، وحرب الجنوب، والاتهامات بإيواء عناصر في غاية التطرف مثل أسامة بن لادن، وأيمن الظواهري، واتهامات أخرى، بالضلوع في محاولة اغتيال الرئيس المصري، حسني مبارك، وقائمة طويلة من المشكلات التي كانت لتسقط أيّ حكومة، إلا أنها، هذه المرة، تواجه مأزقا من نوع مختلف.
ولا يمكن انتظار معجزات في هذه الحالة. فالقرار المنتظر، من قبل ثلاثة قضاة، في الدائرة التمهيدية الأولى، في محكمة الجنايات الدولية، في لاهاي، غالبا، بحسب المؤشرات، سيكون الموافقة على المذكرة التي كان قدمها، في يوليو الماضي، المدعي العام للمحكمة، لويس مورينو أوكامبو، والتي تشمل اتهامات من الوزن الثقيل بحق البشير: جرائم ابادة جماعية، وجرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية.
الجهود الأخيرة التي قادتها العرب والأفارقة، في مجلس الأمن، لإرجاء القرار، مدة عام، اصطدمت بعقبة “فيتو” لوحت به كلا من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا.وهذا يعني ببساطة، أن الدول الغربية، ما تزال ترمي بثقلها من أجل استمرارية الإجراءات القضائية في لاهاي.
وإذا ما صدر القرار، وغالبا ما سيصدر، لن يكون بمقدور البشير، على الأرجح، مغادرة بلاده، إلى نحو مئة دولة عضو في المحكمة.وسيواجه السودان مأزقا دستوريا إذا أعتبرت بعض الدول، الرئيس السوداني فاقدا الشرعية.بل، وغالبا ما ستقدم حركات مسلحة في دارفور على اعتباره فاقدا للشرعية، ملوحة بشرط تنحيه عن الحكم، من أجل الجلوس إلى طاولة مفاوضات لاحلال السلام.
ويمكن التكهن بسهولة أن الحرب في دارفور ستزداد ضراوة، وسط مؤشرات باحتمال اقدام الخرطوم على طرد بعثات دبلوماسية غربية وغير غربية، في حال أيدت دولها، قرار المحكمة. كما ينهض احتمال بطرد بعثتي الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي، إذا تفاقمت الأزمة الدبلوماسية بين الخرطوم والعواصم الغربية، وبعض العواصم الإفريقية التي يمكن أن تؤيد القرار تحت ضغط غربي، خاصة تلك الدول الموقعة على معاهدة إنشاء المحكمة.
والمشكلة أن السودان لم يحسب، منذ شهور، حسابا لإدارة أوباما، التي تتألف من بعض أشد العناصر مناوأة للخرطوم، ومن بينهم، نائب الرئيس، جوزيف بايدن، وسفيرة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، سوزان رايس.
والراجح أن تتعنت الخرطوم إزاء طلب المحكمة بمثول البشير في لاهاي. وفي هذه الحالة، غالبا ما تلجأ العواصم الغربية إلى مجلس الأمن، لاستصدار قرار بفرض عقوبات اقتصادية على السودان، وربما يتطور الأمر إلى إقامة منطقة عازلة في دارفور، وحظر تحليق الطيران السوداني فوق المنطقة، بل وحتى إخلاؤها من الوجود العسكري السوداني!!
ويبرز احتمال أيضا باستصدار قرار بحظر تصدير النفط السوداني، ومنع سفر مسؤولين سودانيين إلى خارج بلادهم.
على مستوى الداخل، ستزداد الأمور تعقيدا، خاصة ما يتعلق بجنوب السودان.فقادة الجنوب، دعوا مرارا إلى التعاون مع المحكمة.والسلام الهشّ بين الشمال والجنوب، مرشح للانتقال إلى مربع جديد قديم، هو إما مربع مواجهات ربما تتطور إلى حرب أهلية، أو إعلان انفصال الجنوب.
وتشي تحركات الخرطوم باحتمال إعلان حالة الطوارئ، خاصة في ظل مخاوف من استغلال بعض القوى السياسية، بما في ذلك قوى داخل نظام الحكم، الظروف الجديدة للاطاحة بالبشير.لكن البشير، في المقابل، يجد في الجيش السوداني عضدا وسندا حاميا من مثل هذه المخططات المحتملة.
في هذا السياق، توعد رئيس جهاز الأمن والاستخبارات السوداني، الفريق أول، صلاح عبدالله، بتقطيع أوصال كل من يؤيد الجنائية الدولية في بلاده.
وهذا يعني ببساطة عودة القبضة الأمنية المشددة، التي ستتململ منها أطراف، خاصة الحركة الشعبية لتحرير السودان (جنوب) الشريك في السلطة، وحركة تحرير السودان – فصيل مني أركو مناوي (دارفور)، الشريك هو الآخر في الحكم.
وإذا ما حدث ذلك، فإنه يعني انفراط عقد القوى التي تشكل حكومة الوحدة الوطنية، واحتمال حدوث مواجهات بين هذه الأطراف، في ظل وجود قوى أخرى معارضة ومسلحة.
أخيرا، كانت قد تسربت معلومات من نيويورك بشأن دول عربية تدرس إمكان استضافة البشير. لكن، حتى هذا الاحتمال، يعتمد بالأساس موافقة البشير، وهذا أمر مستبعد بالنظر إلى شخصية الرئيس السوداني.
khalidowais@hotmail.com
* كاتب وصحافي سوداني