أثار “دولة الرئيس” نبيه برّي موضوع “مجلس الجنوب” وميزانياته على خلفية شعوره بالقلق من سقوط عدد من نوّاب كتلته بسبب التقسيمات الإنتخابية الجديدة. وهذا ما كان دفعه إلى إقامة إحتفالات لمخاتير ورؤساء بلديات جنوبيين كان قد نسيهم منذ سنوات. باختصار، “دولة الرئيس” يريد من الدولة اللبنانية أن تموّل حملته الإنتخابية من مخصصات ميزانية “مجلس الجنوب”.
“دولة الرئيس” بارع، بدون شك. فقد حاول أن يبتعد عن النظام السوري في عهد أمين الجميل، ثم أصبح الأكثر “إنبطاحاً” وابتذالاً أمام حافظ الأسد، وإبنه..! وهو يكره حزب الله، ولكنه الأكثر إلتصاقاً به الآن.. بانتظار أن تتغيّر الظروف!
براعة برّي هي التي سمحت له بترؤس مجلس النوّاب في العهد السوري، وبعد إنسحاب القوات السورية. “الإستاذ” نبيه “لا يُخرَق ولا يغرق”، إلا إذا قرّر مجلس النوّاب في مستقبل بعيد أن يحيي مشروعاً قديماً جداً كان الزعيم كمال جنبلاط يطالب به، ويسمى “قانون من أين لك هذا؟”.
الرئيس برّي “مجدّد” حتى في شؤون “المذهب”: بفضل تنفيعاته (في وظائف الدولة) انقسم شيعة إلى “شيعة” عاديين و”شيعة نبيه برّي”. الأوائل يرسبون في إمتحانات الدخول إلى وظائف الدولة (حتى لو نجحوا)، و”شيعة نبيه برّي” ينجحون حتى لو رسبوا، وحتى لو لم تكن هنالك حاجة لتوظيفهم!
*
علي حمدان- “الشفاف” بيروت
تعتب أوساط جنوبية مستقلة وتقول أن قوى 14آذار تبرّعت، مرة أخرى، لتقديم “الهدايا” لخصومها. وهذه المرة الهدية غالية قدمها الرئيس فؤاد السنيورة إلى الرئيس نبيه بري على أعتاب التحضيرات للإنتخابات النيابي، بطرحه إلغاء مجلس الجنوب وعدم تخصيص إعتمادات له في موازنة العام 2009. أثار القرار حفيظة الرئيس بري الذي يعتبر هذا المجلس الرئة التي يتنفس بها أمام جمهور الشيعة و”غيرهم” من الجنوبيين، وقسم من منطقة البقاع. كما يعتبرها إخلالاً بنظام توزيع المكاسب والحصص الذي قامت عليه الطبقة السياسية بعد إتفاق الطائف.
لايختلف أحداً بان مجلس الجنوب هو الدجاجة التي “تبيض” لنبيه بري الأموال والخدمات والمصالح و “الهدر” الذي لاسقف له والذي أعطى لزعامته دعماً قوياً في المحافظة
على حقوق الجماعة التي يمثلها… فمن أموال مجلس الجنوب (التي هي أموال الخزينة
اللبنانية وبالتالي أموال المكلف اللبناني)، شيد رئيس حركة”أمل” امبراطوريته المالية والخدماتية، وشارك أقرانه مما كانوا ولايزالون في السلطة توزيع الحصص والمكاسب فأصبح لكل طائفة “مزراب” يتصرف بمفاتيحه زعيم هذه الطائفة أو تلك.
ماذا يعني طرح إلغاء مجلس الجنوب الآن؟
يعني أولاً، ومن حيث المبدأ، أن الحكومة اللبنانية تريد إلغاء الهدر والفساد، وهذا
المبدأ صحيح ولايختلف عليه أحد يريد للبنان ان يصبح دولة يخرج من مفهوم المزرعة وتقاسم
الحصص.
ويعني ثانياً، ومن حيث المبدأ أيضاً، العودة إلى القوانين وكسر قاعدة التقاسم ووضع امور الناس كل الناس بيد الدولة، حيث الواجبات والحقوق.
ويعني ثالثاً، ومن حيث المبدأ، أن تستكمل هذه الخطوة المهمة بأخريات تسد مزارب الهدر
والفساد.
نقول، ومن حيث المبدأ، أن خطوة الرئيس السنيورة إذا ما استكملت تكون فعلاً قد وضعت حداً للفساد وأقفلت مزاريب الهدر وهذا ما يطمح إليه كل لبناني يريد من فريق 14آذار تطبيق ما نادى به حول الدولة.
أما وأن خطوة الرئيس السنيورة جاءت يتيمة، فإنها تركت تداعيات على النموذج اللبناني “الخارق” والمتمثل بتوزيع الحصص والمكاسب على الكتلة الحاكمة منذ إتفاق الطائف.
فأصبح لكل طائفة مجلسها أو صندوقها أو هيئتها، وحولت الحكومة اللبنانية آلآف المليارات من
الليرات اللبنانية إلى هذه الصناديق “المكاسب” لشراء “السلم الأهلي” منذ العام 1992
كما وصفها الرئيس الشهيد رفيق الحريري في العام 2000.
وخطوته اليتيمة هذه طالت شريحة واسعة من شرائح المكونات اللبنانية التي
لا تستسيغ الرئيس السنيورة ومواقفه تجاه التعويضات وعدم الإفراج عنها بعد أكثر من سنتين.
فإلغاء مجلس الجنوب دون غيره يعني لهذه الشريحة عدم إستكمال دفع ما تبقى لها من
تعويضات ويعني لزعماء هذه الشريحة تهديداً بتغيير قواعد نظام المحاصصة. وبالتالي على “الزعيم” ان يحافظ على “حقوق”هذه الشريحة ويستبسل بالدفاع عنها الأمر الذي يعيد عملية تشكل الجماعة حول زعيمها في وجه الحكومة التي يفترض أن تكون حكومتها.
كان على رئيس الحكومة أن يقدم مشروعاً متكاملاً يقفل كل ابواب “الضخ” المالي
لزعماء الطوائف، وأن يقدم آلية جديدة لإيصال تعويضات الجنوبيين بشكل منتظم وشفاف بعيداً
عن المزايدات. أما إذا اقتصر مشروعه على إلغاء مجلس الجنوب أو صندوق المهجرين دون سواهما، ودون تحضير آليات لتأمين حقوق المواطنين ترتبط مباشرة بالحكومة، فإن خطوته هذه تكون بمثابة تعديل في أشكال الضخ أكثر مما تهدف إلى تعطيل وإلغاء عملية الضخ.
فخطوة السنيورة هذه إستقبلها نبيه بري كهدية ثمينة تكرس “حركته” مرجعيةٌ وتعيد
إنتاج دورها في إعادة تكتيل الطائفة حول زعيمها “المؤتمن” على حقوق الطائفة وراعي
مصالحها. لا سيما ونحن في موسم الإنتخابات النيابية حيث سيكرس نبيه بري مؤتمناً على
حقوق الطائفة بعد أن كرس حزب الله مدافعاً عنها.
كيف يمكن أن يتشكل فريق شيعي يقف إلى جانب فريق يطالب بدولة تكون لكل شعب لبنان؟