غزة ـ يوسف بزي
“هل كان نصركم هكذا أيضاً؟” سأل السائق كفاح، وهو يتجول بي في خرائب القرى والأحياء ما بين جحر الديك والشجاعية وجبل الكاشف، حيث لم يترك الاسرائيليون شيئاً من دون قصفه ودكّه وتسويته بالأرض. وحيث الناس نصبوا خيماً قرب أحجار وأكوام منازلهم، وحيث المصانع الكبيرة التي لم يبق منها سوى المعادن المجعلكة ككائنات سوريالية وحشية، وحيث الأطفال يتجولون فوق كل الأكوام كملعب غرائبي مفزع في أرض تفوح منها روائح النتانة من بقايا الحيوانات النافقة ومؤن البيوت المتعفنة والمياه الآسنة.
“حماس خربت بيوتنا واليهود ما عندهم رحمة”.. تكررت هذه العبارة طوال الصباح اكثر من خمس مرات كأنها لسان حال كل الناس الذين صادفتهم ومنهم من تطوع وحده ليتحدث اليّ ما ان يعرف انني صحافي: “الحقيقة لا يقولها الاعلام. الواحد منا لو يتجرأ امام الكاميرا تجي حماس وطخّه”.
كالعادة، تحلق الأطفال من حولنا. واحدهم قال انه سيصير مقاتلاً كما لو أنه يكرر دوراً يفترضه أمام كاميرا، لكن ما أن سألته “عن جد، ما الذي تريد أن تفعله في المستقبل؟” حتى أجاب بلا تردد “أدرس أنكليزي وأسافر”، الولد الآخر بعمر الثالثة عشرة حكى “يعني فتح مش أحسن منهم، كانوا زعران وحماس سوّدت حياتنا.. واليهود ما بتفرق معاهم، دمروا بيوتنا كلها ومدرستنا وأنا بنام في الخيمة مثل ما صار مع جدي من زمان. ليش الحرب؟ والله إحنا بدنا السلام.. شوف ( مشيراً ناحية المزارع الإسرائيلية) ما أحلاها، هيك بدنا فلسطين”.
يأخذني كفاح الى منطقة الزيتون، الى حي آل السموني حيث نفذ الجيش الاسرائيلي عملية انزال بالهليكوبترات على سطوح المنازل ودخلوا الى كل المنازل من دون مقاومة تذكر. جمعوا السكان في منزل واحد كبير ثم بلا سبب واضح دكّوا المنزل بالقذائف والقواذف على رؤوس من فيه، وعلى ما يبدو.. كان عملاً عن سابق تصور وتصميم.
جميعهم من آل السموني، قتل منهم 29 شخصا من بينهم 14 طفلاً أصغرهم بعمر خمسة أشهر. يقول لي عطية السموني راوياً ما جرى: ابن عمي خرج من المنزل المدمر رافعاً بطاقة هويته فأعدموه وإبنه (4 سنوات). جرفوا الأرض ودمروا البيوت بالجرافات والدبابات.
كان عطية ومعه شباب العائلة يتقبلون التعازي حين سألتهم إن كانوا يريدون الإنتقام، فأجابوا من غير تردد “والله بدنا السلام مش الانتقام”. فاجأني هذا الرد الجاهز تقريباً من غير أي ارتباك. فعائلة تخسر 29 من أفرادها ويصاب 42 بجروح ولا يبقى سوى 30 منهم فقط بلا أذى، وخسرت كل بيوتها وجرفت بساتينها… ومع ذلك يتجنبون منطق الإنتقام ويقولون بالسلام. فهذا ليس سياسة. إنه حقيقة خام، تطلع هنا من أرض الموت والكراهية بالذات.
الشكوى من الحرب لا يوازيها سوى التذمر من “حماس”. النادل والصرّاف وصاحب محل ألعاب الكمبيوتر والمرأة التي تجلس أمام ما تبقى من بيتها وموظف البلدية واستاذ المدرسة والمزارع الذي استقل معنا السيارة والعائلة البدوية مع قطيعها من الخراف وثلاثة سواّقين استخدمنا سياراتهم والشبان الكثر الذين جالسناهم وصيادو السمك في مرفأهم وكل من التقيناه بين الخرائب من عمال وعاطلين وكبار وصغار وأطفال… عبروا عن مقتهم لحماس وعتبهم على مصر وشعورهم بأن سلطة رام الله تخلت عنهم، واحساسهم بنفاق الدول العربية التي تدعم حماس وكذب الإعلام وعداوة اليهود (حسب تعبيرهم).
لكن تركيزهم على انتقاد “حماس” والحاحهم على التعبير عن ذلك مهما كان السؤال فهو مدهش وصادم وغير متوقع. هم يقولون: “حماس بدهم المقاومة والسلطة ويحكموا الناس ويحاربوا اسرائيل ويعادوا مصر والدول العربية وما يحكوا مع العالم وحتى الأوروبيين ما يريدون التحدث معهم ولا يجددوا الهدنة ويخربوا القضية.. هؤلاء ما معهم الا ايران.. وإيش نحنا وما لنا بايران؟ حاكمينا بالخوف والحديد والسلاح. يا ريت تصير انتخابات”.
لم أعرف كيف أجيب كفاح إن كان نصر”نا” مع “حزب الله” عام 2006 مثل نصر “حماس” عام 2009. ما عرفته ان الناس هنا أجابوا بالإستنكار والإستفظاع رداً على سؤالي ان كانوا يريدون نصراً مشابهاً مرة أخرى.