جهاديو العرب “متفاجئون” بالعدوان الإسرائيلي على غزة أو قل إنهم متفاجئون بدرجة الوحشية والعنف اللذين جردتهما إسرائيل على القطاع المنكوب.
مشكلة فعلا أننا على الدوام نتفاجأ. وقد فوجئنا من قبل بحجم “رد الفعل” الذي جردته إسرائيل على اختطاف وقتل عدد من جنودها على الحدود مع لبنان والذي تحول إلى عدوان حاقد وشرس استهدف ظاهرا “حزب الله” لكنه تركّز عمليا على تخريب الاقتصاد والتدمير الجزئي للبنى الأساسية وتدمير أقسام كبيرة من الجنوب والضاحية في لبنان. في حالة غزة كما في حرب تموز 2006 تتكرر التجربة المأساوية. إذ يدفع الناس البسطاء الثمن الأكبر ثم تطوى الصفحة على خطب الجهاد والبطولات والصمود و”لن نركع” ودون أن يجرؤ إلا قليلون على رفع سؤال مهذب باسم كل هؤلاء المساكين حول المكاسب المحققة من كل ذلك الدمار والنار والرعب والدماء البشرية المسفوحة، وما هي الدروس التي يتم استخلاصها في نهاية المطاف من تلك التجارب المكلفة الناجحة منها والفاشلة. والأمم الحية هي التي تحتفظ بتسجيل أمين لتاريخها ولنجاحاتها وإخفاقاتها، والأمة التي ليس لها تاريخ يدرسه الناس ويجمعون على روايته هي أمة لا تتعلم بل أمة لا يرجى لها مستقبل أو مكانة في العالم.
في لبنان أجرى “حزب الله” – وهو الأكثر خبرة وتنظيما وتحصنا بكثير من “حماس” – مراجعاته الخاصة به لكنه لم يعلن عن نتائج تلك المراجعة ربما بهدف الإبقاء على ستار الكتمان والسرية المعتاد حول مذهبه العسكري وتكتيكاته المتبدلة. لكن الحزب يواجه على صعيد آخر معضلة لا تتعلق باستراتيجية الحرب أو “الاستراتيجية الدفاعية” بقدر ما تتعلق بتسليم قرار الحرب والسلم إلى الدولة اللبنانية أو قل لآلية التوافق السياسي التي تمت بلورتها بين الفرقاء اللبنانيين، علما أن الحزب يصرّ على اعتبار تلك الآلية القاعدة المثلى للمشاركة السياسية حتى في أبسط أمور الحكم مثل التعيينات أو التحاصص في المناصب، فكيف إذاً في ما يتعلق بمصير البلد سلما وحربا؟ اللافت أن السلطة الفلسطينية واجهت هي ايضا معضلة مشابهة في ما يتعلق بقرار الحرب والسلم بل إن أحد أكبر اسباب الشقاق التي أفضت إلى انهيار السلطة الفلسطينية كان إصرار “حماس” وبعض المنظمات الجهادية على التفرد بالعمليات العسكرية دون أي اعتبار لمبدأ وحدة السلطة السياسية الشرعية المنتخبة أو قراراتها وحساباتها، وقد أصرت “حماس” على الاحتفاظ باستراتيجيتها وقراراتها المستقلة انطلاقا من رفض “الخط المساوم” واستحالة التسوية مع إسرائيل وحتمية الجهاد أو المقاومة باعتبارها الوسيلة الوحيدة لتحرير فلسطين، كل فلسطين.
والمؤسف أن استحالة التوفيق بين النظرتين المعتدلة والمتشددة حتى عبر الاحتكام إلى الآليات الديموقراطية قاد في مرحلة لاحقة إلى قطيعة تامة بين الضفة الغربية وقطاع غزة وهذه القطيعة يمكن اعتبارها في اساس الأحداث التي توالت منذ ذلك الحين إذ أفضت أولا إلى انقلاب العام 2006 ثم إلى ارتهان “حماس” بصورة متزايدة الى الجمهورية الإسلامية في إيران وتعمق عزلتها العربية والدولية وهو ما سهل في نهاية الأمر استفرادها واختيارها من قبل إسرائيل وخلفها واشنطن كهدف مناسب لترهيب المنطقة والانتقام من نكسة حرب تموز في جنوب لبنان وترميم هيبة الدولة العبرية وأسطورة العصا الغليظة أو “الذراع الطويلة” التي اهتزت في أتون معارك لبنان.
لقد استدرجت “حماس” بمكر من قبل الإسرائيليين إلى فخ نصب بعناية ولم تنتبه – هي وداعميها – إلا بعد فوات الأوان إلى الحسابات الحقيقية للدولة الصهيونية، وقد تركت إسرائيل الانطباع – عبر “تسريبات” مدروسة أو مناورات عسكرية على الحدود مع سوريا في صيف 2007 – بأن هدفها المحتمل هو ربما جولة جديدة وحاسمة مع “حزب الله” تنتقم فيها لتمريغ أنفها في تموز 2006 لكنها كانت تعمل في الواقع على هدف أكثر سهولة ويمكن أن يكون “بروفة” يتم عبرها إرسال الرسائل نفسها إلى المنطقة وإلى “حزب الله” ولبنان بالتحديد. ولقد وصف السيد حسن نصر الله ما يجري في غزة الآن بأنه تكرار لحرب تموز على لبنان وهو وصف صحيح مع بعض الاختلافات، لأن غزة ليست الجبال المنيعة للجنوب ولا “حماس” “حزب الله”، فالفارق كبير في الارض والعمق الجغرافي والعقيدة والتنظيم العسكري والخبرة والروح القتالية، كما أن “حزب الله” استفاد في حرب تموز من خطوط إمداد تصل حتى إيران (في مقابل الخنق المحكم لغزة) ومن التضامن اللبناني الذي تمثل أولا في التضامن الشعبي مع النازحين ثم في حكومة وطنية تمكنت عند تأزم الأوضاع من أن تفاوض كفريق واحد على وقف النار وانسحاب قوات الاحتلال وما تبعه من إرسال القوات الدولية بموجب القرار 1701.
لهذا السبب ربما أن ما يحصل في غزة اليوم قد يكون أقرب في استراتيجيته وأهدافه الميدانية إلى الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982 والذي أدى إلى تدمير البنى التحتية العسكرية لمنظمة التحرير وتعقيمها كليا كتهديد عسكري. وهذا ما لم تستطع إسرائيل تحقيقه في حربها على “حزب الله”. أما مصير “حماس” كقوة سياسية على الارض فقد لا يحسم بالضرورة لأن إسرائيل التي تتهرب من مواجهة استحقاق السلام يهمها بقاء السلطة الفلسطينية في حالة من الضعف عبر تشجيع الانقسام الفلسطيني وثنائية غزة – رام الله. كما أن عملية الاستئصال السياسي تتطلب عملا حربيا أصعب بكثير وقد لا تكون تل أبيب راغبة فيه أصلا لأنه عمل مكلف ولا مردود حقيقيا له.
يبقى القول إن الحرب الجارية على غزة كشفت التبعات الخطيرة للعزلة التي حُشِرت فيها “حماس” منذ استيلائها بالقوة على قطاع غزة وطردها السلطة الوطنية وتصفية مؤسساتها الإدارية والسياسية والأمنية والإعلامية. وقد فاقم من هذه العزلة ربط “حماس” مصيرها ومصير قطاع غزة بحلف إقليمي يمثل في حد ذاته تحديا كبيرا للمنطقة العربية وللنظام السياسي الدولي الذي يرعاه الغربيون. وهذا في وقت لا تملك فيه الحركة أي عمق جغرافي يمكنها من تحويل ذلك الارتباط إلى قوة استراتيجية كما هي حال “حزب الله” في لبنان. إذ أن القوى التي ارتبطت بها الحركة لا تستطيع في الظروف الحرجة التأثير على الوضع الميداني في القطاع علما أن الميدان هو الذي يحسم الأمور في نهاية المطاف.
لكن ومهما كانت مسؤولية “حماس” فإن من غير الجائز بالتأكيد إلقاء اللوم عليها أو على مجاهديها الآن وفي وقت يتعرض القطاع المظلوم إلى إحدى أشرس عربدات القوة والتدمير المنهجي، فغزة و”حماس” تحتاجان اليوم إلى حشد كل أشكال التضامن العملي المالي والإنساني من العرب حكومات وشعوبا، لكن الصحيح أيضا هو أن “حماس” وحلفاءها أخطأوا في الانزلاق إلى أسلوب الاتهامات والمهاترات في هذا الوقت العصيب الذي يحتاج فيه القطاع إلى استقطاب التأييد والتعاطف من كل حدب وصوب. واللافت أننا نجد أوجه شبه عديدة بين حملات التخوين التي انطلقت لمناسبة العدوان على غزة وبين الجو المتشنج والاتهامي الذي اثير في لبنان بعد عدوان تموز كأن المطلوب دوما هو قمع أي محاسبة وحرف النقاش عن مساره واستباق المصارحة بإلقاء التهم يمينا ويسارا. علما أن تلك التهم دائما ما تصوَّب على أول من يرجى تأييدهم ودعمهم وهم الاشقاء وأخوة الوطن الاقربون الذين لم تكن لهم علاقة بما يحدث ولم يستشاروا فيه أصلا.
من ذلك مثلا الهجوم العشوائي على “الانظمة العربية” و”أصحاب العروش” وقد خصت “حماس” – المحاصرة! – الدول العربية ومصر بالذات بقسط كبير من اللوم والإهانة غير الواجبة ولا المبررة أصلا في وقت ترتفع فيه عقيرة المحتجين في كل مكان مطالبة بالوحدة الفلسطينية وبالتضامن العربي وفي وقت تحتاج فيه “حماس” أكثر ما تحتاج إلى مصر وإلى علاقات طيبة وتنسيق يومي معها ومع الحكومات العربية لمواجهة النتائج الكارثية (الحالية والمقبلة) للعدوان البربري المتمادي.
وما يقلق فعلا هو أن هجمات الجملة على “الأنظمة” (لماذا لا يسمونها؟) تكاد تصبح التعبير الموارب عن ضغينة مستحكمة بل تحريض عنصري ضد العرب قد يكون مصدره التصادم المتزايد بين بعض الدول العربية الرئيسية وبين الجمهورية الإسلامية الإيرانية وحلفائها في المنطقة. ولا يُحتجّ بالقول هنا أن الهجوم العنيف مقصود به الأنظمة وليس الشعوب، لأن هذا الفصل اعتباطي أولا وغير مقبول ولأن المطلوب في النهاية هو التعامل مع الحكومات القائمة بغض النظر عن أدائها، وهذه الحكومات هي التي هبت إلى مساعدة لبنان والجنوب بسخاء بعد حرب تموز كما أنها هي التي يفترض أن تهب إلى مساعدة قطاع غزة وإعادة إعماره بعد انجلاء العدوان البربري على القطاع.
خلاصة القول أنه لا يمكن لأي حركة تحرير مهما كان تفانيها أن تنجح إن هي أهملت بناء الوحدة الوطنية أو فشلت في تحقيقها، أو إن هي تحولت عن مهمة المقاومة إلى التصرف كسلطة قهر لجمهورها أو كحركة فئوية منقطعة عن محيطها الأوسع وهو المحيط العربي الذي كان وسيبقى على الدوام الخزان البشري والاقتصادي والعسكري والاستراتيجي لمواجهة إسرائيل.
ولنتذكر في هذا السياق – لعل الذكرى تنفع – المثال المجيد لحرب تشرين في العام 1973 وهو الإنجاز التاريخي الذي كاد أن ينهي إسرائيل عسكريا لولا الجسر الجوي العاجل الذي أقامته الولايات المتحدة الأميركية في سعي مستميت لإنقاذ الدولة العبرية من الانهيار. مع الأسف نتحدث كثيرا عن الانتصارات ونغفل متعمدين – اعتمادا على قصر ذاكرة الناس – هذا الانتصار العسكري العظيم الذي تحقق بفضل التعبئة العسكرية الماهرة والاستراتيجية الخلاقة ووحدة القصد والقيادة التي جمعت بين مصر وسوريا جناحي العرب الرئيسيين.
وفي تاريخ العرب والمسلمين أمثلة عديدة على معارك فاصلة وانتصارات مجيدة وحاسمة على العدوان الخارجي تتريا كان أم صليبيا أم غربيا. لكن في كل تلك الانتصارات توافر للأمة دوما قيادة واحدة ملهمة تمكنت من توحيد أمصار العرب والمسلمين أولا ثم استنهاضهم للجهاد واستيعاب اختلافاتهم ثم تكوينهم في جيوش عظيمة بالغة التسليح والتدريب قبل المواجهة الفاصلة مع العدو. ولم يذكر التاريخ أن حركة منشقة أو مجموعة متمردة في أي من أمصار المسلمين تمكنت من كسب معارك كبرى أو ترك اثر شامل يذكر اللهم سوى الإساءة إلى وحدة الأمة وقضيتها وإرباكها في حقبات الانحطاط والتفكك والعهود الغاربة لملوك الطوائف.
(كاتب )