علامة التساؤل في عنواني تعبّر عن حالتي الفكرية المتهتكة في الأيام القليلة الماضية.
أنا عربية، لذا، لزاماً أن أخذ موقفاً، أبيض أو أسود، مع أو ضد.
علماً بأنه: اذا كنت مع أهالي غزة فأنا مع حماس.
واذا كنت ضد حماس فأنا مع اسرائيل.
ولكن… أنا مع اهالي غزة، ضد حماس واسرائيل، هل تصلح هذه المعادلة؟
أضف الى ذلك أن الكثير من الكويتيين لا يزالون يحملون جراح الغزو التي رش الفلسطينيين ملحاً حارقاً عليها في ذلك الوقت، هناك موقف متصلب حالي يخلو من التعاطف بسبب هذا الملح الحارق.
لا يوجد طريق واضح، والمعادلة صعبة.
الفكرة من أولها.
ان كل الدول أو التنظيمات السياسية التي تقوم على منهج فكري فلسفي أو أخلاقي موحد وبقوة العصا تنتهي الى أن تكون تكوينات، سواءاً كانت كبيرة بحجم الدول أو صغيرة بحجم التنظيمات السياسية داخل الدول، قمعية، متهورة، تعتمد الغيبيات والروحانيات في اقرار برامجها السياسية، هي تكوينات متطرفة في قراراتها بحكم نظام تفكيرها، فالحق ها هنا والباطل ها هناك، هي تكوينات اما أبيض أو أسود، بينما السياسة بطبيعتها الملونة الملتفة لا تتحمل مثل هذه القطعيات والتصلبات الفكرية. هذه التكوينات لا تتعادى والسياسات العامة فقط، ولكنها كذلك تتعادى مع الأفراد وتوجهاتهم بحكم أنه ليس كل البشر متساوون. نحن بشر، نختلف عن الحيوانات بأننا لا نستيطع السير في قطعان وأسراب لمدة طويلة دوت أن تتغير الآراء والأهواء فيترك القطيع البعض، ويحتج الآخر، ويثور غيرهم، وفي الغالب يكون لهؤلاء المخالفين لرأي القطيع كل الفضل في تطوير المسار. لذا نحن نختلف، لذا نحن أعلى المخلوقات على هذه الأرض، ولو انها معلومة متشكك فيها مؤخراً لمن يعيش وسط الأحداث في الشرق الأوسط.
التكوينات صاحبة النهج الفلسفي القمعي، أياً كان هذا النهج، لا يمكن أن تحصد سلاماً أبداً، لأنها بطبيعتها ترفض اختلاف الغير، وهذا الاختلاف طبيعة بشرية بحتة لا يمكن فصلها عن تكويناتنا.
مثال، أنا أعد نفسي ليبرالية الفكر علمانية الهوى، ولكنني أعتقد أنني سأختنق قهراً لو أنني أعيش ضمن تكوين ليبرالي علماني ديكتاتوري يمنعني من اظهار أي توجه ديني أو الحديث المسموع أو المكتوب عن أي فضيلة فلسفية ثيولوجية. سأشعر وقتها بذات القمع الذي أشعره وغيري في دولة شبه دينية نعيش فيها اليوم، حيث تروع فيها خلق الله سياط الشباب في الشوارع (خبر الأمر بالمعروف أمام المعهد التجاري في “القبس”، الثلاثاء 30 ديسمبر)، وحيث تمنع فيها مظاهر الفرح ويواجه فيها الناس المطبوعات الدينية التي تحمل آلاف الأدعية للدخول والخروج والركوب والنزول والصعود والهبوط، وآلاف غيرها للعن الكاشفة والناتفة وآلاف أخرى تحمل فتاوى هي من أغرب ما سمعنا كنتاج لفكر بشري مريض. كل الأنظمة التي تفرض فكراً أخلاقياً على شعوبها أنظمة قمعية، عنيفة، مريضة تفقد ولاءات أصحابها تدريجياً وتجر الناس لمفترق طرقات متضادة قد يؤدي الاختيار عندها الى أن يفقد الانسان حياته أو أخلاقه أو كليهما معاً.
مقدمتي هذه كانت لالقاء نظرة شاملة على الوضع القريب حولنا.
لأبدأ باسرائيل حتى لا يغضب ثوارنا هذه الأيام والذين يتجمعون في ساحة الارادة رافعين النعال خافضين الشتائم على رؤوس اليهود ثم… يا دار ما دخلك شر. اسرائيل دولة قمعية ونظامها فاشي بحت، لماذا؟ ليس لأن مواطنيها يهود بل لأنها تقوم على نظام ديني موحد، لأنها تأخذ كلمة الرب، كما يفرضها الحاخامات، وتبني عليها سياسة دولة. المشكلة ليست في يهودية مواطنيها، المشكلة في يهودية سياساتها. هي تنكل بالفلسطينيين تنكيلاً مروعاً يجعلنا نتساءل عن انسانية الاسرائيليين بالدرجة الأولى، فهم بشر لابد أن يتأثروا ولو قليلاً بمنظر الأطفال المفلوجة رؤوسهم والمنزوعة أطرافهم تحت الأنقاض، ولكن لا، لماذا؟ لأنهم يتبعون نظاماً روحانياً مغالياً قد تم “تطريفه” ليصبح خادماً لسياسات اسرائيل الدولية. لذا فان الاسرائليين الذين يشاهدون اطفال غزة يتساقطون تنهزم انسانيتهم في داخلهم أمام مشاعرهم الدينية، فتخف عذابات الضمير والتعاطفات الانسانية بفعل التوجيه الديني المتطرف المروع. دولة احتجزت الله والحق عند حدودها، دولة ملكت مفاتيح الجنة والنار، لذا، تأتي قراراتها صارمة متوحشة متطرفة لا انسانية، لأنها أودعت انسانيتها عند بوابة الحاخامات وابتغت الجنة الموعودة على جثث اعدائها الذين يعادون قيام الوطن الموعود.
ولكن مهلاً، لسنا بأفضل حالاً والله. لسنا أحسن من صهاينة اسرائيل بشيء، وما ابتدائي بهم الا دعوة من قرائي لإنهاء مقالي، تزلفاً يعني بصريح العبارة. حزب الله وحماس تكوينات سياسية استخدمت منهاجها الفكري لتعلي صوتها فوق صوت دولها الضيعفة وأحياناً الفاسدة. تكوينات دينية تعد أصحابها بالنصر الالهي وجنات الخلد كثمن لاتباع قرارات سياسية طائشة لا تمت للعبة السياسة الحديثة بصلة. اسرائيل تفعل ذلك، ولكنها محمية بموقفها السياسي القوي وبدعم كبرى الدول لها، هل هذا عدل؟ بالطبع لا، ومتى استتب العدل في الدنيا؟ ولكننا لسنا بعارض التباكي الآن على العدل والظلم، لا نريد أن نلطم الخدود ونشق الجيوب. فلنعِ موقفنا تماماً، نحن الطرف الاضعف، لا عدة ولا عتاد ولا تمويل ولاخطط ولا استراتيجيات ولا تطور، بل ولا حتى عدة بشرية قادرة، وفوق كل هذا نجحنا بشكل مذهل في استقطاب عداءات العالم أجمع، وشكلنا صورة غوغائية لأنفسنا تجعل المعظم، بالرغم من تعاطفه النسبي مع أطفالنا، يتمنى لنا ابادة تامة حتى تتسنى بداية جديدة نظيفة لمنطقة الشرق الأوسط المنكوبة بأهلها وتطرفاتها وأمراضها الفكرية.
نحن في قاع الهرم، نقذف الأحجار على أعدائنا المتمركزين في أعلاه، أحجاراً تنتهي مرتدة على رؤوسنا. مساكين نحن، أكيد، ولكننا مساكين بشكل كوميدي بسبب تخلف سياساتنا وغباء منهجياتنا التي لا تريد أن تتعامل وواقعها بل تريد التعامل مع مثاليات لا وجود لها مرتكزة على وعود دينية هلامية وروحانيات لا تغني ولا تسمن ولا تطبب. حزب الله تحرك ضد اسرائيل تحركاً بسيطاً عسكرياً، فكانت النتيجة أن دكت البنية التحتية للبنان، بينما يحتفي حسن نصر الله وجيشه بالنصر الالهي وببالونات ملونة في الضاحية الجنوبية، ليتبع ذلك تصريح السيد بأنه لو علم برد فعل اسرائيل لما أقدم على خطف الجنديين، وهو تصريح غريب من سياسي محنك، لتأتي بعدها حماس وترمي بصواريخها البدائية باتجاه اسرائيل، بالرغم من الدروس العديدة السابقة وآخرها درس لبنان الفاجع. تحرك عسكري بسيط آخر يحمل رائحة اليأس من الدنيا وابتغاء الشهادة في الآخرة. وأثناء تلك الاعتداءات المتهدلة، وحيث كانت اسرائيل تطلق تصريحاتها بأنها لا زالت تمارس “ضبط النفس”، أتذكر أنني كنت أسر الى نفسي “الله يستر، ضربة اسرائيل قادمة، فنحن أعلم بضبطهم لأنفسهم هؤلاء الخرقى”. أنا، لا أمارس سياسة احترافية ولا ألم بواطن الأمور. ولكنني توقعت مثل آلاف غيري الضربة القادمة. ومع ذلك أكملت حماس باصرار رش عدوها الأخرق بالماء، ليرشها بالمقابل بالنار!! ثم يأتي البكاء بعدها والعويل على ما أصابنا. انها الترسانة الدينية المتخاذلة التي تقود هؤلاء الشعوب لنهايتهم. فكر أيديولوجي موحد لا يقبل النقاش. فاما الاستسلام واغضاب الله وممثليه هذه الأيام في الدنيا، واما الشهادة الجماعية.
لا يا سادة، هناك خيارات أخرى.
ليس من الضروري أن نموت نموت ويحيا الوطن. يحيا لمن ان كنا كلنا ميتين؟ ألسنا نحارب اسرائيل بعقلية دينية وحدوية النهج تدعو للقضاء على اليهود كما يحاربوننا هم بعقلية وحدوية للقضاء على أعداء اليهود واقامة الدولة الخالدة؟ الفرق، الفرق واضح يا ناس، نحن أسفل الهرم وهم أعلاه. هل هذا يعني أن نظل نرشهم بحجارة ترتد سقوطاً على رؤوسنا؟ هل تعلمون أن اليابانيين هم مخترعو المقاومة الانتحارية؟ لا يخفى على احد أنهم استخدموا هذه الوسيلة عند الهجوم على ميناء بيرل الأمريكي والذي نتج عنه رد فعل أمريكي أرعن بالقاء قنبلتين ذريتين على الأراضي اليابانية في 1945. ماذا فعلت اليابان بعدها؟ هل أوقفت القتال؟ في الواقع اليابان اعترفت بالهزيمة، وعانقت ماضيها وداعاً ولكنها أصرت على مواصلة القتال وذلك بما توافر لها من وسائل متخلية تماماً عن الاسلوب الانتحاري الذي أوصلها لأن تكون أول أرض تتذوق طعم القنبلة النووية. لم تلتفت للمشاعر: العار والحزن والغضب، بل التفتت للوسائل فكانت حربها طويلة، عميقة هائلة، كانت حرباً علمية لم تؤت ثمارها على وقت قصير، ولكنها أتت ثماراً صحية رائعة المذاق ليابانيين، علقميته للأمريكيين. تلك حرب هائلة خمدت سريعاً لأن وقودها لم يكن نهجاً دينياً، لأن العقل والمنطق غلبا مشاعر الغضب والعار والرغبة في الثأر، تسامت اليابان على مصابها، وهي الطرف المظلوم، وتابعت طريقها، ولو أنها لم تفعل لكانت لا تزال ترزح تحت نيران الحرب الثقيلة وتوابعها المرعبة من فقر وتخلف وتشرذم.
هل يمكننا أن نحول مسار المقاومة ونغير من اسلوبها كما فعلت اليابان؟ هل يمكن أن نغير من سياساتنا العشوائية؟ لا، والسبب أن القيادات الحالية لا تتصرف وفق خطط سياسية عسكرية مدروسة، بل وفق مذاهب روحانية تعدهم النصر في آخر الزمان، شهداؤهم في الجنة والنصر حليفهم، كل ما عليهم هو أن يستمروا في القاء المزيد من البشر في طاحونة الدماء ويسلموا أمرهم لله. في الواقع لم يتوقع أياً من ساسة بداية القرن أن يستمر الصراع الاسرائيلي الفلسطيني كل هذا الزمان، حيث كان من المتوقع أن يجد الفلسطينيين والاسرائيليين سبيل للتعايش ليتوقف هدر الدماء بين الطرفين، أي أن ساسة بداية القرن راهنوا على حب الحياة المتأصل في البشر لايقاف هذه الحرب، ولكنها استمرت، لماذا؟ لأن الطرفين يفكران بعقلية واحدة متشابهة بغض النظر عن الطرف الظالم والمظلوم، فليس لتعريف المعتدي والمتعدى عليه من تأثير أو أهمية في عالم السياسة الصارم الذي لا يحمي الضعفاء والمغفلين. الطرفين يتصارعان صراع ديني قديم منذ أمد الدهر، كلاهما يرتكز على وعود الكتب بالأرض الدينية الخالدة والنصر المبين، لذا يستمر الصراع المرير باسم الدين، فلو كان لأحد الطرفين منهجية مختلفة، لحلت المسألة منذ أمد، لكنه التفكير الموحد الذي يجعل كلا الطرفين مؤمناً تماماً بانتصاره طبقاً لكتبه الدينية التي تعده نصر آخر الزمان. اسرائيل بلا شك هي الطرف المعتدي منذ بداية القصة، فهي التي أتت بوعود أوروبية وبمنهجية تعويضية عن المذابح النازية فاتخذت من أرض فلسطين موطناً، وهذا الاختيار تمركز بالطبع على أساس ديني. ثم جاءت الردود العربية مرتكزة بعد حين من الايمانيات القومية على أساس ديني مضاد. لا تفكر الأحزاب الدينية القيادية بنتاج تحركاتها لأنها تعتد النصر الالهي الموعود، هي تبعث بشبابها للقتال دون رؤية ولا منهجية فان أفلحوا فذلك ما وُعدوا به وان لم يفلحوا فهم في جنات الخلد يصبحون. وهكذا تدور الساقية بهؤلاء الشباب، ولا أدري ما فائدة ارسالهم لجنات الخلد، ما الذي يحققه لنا على جحيم أرضنا اهدار دمائهم بلا مردود ولا تخطيط.
لنكن واقعيين. ما الذي استهدفته حماس من القاء ستة صواريخ بدائية على اسرائيل أسفرت عن مقتل امرأة؟ ليفهمني أحد الغرض السياسي من هذا التحرك. هل لحماس خطة واضحة مدروسة؟ هل قرروا ارسال هذه الصواريخ في حركة لوجيستية مخططة قد تم وضع توقعات لها وخطوات أخرى تتبعها؟ فيما يبدو، هم أرسلوا هذه الصواريخ بناءاً على مبدأ روحاني مبني على ايمانيات لا يقيمها العالم في ميزان السياسة العالمية. ان الحقد المنصب على الاسرائيليين اليوم حقد ديني وليس قومي، ونداءات الفضائيات والاعتصامات خير دليل، الجميع ينادي بنصرة اخواننا المسلمين في غزة الذين يقتلهم اليهود والجميع يدعوا غزة أن ترابط فالنصر الموعود قادم. اذن هي حرب دينية تحتاج للمزيد من الشهداء. قد يقول البعض أن الصواريخ الحماسية الأخيرة هي صواريخ يأس واحتجاج على أوضاع غزة المأساوية، هو تحرك يائس من تنظيم سياسي أُسقط في يديه، ان كان الحال كذلك، فهو الفشل بعينه، فعالم السياسة لا مكان فيه للتحركات اليائسة المضطربة، لن ينقذ أحد غزة أو يشد على يد حماس لأنهم وصلوا الى طريق يائس مسدود، منذ متى دخل اليأس في منظومة اللعبة السياسية؟ منذ متى هو مصدر للخطط والأفعال الحزبية؟
ها نحن من هزيمة الى أخرى ومن مذبحة الى غيرها، والسبب أننا نرد على العجرفة الدينية الاسرائيلية اليهودية بعجرفة دينية اسلامية، الاسرائيليون يستطيعون تحمل تكلفة عجرفتهم، ونحن لا نستطيع. ولنعترف، لو كانت دولنا هي الدول المتقدمة والمتمكنة حربياً، واسرائيل هي الدولة المتهتكة المحاطة بأعدائها، لضربها المسلمون كما تضرب اسرائيل اليوم متمترسين خلف وصايا رجال الدين ونصوص وتفسيرات اسلامية تحث على محاربة اليهود أعداء المسلمين، ابناء القردة والخنازير الذين ستدل عليهم الأشجار التي يختبئون خلفها. أليس هذا ما كان سيكون لو كان الوضع معكوساً؟ ألم يضهد العرب المسلمين اليهود على فترات طويلة من التاريخ في المناطق العربية المختلفة؟ بل ألا يرى العرب في هتلر والى اليوم قائداً مقداماً لاقدامه على ذبح ملايين اليهود في ألمانيا النازية بل ويتباهون بكتابه “كفاحي” على رفوف مكتباتهم في دعم واضح لنهجه الوحشي ضد اليهود؟ يدنا جميعاً في ذات النار، وكل الأطراف تحارب على نفس الوتيرة…الوتيرة الدينية التي بسببها لن يهدء الطرفين الى أن يبيدوا بعضهم بعضاً، وغالباً ستبدأ الابادة بالطرف الأضعف…العرب.
لا أحمل على شخوص الأحزاب القائمة. فيا هلا بحسن نصر الله لو أنه ترك عمامته (معنوياً) في بيته. ويا مرحباً بهنية لو أنه خلف لحيته (معنوياً) في داره. سنشد على أياديهم متى ما رتبوا منظومات سياسية واضحة لا تقوم على روحانيات انتصارات أخروية. أتفهّم تماماً كيف يقوي الايمان العميق الانسان ويشد من أزره ويعينه على مقاومة أعدائه، ولكن في عالم السياسة المعاصر، لم يعد للحروب الأخلاقية الدينية مكان. لا يوجد نصر سماوي تساعد فيه الملائكة، فهذه ايمانيات معنوية يمكن لكل محارب أن يحملها في صدره لتثبت قدمه فيما أمامه من معارك، ولكن لا يمكن بأي حال من الأحوال استخدامها كخطة عسكرية محكمة لتحقيق النصر. لا يمكن ارسال صواريخ وكشف غطاء مدينة منكوبة على أساس من أننا معصومون من اليهود والنصر موسوم لنا والملائكة ستحارب في صفوفنا. قد يأتي النصر المبين اليوم؟ لا ندري، لنرسل الصواريخ ونرى. تلك ليست خطة، هذا تهدل سياسي وعشوائية عسكرية تمثلت في المدينة نفسها حيث عشوائيات غزة التي يعاني أهلها الفقر والدمار والضياع، ولا يزالون يفقدون كل يوم أبنائهم، بيوتهم، حياتهم وانسانيتهم، جزء بعد جزء، يوم بعد يوم. ليضع القادة السياسيين اليوم خطة واضحة ولو كانت بطيئة ليس في طياتها نصر الهي ولا استشهاد ولا حور عين، ولترتكز على أساس سياسي ولوجيستي يعمل على حقن دماء أبناءنا المحاربين بالدرجة الأولى وحفظ أرواحهم وتقليل الخسائر لأقصى درجة ممكنة، وليس القفز العشوائي في مكينة الحرب بانتظار تباكي بقية العالم الاسلامي معنا على شهداء خلفونا في تعاستنا لعوالم السعادة الأبدية.
ومن هذا المنطلق الديني، تتجلى لنا مصيبة اخرى. اليوم، فقد الكثير من العرب الحس القومي، وبالأخص الكويتيون الذي صدموا من ردود أفعال الكثير من جيرانهم ابان الغزو العراقي. هذا واقع لا يمكن نكرانه أو التحايل عليه. لذا، فان التأييد الفلسطيني من الكويت والدول العربية قائم بشكل رئيسي على أساس اسلامي وليس قومي ولا حتى انساني. “الملتزمون دينياً” لديهم ما يجمعهم بأهالي غزة: حزب سياسي اسلامي يحمل راية الدين في حربه، أما الذين لا يستخدمون الحس الديني كالمقرر الأوحد لتصرفاتهم ومشاعرهم فنرى أنه لا يجدون أرضية مشتركة لمؤازرة الغزاوين الذين سبق أن نثروا الملح على الجرح الكويتي، فلا مشاعر قومية عربية ولا تأصيل للحس الانساني الذي يرتفع عن الأخطاء السابقة ولا حتى توعية سياسية تبين أهمية هذه المساندة التي يجب أن تتعالى عن الضغينة، فعلاقات الشعوب يجب ألا تحكمها ذات مشاعر الغضب والضغينة التي يتداولها الناس بشكل يومي بينهم وبين أهلهم وأصدقائهم. عندما دار النقاش بين المدونات عن غزة، بعث لي أحدهم بعنوان مدونة تضع صور أهالي غزة يرفعون صور صدام ويناصرونه ابان الغزو العراقي ثم الاحتلال الأمريكي في محاولة لاستجواب تعاطفي مع غزة الذي يبدو أنه (هذا التعاطف) فتح الجرح الكويتي القديم. أحبهم وأتعاطف من قلبي مع كل واحد من أهل غزة وأغفر بكل طاقتي النفسية لرافعي صور صدام، فقبل أن ننزل عليهم جام غضبنا لنتساءل ما الذي دفعهم لهذا التصرف الجاحد؟ لقد أفقدنا فقد الكويت لمدة سبعة شهور عقولنا واختلت الكثير من الموازين حولنا بما فيها الموازين القومية، فما الذي يفعله الاحتلال بشعب على مدى قرن من الزمان، ألا يخطئوا الحكم وتغيم الرؤية لديهم؟ ألم يعدهم صدام بالنصر وهو شعب يتعلق بقشة، ثم أليس هذا التأييد الصدامي مبني على أساس ديني؟ أليست حماس، التي تلهب الناس دينياً اليوم، هم من أهم مناصري صدام بالأمس؟ عدم مؤازرتهم لصدام فيه خروج عن تعاليم الحزب الديني، يعني اما مؤازة صدام و”اخواننا المسلمين في العراق” واما نار جهنم، فما المتوقع من هذا الشعب؟ والله ان قلبي لمعهم وأتعاطف بكل مشاعري الانسانية مع قلوبهم المثقلة بنار الاحتلال الاسرائيلي ونار التخويف الحماسي. ولكن اسلاميينا لهم موقف آخر، هم لا يمانعون أن دفعت حماس بهؤلاء البؤساء دفعاً لمناصرة صدام، حماس حزب اسلامي؟ اذا حي على الجهاد ولنرفع النعال على الطريقة الطبطبائية لمواجه اسرائيل، والوقوف مع الاخوة الحماسيون ويا له من اسلوب عربي أصيل.
وحزب الله. الكل وقف مع الحزب في 2006 لأنه وبالدرجة الأولى حزب اسلامي في تناسٍ مخجل لدور أعضائه البارزين في الكثير من القلاقل المحلية. لكن الحب والغزل استمر بين اسلاميينا وحزب الله وأصبحوا، كما حماس، هما منطلق المواجهة مع اسرائيل سواءاً مادياً او معنوياً، بمعنى أن تكون ضد اسرائيل، فأنت مع حماس وحزب الله. وأي انتقاد لهاتين الميليشيتين يعني مناصرة لاسرائيل وتكالباً على الشعوب المنكوبة. نحن نحب حماس وحزب الله لأنه يحاربون “اليهود” أعداء المسلمين، ليس مهماً مواقفهم المسبقة، وليس مهماً دفعهم للشعوب اليائسة المنكوبة لمناصرة أعداء الكويت في وقت مضى. اليوم هم يحاربون “اليهود”، اذاً هم جنود الله، فلنناصرهم ولتسيل الدماء حتى تغرق غزة وجنوب لبنان، يوماً ما…يوماً ما بعيد… سيأتي نصر موعود. يعني المسألة لا تتعلق بفكر واسلوب هذين التنظيمين السياسيين، لتكن لهم مواقفهم السياسية العجائبية أياً كانت، المهم…أن يكونوا أعداءاً لليهود. يا لها من مشكلة عويصة، فالطريق الوحيد المفتوح للتعاطف من الشعب الفلسطيني هو الطريق الديني، وهو ذات الطريق الذي تباكى على صدام وأيد ضمنياً وعلنياً غزوه الغاشم. الكويتيون بطبيعهم شعب متعاطف ثري المشاعر، لكنه لا يعرف اليوم كيف يوجه مشاعره. فهو اما توجه ديني، لذا فالتأييد والمحبة والكره والغضب كلها مشاعر مبرمجة دينياً. أو، أن ينخفض الحس الديني وبغياب الوعي السياسي والحس القومي والثقافة الانسانية المتطورة، لا يصبح هناك ما يجمع هؤلاء بالغزاويين. فاما الانتصار لهم دينياً وهذا يتضمن انتصاراً لأحداث ماضية مفجعة، أو اهمال تام لهذا الشعب ومعاقبته على ما سلف دون ادراك لكون هذا الشعب ضحية خطاب ديني متطرف يذهب ضحيته كذلك أهل لنا بين ظهرنينا في الكويت نفسها وكل يوم. فلا المنتصرون للأحزاب الاسلامية يتذكرون موقفها في يوم من الكويت، ولا المتذكرون الغاضبون مدركون أن هذا الموقف ليس انسانياً، بل ان دوافعه أيديولوجية دينية بحتة. هذا ما فعله النهج الديني المتطرف متواصلاً بأحداث سياسية قاسية، انقسمنا نحن أنفسنا على أنفسنا، فأصبحنا لا نؤيد سياسات وانسانيات، بل توجهات دينية، او…لا شيء…لا شيء يهم.
أعداؤنا ليسوا اليهود يا سادة. أعداءنا هم الاسرائيليون، هم تلك الحركة السياسية الدموية التي تصطبغ بالدين. ومقاومتهم قد لا تكون باتخاذ موقف ديني مضاد متطرف. قد يكون في محاسبة حماس وحزب الله ومساءلتهم مناصرة للشعبين اللبناني والفلسطيني ومنهج مقاومة ناجع لوحشية اسرائيل التي لا تقترب من أي منطق انساني. ان ما يفعله كلا الحزبين باسم الدين ليشجع الرد الديني اليهودي المقابل في تشغيل دائم لآلة القتل الدينية. آلة يستفيد منها الاسرائيليون كثيراً، ونخسر نحن في رحاها كل يوم. انها حرب ستدوم دوام فكرنا ومنطقنا، وأنا هنا أقولها بوضوح. لست بصدد تكذيب الفكر الديني، بل ان استخدامه لتعزيز شجاعة المحاربين وتمكينهم من الصبر والمرابطة وتهدئة نفوسهم لهو سلاح فعال حقاً، ولكنه سلاح نفسي يستخدم على مستوى الأفراد وليس سلاحاً سياسياً ترتكز عليه الخطط الحربية.
كفاكم بالله، ترمون أهلكم في نيران حرب ليس لهم بردها أو حتى مقاومتها. حرب تخلفهم فقراء جائعين مسلوبي الكرامة مهدوري الدماء مشتتي الأهل، تنقطع روابطهم الانسانية وتتفكك عائلاتهم، ومع موت كل ابن أو بنت أو أب أو ام أو قريب أو حبيب، يموت جزء من نفوس هؤلاء البشر. لقد استعذبوا الموت والدماء، واستعذبنا معهم الشعور الدائم بالتخاذل والذل وعذاب الضمير.
أتذكر أن مشاهد مجزة قانا 2006 تركتني مسهدة ليال كثيرة بجانب فراش صغيرتي ذات الأعوام الستة، أحتضنها بعيني تطحنني عذابات ضمير لا تنتهي ومشاعر تخاذل وهوان وذل…لا أستحقها. لم اقدم على شيء ولم أؤيد أي سياسة دموية، لم أعادي الجنوبيين يوماً لأن منهم من ينتمي لحزب اعتدى أعضاؤه في يوم على بلدي. ولم أكره الفلسطينيين بمجملهم لأن لبعضهم موقف جاهل مؤيد لنظام صدام البائد. أؤيد قضيتهم العادلة وأقف معهم بكل ذرة في نفسي وقطرة في دمي، وأجر قلبي للعفو عمن رفع شعارات تأييد صدام مذكرة نفسي بانسانيتهم المعذبة على مر سنوات طويلة مريرة، متمنية عفو غيري عن أخطاء كويتية سابقة مثل سنوات الدعم القوية لصدام وخصوصاً في حربه الايرانية التي أودت بالملايين من الايرانيين والعراقيين. بودي أن أساعد، لا أعرف كيف، فالمساعدة اليوم تعني الانضمام لترسانة حرب دينية لن ألوث عقلي فيها ولا لثانية. فالخطابان الانساني والقومي هزيلان في عالمنا العربي اليوم، هما خطابان أُخرسا بقوة وعاطفية الخطاب الديني المهيمن. أعاني مثل غيري الكثيرين من مشاعر ذل وانهزام ويأس، لا نستحق أن نعانيها، لسنا من تسبب فيها. ولكننا كما اخواننا اللبنانيين والفلسطينيين نتحمل تبعاتها، طبعاً على درجات ومع الاعتذار عن المساحة الشاسعة الاختلاف للمعاناة. هم يتحملون الويل والدمار والتشرد، ونحن نتحمل عذابات الضمير والذل والمهانة، والشعور بأننا خائنون لأننا لا نريد أن ننضم لهذه الحرب الدينية الدموية… في النهاية كلنا ضحية…الترسانة.
قد يتطلب الحل ضغط على الكرامة. اعتراف بالهزيمة وقبول أنصاف حلول الى أن يلتئم بعض الجرح ويتجمع شتات الشعب. لا نريد ردود فعل دينية رحم الله أيامكم ولياليكم, لا نريد انتصارات وهمية، نريد خططاً محكمة واضحة المعالم. لا نريد استفزازاً لعدو همجي متوحش قائم على أساس ديني هو الآخر مستعد ليموت من أجله. بحق الله الذي تتقاتلون جميعكم باسمه، كفى. خطابي هذا لأهلي في فلسطين ولبنان وغيرها من الدول المنكوبة بقياداتها الدينية. لن ينفع هذا الخطاب مع اسرائيل لأنها منتشية بانتصاراتها الدموية. هي أعلى الهرم الآن، لا تسمع الصوت الهزيل الذي يطلب منها التعقل في وقت انتصارها الدموي المدوي. هذا الخطاب لمن هم أسفل الهرم، لمن تقتله حربه الدينية كل يوم. تلك حرب يستطيع كلفتها المقتدر مثل اسرائيل، لا نستطيع كلفتها نحن. هي في الحالتين حرب تقوم على روحانيات لا تمت للواقع السياسي بصلة. هي في حالة اسرائيل مسنودة، وفي حالتنا منكوبة. كفى، بحق الله الذي تدعونه لاراقة المزيد من الدماء، كفى.
toto@muzaffar.com
* كاتبة وجامعية كويتية
أن تكون مع غزة.. وضد حماس وإسرائيل؟
I totally I agree with you. People like you make me believe that there is always hope and that not all the Arabs are hypnotized.
أن تكون مع غزة.. وضد حماس وإسرائيل؟
GO AHEAD PLS Israeli Air Force
أن تكون مع غزة.. وضد حماس وإسرائيل؟ألى الكاتبة ابتهال الخطيب، النقد الذاتي الخطوة الأولى للتصحيح والنجاح في المستقبل. ومقالك هذا عقلاني ويسلط الأضواء على حقائق يعرفها الجميع لكنهم لا يعونها. أنهم يسيرون بتأثير الأيديولوجيا الأسلامية كالمنوّمين مغناطيسيا، حيث يتم الغاء العقل وتقييم النتائج. لكنني اودّ أن أسلط الأضواء على حقيقة لا يعرفها العرب ويتغاضون عنها بوعي او بلا وعي: العرب يكذبون الكذبة فيصدقونها. وهو مرض جماعي يشمل الجماهير ومؤسساتها الفكرية والأيديولوجية. فأسرائيل ليست دوله دينية. وجمع اليهود من الشتات في دولة قانونيّة لا يعني أنه توجّه ديني بالمطلق. فالصهيونية حركة علمانية. أنّ أغلب قادتها هم من نتاج عصر التنوير ومن… قراءة المزيد ..
أن تكون مع غزة.. وضد حماس وإسرائيل؟عزيزتي تعليقي على نقطتين جزئيتين في مقالتك الطويلة أولاهما : انتقادك لكثرة الأدعية غريب ، لأن المؤمن الذي يؤمن أن الله خلقه لعبادته يعد ارتباطه الدائم بربه جزءا مهما في تحقيق العبودية التامة الخاضعة للخالق ، والذلة لله عزة . ثانيتهما : وصفك للأيدلوجيتين المتطرفتين الإسلامية واليهودية وقولك بأنهما متشابهتان خطأ ، لأن حماس ـ ممثل الإسلام ـ تريد استرجاع حقها ولو قتلت كل اليهود ، وفي كل الأعراف الدولية أرض حماس محتلة … أما اليهود فيصرون على الاحتلال والتطهير العرقي فالفرق كبير أخيرا : المسلمون متخلفووووووووووووون ، وتطبيقهم للإسلام متخلف ، ولكن هذا… قراءة المزيد ..