بتجدد موسم عاشوراء، تطغى بعض الضرورات، منها ضرورة نقد الظاهرة الخطابية والشعائرية الشائعة لدى بعض المتصدّين لإحياء تاريخ واقعة كربلاء وطقوسها. الهدف من ذلك، قبل أي شيء آخر، هو التأكيد على ضرورة انتشار “ثقافة النقد والسؤال” بين أفراد المجتمع، وبالذات بين الشباب، تجاه خطب وطقوس كل مناسبة دينية تاريخية يصوّرها أصحابها بالمقدسة. كذلك إعمال العقل والتشجيع على ممارسة التحليل العقلي تجاه أحداث إنسانية كحادثة مقتل الحسين بن علي بن أبي طالب وأهل بيته وأصحابه، التي يسعى البعض غير القليل إلى تصويرها وكأنها شأن غير بشري تتجاوز في صورها الإدراك الطبيعي للإنسان. فالمساعي متنوعة ومتباينة في شرح وتحليل واقعة كربلاء، ومن الخطورة بمكان أن يسعى البعض إلى إلقاء الضوء عليها من خلال نفق الثنائيات الدينية التي تقسّم المجتمع إلى حق مطلق وباطل مطلق، لتصب الزيت على نار الطائفية. إذ يستند البعض إلى ذلك من خلال جهد لتفريخ شخصيات وهمية “بطولية” همّها الصراخ والعويل وقعا على تراث مليء بالخرافات والأساطير، ليعوّل عليها في تشكيل صورة الحق الديني، وليرمي الآخرين المناهضين له بالباطل الديني استنادا إلى المعجزات واللامعقولات التي تلتف زورا حول الواقعة ورموزها.
يطرح بعض رجال الدين الخطباء الواقعة، ويفتخرون بذلك، استنادا إلى عدم احترام العقل البشري، بل يتبضّع هؤلاء من الموسم بالاستناد إلى حفنة كبيرة من النصوص اللامعقولة، نصوص الأساطير، ليخرُج في النهاية بجيب منتفخ بعشرات آلاف الدنانير، وليخرّج أفواجا خرافية من الناس تعيش حالة خوف واضطراب نفسي مستمر. لذا من الطبيعي أن تسمع أثناء وبعد انتهاء الموسم قصصا وروايات عن رجال ونساء وأطفال لا يستطيعون أن يخلدوا للنوم بصورة طبيعية هانئة، بسبب الضغط النفسي الذي تحدثه التخويفات الخرافية اللاعقلانية لخطيب عاشوراء على ذهن المستمع. لذلك كلّما كان التديّن عقلانيا “شعرنا بالأمان والطمأنينة” كما يقول المفكر الإيراني مصطفى ملكيان. ويقول الزميل البحريني علي الديري “العقلانية تقتضي اليوم أن نعيد الأمن إلى تعريف الدين، وهذا يقتضي أن نسقط من ممارستنا الخطابية والسلوكية التي نقوم بها باسم الدين، كل ما يخيف الآخرين”.
من الطبيعي كذلك أن يحمل الموسم مقوّمات تشجيع البغض تجاه الآخر الديني بين التلاميذ في المدرسة أو في الحي بين الجيران أو خلال الدوام الوظيفي بين الموظفين، بسبب الدور المشبوه للخطيب في تحميل الطرف الآخر سبب المآسي التي آلت لآل بيت النبي في واقعة كربلاء، في حين تدفن الرمزية الاجتماعية والسياسية لمفهوم “المظلومية”، التي تعتبر أحد أبرز أهداف صراع الحسين بن علي مع يزيد بن معاوية، تحت التراب أو تستغل لخطط تمييزية كريهة همّها تعميق جراح الطائفية في المجتمع.
ما تحتاجه مجتمعاتنا، وبالذات شبابنا المغرّر بهم، هو ترسيخ ثقافة تحث على الحب الإنساني المؤسس للتسامح، وهو الآتي من مفهوم “المظلومية”، حب لا يوصل صاحبه إلى التطرف والعنف سواء تجاه نفسه أو تجاه الآخرين. وهذا لا يتأتى إلا بطرح رؤى تنهل من منهل إنساني (حقوق الإنسان) لا المنهل العاطفي الانفعالي العنيف والطائفي المتطرف والغيبي الأسطوري. فالعاشق المؤنسن غير المتطرف هو الذي تحتاج إليه عملية بناء مجتمع يراد من أفراده أن يحترموا الإنسان وحقوقه وحريته، في حين همّ خطباء الموسم منصب على تأسيس “أنا” دينية عنيفة متطرفة غير مسؤولة، منشغلة بالخرافات والأساطير، غير قادرة على طرح مفاهيم تساهم في تأصيل التسامح والتعايش. فقلما يطرح الخطباء ما يرمز إلى مواجهة المفسدة الاجتماعية أو يبيّنوا ما يفضي دون تكرار التجربة الفردية الاستبدادية التسلطية، ويستبدلون ذلك بالتركيز على الجانب الأسطوري للواقعة وكأنها نابعة من خيال فوق بشري، لعل ذلك يخدم النهج الساعي إلى اختزال الواقعة في ممارسة مزيد من اللاعقلانية والاعتماد على الخرافة في معايشة الواقع، بدلا من التركيز على الجانب العقلاني وطرح الواقعة بوصفها شأنا بشريا لا فوق بشري، شأنا يخدم الحياة الإنسانية الطبيعية بواقعيتها، ولا يخدم الأسطورة والخرافة.
إن هناك تدهورا في موقع العقلنة وقيم الحداثة لدى الثقافة الإسلامية بوجه عام والشيعية بوجه خاص. فالثقافة الشيعية في طرحها للواقعة لم تعد تمتلك ما يمكن أن توظفه إنسانيا في الحياة وفق فهم حديث، مثلما لا تمتلك الثقافة الإسلامية ذلك الشيء لخدمة مشروعها في الحياة أيضا. بمعنى أن الثقافة الشيعية باتت تتحدث عن الحسين بن علي بوصفه شخصية فوق بشرية، وأصبحت تعتبر العاطفة البكائية الطقوسية والنهج الأسطوري الخرافي هو أساس مشروعها في الحياة. هي اختزلت الواقعة في إطارٍ يخدم التفسير التقليدي الذي عفا عليه الزمن، كما اختزلته لدعم خطابها غير القيمي من أجل مزيد من الهيمنة القائمة على التقليد والمنطلقة من ضرورة أن تلعب الشعائر والخوارق دورا رئيسيا مؤثرا في الحياة العامة والمنتهية بطبيعة الحال إلى طرد العقلنة منها. فالانحرافات المضللة التي ظهرت ومازالت تظهر في سماء الأنشطة المراد من خلالها إحياء الواقعة ساهمت بشكل كبير في تحريف قيمة التضحية الإنسانية والمظلومية، واستبدلت ذلك بمظاهر البكاء والحاجة والمراد، وانطلقت في هذا الاتجاه اعتمادا على اللاعقلانية.
ورغم أن الروايات الخرافية والأسطورية التي يشترى من خلالها الخطباء عقول البعض، إلا أن بعض الشباب بدأوا ينشطون في السؤال عن حقيقتها وصدقها وتناسبها مع واقع الحياة، بل الأكثر من ذلك أن الروايات “الصحيحة” أيضا – إن كانت فعلا صحيحة – باتت خاضعة للسؤال والنقد في ما إذا كانت تناسب حياتنا الراهنة.
إن ثقافة النقد والسؤال، على سبيل المثال سؤال رجل الدين الخطيب عن الأموال الوافرة التي يتحصّل عليها جراء خطبه العاشورية، لابد أن تكون ديدن الشباب الواعي المسؤول الذي نتلمّس تطوره المستمر في رفض ثقافة التقليد الأعمى والرضوخ لما يقوله أو يريده منه رجل الدين الخطيب. يقول السعودي نذير الماجد في مقال بعنوان “كفّوا عن الاتجار بالدين”: إن رجال الدين يتمظهرون بكلّ أنماط القداسة لخلع المهابة على سلوكياتهم وتصرّفاتهم التي تنبع من جشع خليقٍ بتاجر وليس برجل دين يُفترض به الزهد والورع. لقد تمكّنوا بهذه التمظهرات المزيّفة من خلق حاجز رفيع وسميك يمنع ممارسة النّقد تجاههم، وإلا فلماذا يتحسّسون من أيّ نقدٍ أو مطالبة من العوام البسطاء؟ كلّ الفئات والشرائح في المجتمع تستوعب النقد بروح رياضية منفتحة إلا هذه الشريحة المتمقدسة. وقداستها هذه ليست إلا وهْما. لأنهم بشرٌ مثلنا، يخطئون وينامون وبعضهم يشخر في نومه حتى الظهيرة مطمئنين على مستقبلهم لا سؤال ولا هم يحزنون. هنا أتذكر علي شريعتي (المفكر الإيراني) الذي لم يدخر جهداً في محاربة هذا الوباء المستشري في المجتمعات الشيعية، حيث يصفهم “بالمستحمرين” الذين يزيّفون الواقع ويهمسون في آذان المساكين بأن عليهم بالصّبر والزهد والقناعة ثم يفتشون في جيوبهم لعلّ فيها شيئا من المال. فالاشتغال بالوعظ والقراءة الحسينية يمثل مورداً ماليّاً ضخماً. يكفي أنْ يحفظ «كم» بيت و«كم» كلمة هنا أو هناك حتى يعتلي المنبر ويُقدّم وجبة «ليست شهية تماما» من الفانتازيا والأحاديث الشعبية والشفهية الساذجة جدّاً، فتتردّد همهمات العجائز بالموافقة والتأييد. لكلّ وجبةٍ يقدّمها ثمن خاص حسب اعتبارات عدة. فالقراءة في محرم أرفع ثمنا بطبيعة الحال من القراءة في شهور غيره، ويمكن أن يخضع الأمر لسوق مزاد على خطيب واحد يمتلك صوتاً جهوريّاً وطلة بهية وعمامة ملتفة بإتقان ولحية كثة وشارباً منتوفاً وظهراً محدودباً إلى حدّ ما. هذا الخطيب بهذه المواصفات سيكلف بلا شك مبلغ وقدره.. (أترك ذلك لمخيلة القارئ) في موسم محرم وحده وفي مجلس واحد، أما إذا كان هذا الخطيب رجلا متمكّنا، وشابا فإن بإمكانه أن يقرأ في الليلة ثلاثة أو أربعة مجالس فبذلك يتضاعف ذلك المبلغ «وقدره..» ثلاث أو أربع مرات.
ssultann@hotmail.com
كاتب كويتي
عاشوراء: دعوة للشباب لممارسة النقدعلى ضوء كلام الاستاذ فاخر سلطان دفعتني الذاكرة الى ماقبل اربعين عام , في مجال تهويل واضافة طابع الكذب , واشاعة الحالة الطائفية بين افراد المجتمع الواحد . كنا في مجلس عزاء في مدينة البصرة لذكرى استشهاد سيدنا الحسين , وكان الجالسون فيها لاتخلوا حتى من الشباب المسيحي اضافة الى الكثير من السنة بل بعض القائمين على الماتم هم من طائفة السنة . كان القاريء المعمم يستذكر حادثة اختفاء الرسول وابو بكر في غار حراء حينما طارده المشركون . يقول القاريء ( دخلوا الغار واراد الشخص الذي معه ان يوشي بالرسول ( دون ذكر ابو بكر… قراءة المزيد ..
عاشوراء: دعوة للشباب لممارسة النقدمقال تنويري رائع. الشيعة أضطهدوا أنفسهم حين رضوا برجال دين يستغلونهم ويستفيدون من جهلهم.ففي لبنان كان رجال الدين الشيعة يرفضون أرسال ابناء الشيعة الى المدارس والجامعات الغربية كمنح من الدولة لكي يعودوا ممثلون عن طائفتهم. وكان ممثليهم يبعثون ابنائهم فقط مكتفين بهم كممثلين لحيازة التمثيل وحصرها بعوائلهم وابنائهم. وفي العراق رفض رجال الدين أرسال ابنائهم الى المدارس العمومية واعتبروا العمل بوظائف الدولة كفر وخروج على الدين لان العراق كان محتلا من قبل الأنكليز. مما جعل السنة يهيمنون على السلطه. وبذلك تشكّل الفرق الطائفي بين حاكم ومحكوم. رجال الدين أجهل ابناء الطائفة وهم يمارسون جهلهم من خلال… قراءة المزيد ..