مثل كرة ثلج هي موقعة منتظر الزيدي هذه. لا نشبع منها علما وتأييداً. في كل مكان تجده، منتظر الزيدي. الصحف والتلفزيون والشارع؛ وعلى الانترنت، حيث يرتفع، وبسرعة الصاروخ، عدد الروابط على اسم منتظر الزيدي الى 608.000 رابط. اكثر من نجوم السينما والغناء. انها الموقعة-الظاهرة. مثل موقعة 11 أيلول (سبتمبر)، مثل موقعة «الوعد الصادق»، مثل العمليات الانتحارية ضد اسرائيل. المناخ والحماس نفسهما. المحاجّة نفسها: احتلال فلسطين (الآن الوقت مؤاتٍ للعب على غزة المستنزفة)… ثم غزو العراق، والامبريالية والصهيوينة… المظالم اياها، المتعاظمة رغم «البطولات» و»الانتصارات». والتهمة المباشرة لمن لا يؤيدها ويتحمس لها أنه مؤيد للاحتلال الاميركي للعراق:
«وكل من يستنكر هذه العملية البطولية هو مؤيد لبوش.»!
وتستطيع ايضا ان تلاحظ ما على الارض. من ان جبهة «الممانعة» العريضة، ذات النفوذ الاعلامي الواضح، هي الأكثر حماسا. الاحزاب والانظمة القومية-الاسلامية «المقاوِمة»؛ اقواها اعلاميا، وعسكريا، «حزب الله» اللبناني وبيانه الذي يدعو فيه الاعلام العربي الى معاملة الزيدي معاملة «البطل»، والى التضامن معه. ونظام الممانعة الذي لا نعرف عن ضحاياه من قتلى وسجناء ومفقودين… شيئا. فجأة يدير التظاهرات والمنابر والتجمعات المؤيدة للزيدي ولغزة (لقاء صدفة بين الاثنين؟). و»المجتمع المدني»، خاصة اتحاد المحامين، الذي يتبرع للدفاع عن الزيدي… ثم صحافيون من اقطار عربية اخرى، من مؤيدي صدام سابقاً، وبعضهم حاليا، فضلا عن محامين واطباء وشعراء ومواطنين «بسطاء». واحدهم يريد منافسة الزيدي، فينال شيئا من الشهرة، بعدما يرسم على رأسه الحليق جزمة الزيدي «تضامنا معه». وقصيدة لشعبان عبد الرحيم ومطلعها:
«صدام [حسين] اللّي انت دبحته في اول يوم العيد
أهو اخد بتاره [بثأره] وفي نفس المواعيد».
مربض فرس او مرابض. انه العالم الذهني الممانع. عالم ذهني واحد. ملتف حول اية «مجابهة»، مهما بلغت رمزيتها من رثاثة… المجد فقط للوقفة. وقفة العزّ والكرامة (من يتذكّر انطون سعادة؟). وبعد ذلك، المطالبة بعدم دفع الثمن…
واذا اردتَ ان تكوّن صورة اكثر تفصيلية عن هذه النوعية من الذهنيات، ما عليك سوى التوقف، مثلا، عند عناوين اهم المقالات المؤيدة لبطلها. ومنها اشارات لا تكذب. واليك العناوين: تجليات جزمة- معجزة بسيطة- حين يصبح الحذاء بطلا- جزمة في عين العدو- الفخر العربي من شبْشبْ شجرة الدرّ الى حذاء بوش- حين تصبح السعادة في رمية حذاء- حذاء اقوى من المدافع- عام الحذاء- الاعدام… رميا بالحذاء- يا احذية العالم إتحدوا!- حذاء الفتح المبين- الأحذية تصنع التاريخ… احيانا- واخيرا، «خلّي الحذاء صاحي» و»إرفع حذاءك يا اخيّ». والعنوانان الاخيران على نفس وزن الشعارين الناصريّين المعروفَين: «خلّي السلاح صاحي» و»إرفع رأسك يا اخي». فبين صحوتي السلاح والحذاء، وبين رفع الرأس ورفع الحذاء، مشوار قصير من تدهور معاني الشعارات والسياسات.
وبعد ذلك، صدق او لا تصدق؛ نفس العدو الذي نتباهى باحتقاره واحتقار حضارته، نستعين باقوال وافعال إيجابية تصدر عنه، حين نحتاج الى إقناع انفسنا اكثر واكثر ببطولية الموقعة. تماما كما عاملنا المصادر العدوة في مواقع مشابهة: 11 ايلول، الوعد الصادق… نستشهد بما كتبه واذاعه وسرّبه الاعلام المعادي، للاطمئنان الى صحة حماسنا. متناسين بذلك المقولة الخلدونية الشهيرة، التي لا يبدو بطلانها بالقريب: من اننا بذلك نسمح لأصحاب زمننا بالتدخل في رسم هويتنا.
كرة الثلج لم تتدحرج بفعل فاعل. الاعلام اطلقها من اعلى القمم. اول ما ظهرت الموقعة على الشاشة، كان برنامج في احدى الاقنية؛ لقاء مع نجمين من نجوم الفن. جاء الخبر «عاجلا»، فأصيب النجوم بالوجوم، ثم الدهشة والحماس الشديد. الشاشة لم تقفل كما تقفل عادة الشاشات أمام اية «مادة» غير مرحَّب بها. تركت الضيوف النجوم على «سجيّتهم»، بعدما شجّعهم مقدِّم البرنامج، وقد اتته التعليمات عبر «المايك» الخفي، فسلكت الزغاريد طريقها الى البرنامج، وانكبّ النجوم الثلاثة على التحمّس للموقعة ولبطلها. مذّاك، شمّرت أقنية الاثارة السياسية عن ساعدها؛ ولم تتمكن الاقنية الاخرى من عدم مواكبتها… نزل الناس الى الشارع، وسهروا في المقاهي الشعبية امام شاشات تكرر عليهم الموقعة البطولية طوال الليل؛ وفوق رؤوسهم يافطة كُتب عليها «أحداث الرابع عشر من ديسمبر الخالدة»… وعقدت الوقفات الاحتجاجية، وصرح رؤساء الاحزاب والنواب المعارضون والمستقلون والموالون. وعرض رجل ابنته للزواج من البطل. واهديت جوائز للبطل، وابتكرت لعبة الكترونية تماهيا مع البطل، ومسابقات في الشعر تمجيدا للبطل الخ.
أن يغضب الزيدي لاحتلال بلاده، ان يرشق بوش بالحذاء… هذه امور تحصل، ويحصل ما يشبهها. اما ان يتحول رمي الحذاء الى موقعة مكرّمة كل هذا التكريم… فهذا ما يكرس الرجم السياسي بالحذاء او بالقلم. احدى اقوى الصحف المصرية الخاصة لا تجد في افتتاحيتها اليومية غير رجم الرئيس وعائلته. رجمٌ لا يضيف اية معرفة لك عن مصر، غير عقلية الراجم، وعقلية المستمتعين بالرجم من قرائه الكُثر…
شدّة الاقبال على الرجم ظاهرة، حالة ذهنية نفسية عامة. هي التي تحتفل الآن بالبطل الزيدي. ذهنية العقول الحامية المتمتعة بغضبها، والبانية مجدها عليه. وهي دينامو الاثارة والجذب والبيع. الاكثر جاذبية للعقول المحبطة. والتكرار وحده آليتها. سعيدة بغضبها، تحسبه مقاومة (كتب احدهم «استعمال الحذاء في المقاومة مسألة جديدة واختراع يستحق ان ينسب الى الزيدي»). غضب بمثابة نمط تفكير واسلوب تعبير، مفْخرة سياسية. العربي الغاضب معزّز مكرم. المنابر و»العروسات». والمجد له ذاك الغاضب، صانع سياسة عرب اليوم وخلودهم.
* كاتبة لبنانية- القاهرة
dalal.elbizri@gmail.com