الاسلوب معروف: تأخذ “واقعة” حقيقية، قد تكون مجرد تفصيل صغير (هل حدث الإنفجار في سيارة جبران تويني أم في سيارة أخرى متوقفة بجانب الطريق..)، وتبني عليها “رواية” جديدة لا صلة لها بالواقع، والهدف دائماً حرف الإنتباه عن الحقيقة البسيطة و”الساطعة! من قتل جبران تويني؟ البلغار! ومن قتل رفيق الحريري؟ جاك شيراك، الذي كان استدان من الحريري مبالغ كبيرة (هذا ما تردّده الطبقة السفلى من العونيين..)! ومن قتل شهيد “النهار” الأول، سمير قصير؟ قتله وليد جنبلاط طبعاً غيرةً على زوجته (حتى لا نظلم العونيين: مصدر الرواية جميل السيد، والعونيون “روّجوها” فقط!
ومن نصب صواريخ الكاتيوشا يوم أمس في منطقة يسيطر عليها حزب الله؟ مسؤول التلفزيون العوني، جان عزيز، الذي يشير إليه إ‘دمون صعب في مقاله لديه الجواب الشافي في هذ المقطع “البديع”:
“حلو”! حسني مبارك أرسل دورية مخابرات مصرية محملة بـ8 صواريخ كاتيوشا، وبرفقة عناصر من جهاز الإستخبارات السعودي، ونصبوا الصواريخ في منطقة حزب الله والحزب “لا شاف ولا عرف”! والدليل على صحة “الرواية” أن الرئيس مبارك حذّر أمس من محاولات سوريا للسيطرة على لبنان! إذاً، منطقياً، حسني مبارك هو الفاعل! ومن لا تعجبه هذه الرواية، فهنالك “رواية” أخرى، جاهزة للإستعمال، عن دور “فتح الإسلام” التي يموّلها سعد الحريري و”الوهابية السعودية”!
روايات وروايات.. والمهم أمر واحد: النظام السوري بريء بريء.. هل نخبركم قصة العدو الصهيوني الذي قصف مدينة حماه ودكً بيوتها على رؤوس ساكنيها…؟ وهل تعرفون أن ميشال كيلو اعتقل في دمشق لأنه “سنّي” وهابي متعصب؟
“الشفّاف”
*
مقال إدمون صعب، أدناه، منقول عن “النهار”:
*
جبران تويني… ويهوذا البلغاري !
“(…) وفي اعتقادي أن الشعب السوري بريء من هذه الجريمة الارهابية وما يتفرع عنها. وهو أقرب الى اللبنانيين منه الى حاشية النظام الذي يحكمه.
والمطلوب واحد وبسيط: تسليم المجرمين لمحاكمتهم امام محكمة دولية، فوحدها تؤمّن الشفافية والصدقية بعيدا من أي محاولة ضغط او ابتزاز يمكن ان يتعرض لها أي قاض او محامٍ او شاهد وحتى أي مشتبه فيه”.
(في افتتاحية جبران تويني بتاريخ 27/10/2005)
يتعاظم القلق لدى اللبنانيين مع تسارع التطورات في لبنان والمنطقة، وخصوصاً بعد تحديد الأول من آذار موعداً لبدء العمل في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان والتي سيمثل أمامها المتهمون في اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه وسائر شهداء “ثورة الأرز” الذين حصدهم منجل الإرهاب.
ويزيد من منسوب هذا القلق ما يجري على صعيد المفاوضات غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل برعاية تركية، وإعلان الرئيس السوري بشار الأسد أن هذه المفاوضات مرشحة لأن تصبح مباشرة إذا ما وافق الإسرائيليون على المطالب السورية، الأمر الذي يوقع لبنان في حرج كبير ويعرّضه لضغوط خارجية كبيرة للحاق بسوريا في مسار المفاوضات الديبلوماسية بديلاً من المواجهة العسكرية، سواء عبر المقاومة والجيش بعد تعزيز تسليحه جواً وبحراً وبراً من روسيا وأميركا وغيرهما، أو في ضوء ما يمكن أن يُتفق عليه على طاولة الحوار من إستراتيجية عسكرية للدفاع عن لبنان تشارك فيها المقاومة والجيش مع تشكيلات شعبية تضم متطوعين من معظم المناطق والطوائف والأحزاب…
علماً أن لبنان أجرى مفاوضات مع إسرائيل في ثمانينات القرن الماضي أفضت إلى “اتفاق 17 أيار” المشؤوم الذي ولد ميتاً لأنه، بين أسباب أخرى، اشترط الانسحاب “المتزامن” للقوات الإسرائيلية والسورية من لبنان الأمر الذي كان مستحيلاً آنذاك، وخصوصاً بالنسبة إلى القوات السورية التي كان يتمسك بها فريق من اللبنانيين و”يُخَوِّن” كل من كن يطالب بالانسحاب السوري معتبراً أن وجود الجيش السوري في لبنان ” شرعي وضروري” وإن يكن مؤقتاً.
واليوم ثمة من يدعو إلى مفاوضات لبنانية – إسرائيلية غير مباشرة تُحيي اتفاق الهدنة بعد خروج الجيشين الإسرائيلي والسوري من لبنان مطرودين مهزومين، تاركين جزءاً من الأراضي اللبنانية في الجنوب تحت الاحتلال الإسرائيلي باعتبار أنها في نظر العدو تابعة لسوريا رغم وجود إجماع بين اللبنانيين والسوريين على أنها لبنانية، ولكن من دون أن تقرن سوريا إقرارها بهذا الأمر ببيانات خطية تصلح أساساً لترسيم الحدود بين البلدين تاركة الأمر ربما للمفاوضات مع إسرائيل التي لا بد أن تنتهي بتحديد نهائي للحدود!
وفيما يؤكّد لبنان الرسمي إصراره على موقفه بأنه سيكون آخر من يوقّع معاهدة سلام مع إسرائيل على خلفية موجة التخوين التي تعرض لها اثر مفاوضات 17 أيار المنفردة، ويعتبر القرار 1701 ضماناً دولياً لسيادته في الجنوب وحماية لحدوده من أي غدر إسرائيلي، يُفاجأ جيشه والقوة الدولية الضاربة في الجنوب باختراق لهذا الحصن ونصب ثمانية صواريخ شمال الناقورة وشمال الليطاني كذلك داخل المنطقة الامنية التي حددها القرار 1701 وأبعد عنها “حزب الله” وسلاحه، وتجهيزها وتوقيتها للانطلاق في اتجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وبقطع النظر عن الجهة التي نصبت الصواريخ – إذ لن تغيّر في الوضع معرفة تلك الجهة، لان الخرق قد حصل – فإن السؤال الكبير يبقى: هل هذه الصواريخ هي رد على الحصار الإسرائيلي المضروب على غزة، أم هي ردّ على المفاوضات السورية – الإسرائيلية الذي لم يجد أفضل من صندوق البريد اللبناني مكاناً له؟، أم هي اكبر من ذلك: فخ جهنمي لمعاودة الحرب بين إسرائيل و”حزب الله” والتي أوقف القرار الدولي عملياتها الحربية دون ان يوقف نارها نهائياً؟
وسط هذا الوضع المعقّد والمخيف جنوبياً، رُفع أمس العلم السوري في بيروت ليس فوق مركز مخابرات جديد بل فوق المبنى الذي ستشغله أول سفارة سورية في لبنان يُفترض أن تُفتح الأسبوع المقبل رسمياً على ما اتفق الرئيسان اللبناني والسوري في القمة التي عقدت بينهما في شهر آب الماضي، والتزاماً من دمشق لوعد قطعته للرئيس الفرنسي عربوناً لمعاودة الحوار الفرنسي – السوري وللانفتاح الأوروبي تالياً على دمشق.
وأهمية فتح السفارة السورية في بيروت تتجاوز موضوع المفاوضات السورية – الإسرائيلية، وظهور الصواريخ على الحدود – وكلنا نذكر أن الصواريخ التي اكتشف مثلها هناك في السابق ظلت هويتها غامضة، وإن تكن أصابع الاتهام توجّه على الدوام إلى تنظيمات مرتبطة بالنظام السوري – لتنحصر في أمرين أساسيين بالنسبة إلى اللبنانيين وعلاقتهما بالنظام السوري، هما بدء عمل المحكمة الدولية في أول آذار المقبل والإرباك الذي يشّكله هذا الأمر للنظام صاحب السفارة، ثم الانتخابات اللبنانية المقررة بين أواخر أيار وأوائل حزيران استناداً إلى نصوص قانون الانتخاب والدور الذي يمكن أن تقوم به سوريا في التدخل أو عدم التدخل في هذه الانتخابات التي يعوّل عليها اللبنانيون والعرب، وكذلك المجتمع الدولي، لنقل لبنان إلى وضع جديد من شأنه طمأنة أهله إلى المستقبل كياناً ونظاماً تدعمهما الأحكام التي ستصدر عن المحكمة والتي ستكون الفيصل في النزاع الطويل والدامي بين سوريا ولبنان، والممتد من مزارع شبعا إلى ساحة الحرية، فإلى كل ذرة من تراب لبنان رواها دم شهيد استقلالي.
واذ يتطلع اللبنانيون بأمل كبير إلى المحكمة الدولية متلهفين ان توحّدهم حول الحقيقة والحق والعدالة التي ستأخذ مجراها وللمرة الأولى في هذه المنطقة فينال المتهمون بالقتل وسفك الدماء العقاب اللازم، فانهم يأسفون لوجود محاولات حثيثة لتبرئة بعض الساحات، والإيحاء دون خجل او وجل أحياناً أن ثمة شهداء قد نظموا عملية استشهادهم بأيديهم!
ففي مقال لجان عزيز في جريدة “الأخبار” الاسبوع الماضي، يشبه الروايات البوليسية، ان جبران تويني ذهب ضحية “جماعات بلغارية أصولية تمثل واجهة للنشاط الوهابي المموّل من دولة خليجية”، وإن أحد أصدقائه اللبنانيين المتعاملين مع “المافيا البلغارية” والذي استودعه جبران تويني سيارته المصفَّحة أعاد اليه صباح 28 تشرين الثاني سيارة مفخخة بعد رجوعه من باريس، وإن المتفجرات التي زعم أنها وضعت في السيارة المصفّحة هي التي أودت به وليس سيارة “الرابيد” المفخخة التي أرسلتها الجهة التي استهدفته وكانت تراقبه طوال وجوده في باريس والى ليلة عودته منها وتوجّهه صباح 12 كانون الأول الى بيروت عبر الطريق التي كان يسلكها رئيس لجنة التحقيق الدولية ديتليف مليس، في حرف للتهمة عن الجهة التي سبق للجنة أن حذرت جبران تويني منها، بل نقلت اليه تهديدا مباشرا منها.
علما ان جبران تويني كان يعرف الجهة المتربصة به، وخصوصا بعد الدور القيادي الذي اضطلع به في “ثورة الأرز” وحركة 14 آذار، والمرجعية التي مثّلها أخيرا بالنسبة الى الاحرار السوريين من مجموعة المجتمع المدني وصولا الى بعض أركان النظام.
فبعد أيام من اكتشاف المقابر الجماعية في مجدل عنجر واعتقال مجموعة من المدنيين بينهم نساء، قضى أحدهم اسماعيل الخطيب في 27 ايلول 2004 بعد تعرضه لنوبة قلبية في 21 منه، قصدت جبران تويني مجموعة من وجهاء البلدة وروت كيف حوّل السوريون بلدتهم محطة لجمع المتطوعين للقتال في العراق، وقالوا له ان المتطوعين كانوا يُحضرون في سيارات رسمية. ثم فجأة، تبدل الوضع بعد اكتشاف شبكة تخطط لنسف السفارة الايطالية في الوسط التجاري. ونقلوا اليه العبارات القاسية التي وجهها رئيس جهاز الامن والاستطلاع للقوات السورية آنذاك في لبنان رستم غزالي الى وزير الدفاع الياس المر، ولهجة التهديد التي خاطبه بها، داعيا الى اطلاق الموقوفين. ورجا الوفد جبران تويني مساعدة أهالي مجدل عنجر لإخراج السوريين من بلدتهم ورفع الظلم عنهم.
وقبل أيام من عودة جبران تويني الى بيروت في 28 تشرين الثاني، زاره صديق كان في زيارة للولايات المتحدة وعرّج على باريس خصيصا للاجتماع به ومحاولة اقناعه بالبقاء في باريس، “لأن الخطر عليك كبير في بيروت”، فأجابه جبران أنه يشعر بأنه وهو في فرنسا “كمن داخل سجن”، بل يحس بأنه كـ”الفراري” من الجبهة، وأن عليه العودة للمشاركة في “معركة الاستقلال التي لم تحقق أهدافها الكاملة بعد، وخصوصا متابعة مشروع المحكمة الدولية”. وفيما هما يتناولان العشاء في مطعم “الديك”، رنّ جرس الهاتف الخليوي مع جبران فنهض مستأذناً وخرج للرد على المكالمة، وما لبث أن عاد بعد نحو عشر دقائق ليقول إنها مخابرة من ابنة اللواء غازي كنعان الذي قيل انه انتحر في مكتبه في 12 تشرين الاول 2005 تؤكد انه قتل وهو في طريقه الى المكتب.وربما قالت له اكثر!
ولم يدرِ جبران تويني آنذاك أن هاتفه الفرنسي كان ايضا مراقباً.
كان جبران تويني يعرف قاتله جيدا، وهو ليس بالطبع “المافيا البلغارية”.
واذا كان المسيح لم يتوسل يهوذا الاسخريوطي ليسلّمه الى مجمع الفرّيسيين ليحاكموه ثم يصلبوه حتى تتحقق النبوءة على ما زعم أخيرا يهود صهاينة، فإن جبران تويني لم يسلّم سيارته المصفّحة الى صديقه – اذا صح ذلك – ليفخخها ويتسبب في مقتله.
فاتقوا الله اذا كنتم لا ترحمون.
ادمون صعب