1- في مفهوم العنف
يعرّف العنف بأنّه “كلّ سلوك يتضمّن معاني الشدّة والقسوة، وهو استخدام غير مشروع للقوّة المادية أو المعنوية قصد إلحاق الأذى بالأشخاص والإضرار بممتلكاتهم.” ( أحمد جابر ، المرأة الفلسطينية في مواجهة العنف والتمييز”، مجلة المستقبل العربي، العدد 321، نوفمبر 2005، ص134.) ويذهب مصطفى حجازي إلى أنّ العنف “لغة التخاطب الأخيرة الممكنة مع الواقع ومع الآخرين حين يحس المرء بالعجز عن إيصال صوته بوسائل الحوار العادي، وحين ترسخ القناعة لديه بالفشل في إقناعهم بالاعتراف بكيانه وقيمته”.(نقلا عن نفس المرجع، ص134.) أمّا الإعلان العالمي للقضاء على العنف ضدّ المرأة الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في ديسمبر 1993 فإنّه يعرّف العنف بأنّه “أي فعل عنيف قائم على أساس الجنس، ينجم عنه أو يحتمل أن ينجم عنه أذى أو معاناة بدنيان أو جنسيان أو نفسيان للمرأة، بما في ذلك التهديد باقتراف مثل هذا الفعل أو الإكراه أو الحرمان التعسفي من الحرية، سواء أوقع ذلك في الحياة العامة أم الخاصة”. وعلى هذا الأساس فإنّ العنف قد يكون سلوكا فعليّا أو قوليّا. وقد يتجلى بصفة واضحة أو يتخفّى في حالات أخرى، وراء أقنعة ومسالك وهنا جاز الحديث عن العنف الرمزي.
2- في أشكال العنف
تتعدّد، في الواقع، أشكال العنف ويمكن الوقوف عند أبرزها:
العنف اللفظي: هو عنف ممارس في جميع الأوساط وفي جميع الفضاءات الداخلية والخارجية ، الحميمة والعامة، ويتراوح بين السباب والشتم واللعن والدعاء بالشرّ ليصل إلى الاتهام بالاسترجال أو القصور الذهني أو الفسق أو الفجور أو الخيانة أو موالاة الأجنبي أو الكفر أو الخروج عن الإسلام.
العنف المادي: تومئ مؤلفات عديدة وأفلام وثائقية وتقارير لجان حقوق الإنسان إلى تعرّض عدد من النساء إلى التعذيب والاعتقال والاغتصاب وغيرها من أعمال العنف. كما تشير الأخبار التي نقلت تفاصيل الحملات الانتخابية النسائية الأخيرة إلى ما تتعرّض له عدد من النسوة من عنف مادي سواء كان ذلك من الزوج أو من أنصار الأحزاب المعارضة لدخول النساء مجال السياسية. ويمكن القول إنّ ممارسة العنف استراتيجية معتمدة لسدّ المنافذ أمام كلّ راغبة في خوض تجربة التحرّر من الأسر. وهي وسيلة ترهيبية تتوعّد المتمردات على وضعهن الأنطولوجي والأنثوي بأشدّ العقوبات.
– العنف الرمزي:
يتجلّى هذا الشكل من خلال أساليب التنشئة الاجتماعية التي تشرّع التمييز على أساس الجنس والطبقة واللون والعنصر والدين وتجعل الفرد يعتقد جازما أنّ ممارسته لا تندرج في إطار سجل العنف. وبناء على ذلك فإنّه يختلق للعنف أسماء مختلفة فجرائم الشرف هي دفاع عن العرض والشرف والأخلاق…، وضرب المرأة التي لا تلتزم بوضع الزي الإسلامي أو تسيء لبسه هي ممارسة تدخل تحت باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتأديب إلى غير ذلك. ولئن كثر الحديث عن هذه الأشكال من العنف في إطار منظّمات حقوق الإنسان أو حقوق المرأة أو الجمعيات أو غيرها من أطر مؤسسات المجتمع المدني فإنّنا نعتبر أنّ عنف النصوص والخطابات التي تحف بها لم ينل حظه من العناية فما المقصود بعنف النصوص؟
3- عنف النصوص
على قدر تعدد أجناس النصوص، تتعدّد أشكال العنف وتتجلّى صوره المختلفة. ولمّا كان المجال لا يسمح بدراسة مستفيضة لكلّ أجناس النصوص فقد آثرنا التوقّف عند بعض النماذج.
– 1-عنف النظام اللغوي
طغت السلطة الذكورية على مجالات الإنتاج وسيطرت على البناءات الرمزية وعلى رأسها اللغة. وعبّر النص اللغوي عن مجموعة من التصورات والمعتقدات وعكس تصوّرا للعلاقات بين الجنسين وبناء مخصوصا للسلطة وسياسة للنساء. ونتبيّن من خلال القواميس والمعاجم اللغوية القديمة صورة من صور العنف المسلّط على المرأة. فقد عرّفها اللغويون بأنّها متفرّعة من أصل ثابت، أي الذكر. وهو أمر سيستغله العلماء لبيان أنّ الأصل أفضل من الفرع ولتبرير مفهوم القوامة وتبعية المرأة للرجل إلى غير ذلك من المقولات.
وفضلا عن ذلك تعجّ النصوص الفقهية والتفسيرية والأدبية وغيرها بأفعال وأقوال وصفات ونعوت تشير إلى تبخيس النساء وتشييئهن. فالمرأة تكنّى بالدار، والحذاء، والشاة ، والمطيّة، والمحلّ، وتوصف بأنّها الموطوءة واللعبة، والمملوكة، والعانية وغيرها ، وعقد النكاح كما يعرّفه بعض العلماء هو عقد للتلذذ بآدمية، والرجل يستأجر بضع المرأة بالمهر كما يستأجر الأرض”.( فتاوى ابن تيمية،م34،ص68.)
– 2-عنف النصوص التشريعية القانونية
وهو عنف ينهض به المتخصصون في إنتاج النصوص القانونية التي تنظّم المجال الدنيوي وكذا المقدّس، وهم يخضعون في ذلك للإرادة السياسية ولمنطق حفظ المصالح. فما نعاينه في عديد التشريعات الخاصة بقانون الأحوال الشخصية هو التلاعب بمصائر النساء كإلغاء قانون الأحوال الشخصية المصري لسنة 1979بعد أن استمتعت النساء ببعض الامتيازات التي وفّرها لهن، وكتراجع المشرّع الليبي مؤخرا عن سفر المرأة بدون محرم، وكمنع تحديد النسل في إيران إثر اندلاع الثورة ثمّ إباحته الآن ، وكسنّ قوانين الزيّ الموحّد المفروض على النساء بدعوى الحفاظ على الأخلاق العامّة وعفة المرأة، ومعاقبة كلّ امرأة تخالف القوانين باللجوء إلى الزجر والضرب وتحويل المرأة إلى شبح يتسلل إلى الساحة العامّة. ومن القوانين المجحفة بحقّ المرأة قانون 1995 الذي يسمح للأمهات العاملات بمغادرة العمل بعد 15 من الخدمة بغية توفير وظائف للرجال. ويمكن الإشارة أيضا إلى ما تعكسه بعض النصوص القانونية من آراء تساهم في تدنّي مكانة المرأة. فالقانون المغربي ينصّ مثلا على تبين حال الفتاة المقبلة على الزواج هل هي بكر أم لا المادة 42 وتثبت المادة 27 أنّه لا يمكن للزوج الدخول، أي تسلّم جسد المرأة قبل دفع المهر. وهكذا انتقلت السيطرة البطريكية من نطاق رجال القبيلة/ العشيرة إلى سيطرة الدولة على النساء وإجازتها التحكّم بمصيرهن ونقلهن من وضع قانوني إلى آخر وفق الإرادة السياسية أو الضغوط الاجتماعية أو منطق الهوى.
وتكمن صور أخرى من صور العنف في عدم تشجيع أغلب التشريعات العربية النساء على اقتحام المجال السياسي ورفضها توفير أدنى حماية لهن أضف إلى ذلك النصوص التشريعية التي لا تعتبر المرأة مواطنة كاملة الحقوق. نذكر في هذا الصدد رفض عديد البلدان (سوريا، البحرين ….)للمرأة بنقل الجنسية إلى أبنائها أو زوجها.
ولا يمكن التغاضي عن صور أخرى توضّح عنف المشرّع وتواطؤ الدولة ويتمثل ذلك في توخي موقف الصمت أمام اعتداءات توجه للنساء كالاغتصاب الزوجي أو سفاح القربى أو الخفاض أو المتاجرة بالنساء خدمة لمؤسسات الحريم المعاصرة أو تحجيب الفتيات الصغيرات . وعلاوة على ذلك نلاحظ استمرار هيمنة بعض الأعراف على القوانين في المجتمعات المعاصرة. ومن هذه الأعراف ما يتعلّق بالتحكّم في الجسد الأنثوي. فابسم الأعراف تحرم المرأة من الإرث في عديد المجتمعات ويتم التغاضي عن عدم الالتزام بما ورد في القرآن من أوامر بينما يتمسّك بعضهم بتطبيق الشريعة في أحكام الزنا والردّة والسرقة وغيرها من أحكام الحدود. وباسم العادات ينافح البعض عن ختان البنات مستهزئين بانتهاك حرمة الجسد وكأن حقّ المرأة في حفظ النفس لا يعادل حقّ الرجل ، وباسم العفة يتم انتهاك حق البنت في الاستمتاع بطفولتها فتجبر على جرّ الذيول ووضع الحجاب في جميع البلدان حتى في البلدان التي كانت تشكّل الاستثناء كتونس.
وتتجلى مأسسة العنف ضدّ المرأة والتضحية بها في تساهل بعض الدول مع جرائم الشرف في بلدان مثل العراق وفلسطين والأردن وسوريا وغيرها إذ تصفح الجماعة عن القاتل وتعاقب الضحيّة. ولعل الخطورة تكمن في الألفة الحاصلة بين الأعراف والقوانين. فالعنف الذي تمارسه الأسرة يستند إلى القانون والرغبة السياسية التي تبارك بدورها هذه الممارسات أو تتغاضى عنها أو تشرّعها أو تلتزم التجاهل حيالها فتقف ضدّ كلّ محاولات تغييرها أو تتعمّد الصمت والتلاعب بتاريخ الانجازات والمكتسبات. وأيّا كان الأمر فالعنف المسلّط على النساء مضاعف: عنف الأهل والخلان، وعنف الأعراف والقوانين والمؤسسات: عنف الماضي والحاضر.
-3-عنف الفتاوى
يمارس المشرفون عن مراقبة المقدّس عنفا لا يقلّ أهمية عن عنف المشرّع القانوني إذ تطل علينا بين الحين والآخر فتاوى تنتهك كرامة النساء من ذلك مجموعة الفتاوى التي تبيح زواج المسيار والوشم والدم والمتعة والمصياف والـBoy Friend وفتوى تحريم الأنترنت على المرأة بدون محرم، وفتوى تحريم جلوس الرجل على كرسي جلست عليه امرأة، وفتوى رضاع الكبير تلافيا للاختلاط بين الجنسين في أماكن العمل. وهي ظاهرة تنم عن الفوضى المنتشرة داخل المؤسسة الدينية الرسمية وخارجها كما أنّها علامة دالة على “هوامات” ) fantasmes) أغلب الرجال ومخاوفهم وقلقهم إزاء التحوّلات التي أفضت إلى تغيير في نمط الحياة والمعاملات ووسائل النقل وغيرها كما أنّها أدت إلى تغيير في وضع المرأة وفي رؤيتها لذاتها ولمكانها في المجتمع فضلا عن التغيير الذي أصاب مكانة الرجل ودوره في الأسرة والمجتمع.
تعكس مجمل هذه النماذج التي عرضناها بعضا من إنتاج ثقافي كرّس آليات العنف وساهم في مأسسة ثقافة العنف. وواضح أنّ العنف الممارس على المرأة اجتماعيا وثقافيا ورمزيا له انعكاسات خطيرة على مكانتها إذ لاحظنا في السنوات الأخيرة تراجعا في منزلة المرأة وحدا من مكتسباتها . فقد أفضى استشراء ثقافة العنف إلى ترسيخ الصور النمطية التي تلحّ على اعتبار المرأة كائنا قاصرا لا يبلغ الرشد مهما فعل. فهي تظلّ في نظر المجتمع الذكوري، طفلة’ناقصة العقل والدين’ وهي بحاجة إلى التأديب بالضرب إن اقتضى الأمر ،حتى تلزم حدودها وتقبل بالقوامة الرجولية وترضى بالكنّ في بيتها ولا تخترق المجال العامّ ولا تعبث بالنظام الجندري، ولا تطاول على وضعها” الطبيعي” “ولا تزاحم الرجال.”
إنّ الناظر في بنية الخطاب أو النصّ يقف على بنى وأنساق ذهنية أدت إلى هذا الوضع . فالنصوص لا تحتل قيمة إلاّ من خلال القارئ الذي يحللها ويعيد صياغتها من جديد وفق ظروفه وسياقه التاريخي والاجتماعي والثقافي وانتمائه الأيديولوجي.
4- عنف التأويل
يقودنا استقراء نماذج من كتب التفسير والفقه إلى الانتباه إلى أنّ أغلب المفسّرين قرأوا النصّ من موقعهم الخاصّ ودافعوا عن امتيازات المجتمع الذكوري الذي صدروا عنه. فلا غرابة أن رأيناهم مثلا يحوّلون الآيات التي تشير إلى حقّ الزوج في الطلاق إلى قانون صارم أبدي لا يمكن المساس به بينما صارت الآيات الداعية إلى حقّ المرأة في أن تعامل بالعدل والإحسان، من منظورهم، مجرد توصيات متروكة لضمير الرجل. وقس على ذلك نماذج أخرى تعجّ بها كتب التفسير والفقه والحديث وغيرها ، وهي ككل عمل بشري تحوي هنات.
ولا يختلف الأمر اليوم كثيرا عمّا كان عليه القدامى فالمتشدّدون يجوّزون لأنفسهم النطق نيابة عن الله ويعمدون إلى تأويل القرآن وفق أيديولوجيا ’الإسلام السياسي’. وبيّن أنّ عسر مواجهة التأويل الذكوري للنصوص الدينية هو العامل الرئيسي الذي يثني عددا من النسوة ، في أغلب المجتمعات، عن اقتحام مجال المشاركة السياسية أو الاقتصادية أو الفكرية. ويمثّل الخطاب الديني المتشدّد الذي أنتج بشأن أهليّة المرأة للمشاركة السياسية مثلا عقبة رئيسية تحول دون نيل المرأة العربية حقّا من حقوقها الرئيسية.
ولا يخفى أنّ ما يميّز هذا الخطاب قدرته الفعلية على التأثير في الجمهور والهيمنة على العقول. إذ يحظى رجال الدين وشيوخ الإفتاء ودعاة الفضائيات بثقة مستهلكي خطاباتهم وإعجابهم بل تقديسهم. وبناء على ذلك فإنّهم يحرّكون الجمهور ويحوّلونه إلى ’تيّار مقاوم’ رافض اختراق المرأة المجال الذكوري، إذ يفهم هذا الأمر على أنّه تطاول على الذات الإلهية التي خصّت الرجال بفضائل منها القوامة،والدرجة، والرئاسة، والزعامة في كافة مجالات الحياة. ولئن استطاعت بعض النساء تجاوز هذا العائق النفسي فإنّ الأغلبية ترفض خوض غمار حرب التأويل.
وممّا لاشكّ فيه أنّ مواجهة التهديد الذي يحاصر مكانة النساء يقتضي منّا أن ننزّل قضية العنف المسلّط عليهنّ في سياق عامّ تشهده المجتمعات المعاصرة عربية كانت أو غير عربية. فأشكال العنف جلّية نعاينها في كلّ مظاهر الحياة اليومية، وفي المجالين: الفضاء الداخلي الخصوصي الذي تهيمن عليه الأسرة بقوانينها التميزية، وفي الفضاء الخارجي العام حيث تسود قوانين المجتمع البطريكي. ومن ثمّة فإنّ ما يحدث في المجال الاجتماعي أو الثقافي أو الديني أو السياسي ليس إلاّ انعكاسا لظاهرة العنف ككلّ. ولا سبيل إلى تطويق المسألة ومعالجتها معالجة جذرية طالما أنّنا لم نعترف بوجود تجاوزات ولم نقم بتفكيك بنية العنف وتحليل مختلف العوامل المؤدية إلى استشرائها واتخاذ التدابير اللازمة الكفيلة بحماية المواطن وضمان حقّه في الحياة.
amel_grami@yahoo.com
• جامعية من تونس