بيروت- “الشفّاف
عاد رئيس المجلس النيابي اللبناني نبيه بري من جولته الخليجية، التي شملت الكويت وقطر، بجرعة “منشطات” صرفها خلال اليومين الأخيرين في “التربية على المواطنية” مع وفد طلابي من الجيل الجديد، وفي المطالبة بالغاء “الطائفية السياسية” وفضح المال السياسي (!)، وفي الحرص على الفلسطينيين وعلى مخيماتهم… مفتتحا حملته الانتخابية في الجنوب.
جعبة “الاستاذ” كانت مليانة، من المواطنة الى الاصلاح السياسي، ومن الديموقراطية التوافقية الى القانون الانتخابي، الى الانماء المتوازن، الى أحوال “اللاجئين الفلسطينيين” وخطر الارهاب في المخيمات، الى الاعلام وغيرها…
“شو بدك فيها”! من مقر المجلس، الى مقر إقامته في المصيلح (في قضاء الزهراني دائرته الانتخابية)، مرورا بالمخيمات الفلسطينية، التي “يعرفها” جيدا عناصر حركته “أمل”.
مارس رئيس المجلس، المعروف بـ”الاستاذ”، دور الأستذة مع الطلاب، الذين إستقبلهم داخل القاعة العامة، وأجلسهم على مقاعد النواب، وترأس الجلسة كعادته ممسكا بمطرقة النظام. أسئلة كثيرة ومتنوعة، رد عليها بري بطريقته المعهودة، مرة باطلاق مواقف “مبدئية”، وأخرى باللجوء الى “اللبوس الديموقراطي”، وغالبا، عند الحشرة، الى النكات و”التنمير” للتهرب من الأسئلة المحرجة…
فعند سؤاله عن العودة الى “قانون الستين” للانتخابات المقبلة (الذي كان معمولا به منذ انتخابات 1960 ولغاية 1972 والقائم على اعتماد النظام الأكثري، وعلى الدوائر الصغرى التي يغلب على معظمها لون طائفي واحد)، تحول بري الى مدافع عن الديموقراطية والدولة المدنية، معتبرا أن هناك “اختلاف على المواطنية”، ثم برر الأمر بالقول أن ذلك “كان مطلب الطرف المسيحي”، وأنه، هو وحركته، طالب دائما بلبنان دائرة انتخابية واحدة!
ولكن، كيف يمكن تطبيق نظام الدائرة الواحدة، في ظل نظام طائفي يعج بالأحزاب والقوى الطائفية والمذهبية والعائلية – وبري وحركته جزء أساسي منها – تعمل بمنطق المحسوبية والزبائنية والحسابات الطائفية، من دون وضع قانون عصري للأحزاب وللعمل السياسي؟ أم لأن بري يعرف أن مطالبته بالدائرة الانتخابية الواحدة، في ظل التركيبة الحالية، لن يغير شيئا في واقع الحال، وسيؤمن له (بالتحالف مع “حزب الله” أو تحت جناحه) فوزا أكيدا في الانتخابات، في دوائر الجنوب وبعض البقاع، ذات الأغلبية الشيعية، طالما أنه غير معني بالدوائر الأخرى.
ثم إسترسل رئيس المجلس، في الكلام عن رأيه في قانون الانتخاب، وعن ضرورة تخفيض سن الاقتراع الى عمر الثامنة عشرة، وعن ضرورة أن يمارس الناخب حقه الانتخابي في مكان اقامته، وعن البطاقة الانتخابية الممغنطة، وعن، وعن… ولكن، “أننا ملزمون بالتوافق، وبالديموقراطية التوافقية”! بعدها رمى بري مسؤولية “الطائفية والمذهبية على الانتدابات والاحتلالات” (كذا)، معلنا ان المواطن يصبح مواطنا “عندما يصبح ارتباطه مباشرة بوطنه، ولا يمر عبر الطائفة أو المذهب أو القبيلة أو المنطقة…”. كلام جميل جدا، ولكن ماذا يفعل عندها بري بزعامته؟
بعد يومين فقط من لقائه مع الشباب، وخلال مهرجان انتخابي عقده في دارته في المصيلح، إستحضر أمس زعيم “حركة أمل” فجأة “الاقطاع السياسي الذي عاد يطل برأسه في مناسبة الانتخابات” (!). وهو الجالس سعيدا على كرسي رئاسة المجلس منذ ستة عشرة سنة من دون انقطاع – وهو رقم قياسي لم يضاهيه فيه حتى أعرق عائلات “الاقطاع السياسي” التي تبوأت قبله بعقود هذا الموقع الثاني في الدولة، أمثال آل الأسعد وعسيران وحماده، والتي انقرضت عمليا من المشهد السياسي اللبناني. كما أن ترؤسه لـ”بوسطة” الجنوب الانتخابية، بثلاثة وعشرين راكبا- نائبا، منذ 1992 ولغاية اليوم، وهيمنته واحتكاره لكل ما يتعلق بالجنوب من مشاريع في مجالات الاعمار والانماء وشؤون الناس، وكذلك حشوه مؤسسات الدولة ووزاراتها وإداراتها بالمحاسيب… فكيف يصف دولته كل ذلك؟ أليس “إقطاعا سياسيا”؟
ويرفع بري صوته أمام الحضور قائلا ان هذا “الاقطاع السياسي” يسعى للعودة عبر “المال السياسي من دول ظاهرة للعيان (…)”. هل هي نفس الدول التي زارها قبل ايام؟ ولكن رئيس المجلس يؤكد في نفس الوقت انه “لن يعلق بصنارته أحد”، ولن يجعل “الميت يعيط”، أو أن “يعيد عجلة التاريخ الى الوراء…”. فاذا كان هذا هو الوضع الفعلي لـ”الاقطاع السياسي” الجنوبي، فلماذا إذن يشغل بال الزعيم الشعبي، المنتخب ديموقراطيا في صناديق الاقتراع، الى هذا الحد؟ أم أن ذلك ضروري من أجل “تنشيط ذاكرة” الجنوبيين عشية الانتخابات؟ تماما، كما هي مسألة إثارته لموضوع المياه وتحميله الحكومة، التي يشارك وزراؤه فيها باستمرار، عدم إتمامها مشروع استصلاح وجر مياه نهر الليطاني. ناهيك عن تعداده ل”ثروات ينابيع” مزارع شبعا…
ولم ينس بري أن يخصص قسما من همروجيته الانتخابية، التي أرادها مناسبة لتوزيع شهادات على متخرجات ومتخرجين جنوبيين، للشأن الفلسطيني، ليبدي حرصه على أوضاع المخيمات الفلسطينية، محذرا من “تحول المخيمات من هدف لاسرائيل الى هدف للارهاب”، ومن “معجن للمقاومة الى معجن للفتنة”. وهذا الحرص من قبل زعيم حركة “أمل” على المخيمات ليس بغريب عليه، وهو الذي خاضت حركته في منتصف الثمانينيات حربا دموية ضد هذه المخيمات، وحاصرتها وجوّعتها، بايعاز من “الشقيقة سوريا”، على خلفية صراعها مع رئيس “منظمة التحرير الفلسطينية”، وزعيم التاريخي لحركة “فتح”، الراحل ياسر عرفات، من أجل السيطرة على القرار الفلسطيني المستقل…
ومن مطلق هذا الحرص، دعا بري الفلسطينيين الى “حوار من دون شروط مسبقة، مفتوح وصريح وقاس، ويرتكز على نقد ذاتي (لاحظوا) لصياغة خطاب سياسي جديد. تماما، مثل “النقد الذاتي” الذي مارسته حركة “أمل” على نفسها بعد “حرب المخيمات”، وبعد الحروب الكثيرة والمتعددة التي خاضتها كميليشيا لبنانية، في السبعينيات والثمانينيات، قبل أن يتربع زعيمها على كرسي رئاسة المجلس النيابي.
وطالب بري أيضا الفلسطينيين باجراء عملية ترميم لـ”منظمة التحرير الفلسطينية”، بالتزامن مع ما تطالب به “حركة حماس”، التي يقيم زعيمها خالد مشعل في دمشق ويأتمر بأوامرها، من أجل السيطرة على القرار الفلسطيني. فهل هذه “نصيحة أخوية”؟ أم هذا ما تريده دمشق؟ وهل يقبل بري أن يتدخل الفلسطينيون في شؤون حركته، أو في شؤون لبنان الداخلية؟
s.kiwan@hotmail.com