إنه لمن المحزن أن تتسارع وتيرة النفَس الطائفي في الكويت نتيجة التراشق الكلامي بين الطوائف المختلفة في الدين الواحد مع غياب كلي للعقل والمنطق للحؤول دون وقوع الكارثة، وقد يمتد إلى أن تسفك الدماء من أجل محاكمة تاريخية لأشخاص تاريخيين.
الصراعات التي تثار بين حين وآخر ما هي إلا نتاج طبيعي لعقل ماضوي غارق في التاريخ وعقل مغيب وسط مجموعة من الشعارات الدينية والفئوية الضيقة، وكلاهما بعيدان كل البعد عن المسارات الحضارية وعن القيم الإنسانية التي تقوم على أساس من الاحترام المتبادل بين جميع الطوائف والملل والتعاون من أجل خير الإنسان. ولطالما تعلل رجال الدين بالتسامح والرأي الآخر وسط مجموعة من الخطب التي هي أشبه بمسرحية سمجة تكررت مشاهدها ومازال أبطالها التقليديون يمارسون دورهم التقليدي البطولي في خداع الناس.
الفكر الأصولي المتشدد يعيش في أوج سعادته وسط خضم الصراع الديني بين أبناء الدين الواحد والبلد الواحد، ويتغذى كالطفيليات على كائن آخر دون أدنى شعور بالذنب جراء هذا الاقتيات غير الأخلاقي على الآخرين، وبالاقتتال الديني تستمد الطوائف ديمومتها وبقاءها مدة أطول على عرش الدمار والخراب، والقضاء على مشروع الحوار الحضاري بين الأديان والذي يقام بين الحين والآخر للتخفيف من الآلام التي سببتها الحروب الطائفية على مدى قرون وإلى يومنا هذا، ولعل العراق وباكستان شاهدتان على أبشع صور هذا الحوار الحضاري!
الأستاذ جورج طرابيشي في كتابه الرئع «هرطقات 2» يفرد فصلا كاملا حول الصراع الطائفي الشيعي والسني، عبر استقراء هذا الصراع منذ قرون عدة وحتى حرب الفتاوى بين الطائفتين في عصرنا الحاضر، ويفرد الأستاذ طرابيشي أيضا فصلا كاملا عن فتاوى التكفير بين السُنة والشيعة وأبطالها كالعادة هم السدنة التقليديون مؤججو نار الحرب الباردة الآن، والذي من المؤكد انه سيستعر أوارها في القريب العاجل، إن لم يسترد الناس عقولهم ورشدهم من خلال قراءتهم للأحداث التاريخية قراءة نقدية ومنهجية لأصل هذا الصراع وأسبابه ومن يقف خلفه، ولكن تبقى الجرأة والخوض في هذا المعترك العقلي القائم على نقد تلك الأفكار الدينية وشخوصها، المدخل الحقيقي لفهم الخطاب الديني.
ومن يقرأ كتاب «هرطقات 2» سيجد القطيعة والممانعة بين الطائفتين عبر سيل من الخطابات التأسيسية لتاريخ ومستقبل هاتين الطائفتين.
ويقول جورج طرابيشي في معرض خاتمته للفصل الخاص بسجال الطائفتين «إن الطائفية في الإسلام ليست حدثاً طارئاً ولا مصطنعاً بعامل خارجي: فهي قديمة قدم الإسلام نفسه. وحتى لا يبدو وكأننا نحمِّل المسؤولية للدين بما هو كذلك، فلنقل إنها ثابتة من ثوابت الإسلام التاريخي، بل هي الثابتة الأكثر استمرارية فيه، وإن خمدت جذورها أو اتّقدت تبعاً لتقلب موازين القوى الممسكة بمقاليد السلطة والدولة».
ومن أبرز الإشكاليات في حديث الحوار الحضاري والتقارب بين المذاهب الإسلامية، أن من يطرح العلاج لحل المعضلة بين الأديان هم أنفسهم من أسس وبذر المفاهيم التكفيرية، وهم جزء لا يتجزأ من منظومة القطيعة والمفارقة بين الأديان والمذاهب. فكيف يمكنهم القيام بمعالجة الحالة المستعصية، وهم يحملون الداء الطائفي. ولهذا ستكون تلك الحوارات ولجان التقارب هي أشبه بحوار الطرشان، لأنهم في الحقيقة لا يحملون نظاما معرفيا مغايرا للفكر الأصولي التقليدي القائم منذ قرون.
والإشكالية الأخرى التي تشكل حقيقة متأصلة في المذاهب، أن الأديان في بنيتها العقدية تقوم على الخضوع للبعد الغيبي والذي غالبا ما يكون خاضعا للتسليم والاعتقاد القطعي، وغياب عملية النقد في هذا البعد المتأصل في البنية العقائدية للأديان تشكل استلابا للعقل في ممارسته النقدية الطبيعية أو التجديد في معرفة دلالاتها المنطقية، الفكر الغيبي غالبا هو نصوص مقدسة شكلها رجال الدين والفقه ضمن أطر لايجوز اختراقها، فتحولت المعرفة الدينية التي شكلها هذا العقل الفقهي إلى نصوص أخرى مقدسة، لا يجوز مساسها ولا نقد شخوصها الدينيين، وتصبح تلك المقدسات الاعتبارية هي مقدسات عقدية جديدة وهكذا دواليك.
إن هيمنة الخطاب الديني على مجريات العقل والحياة، تستدعي التأكيد على أهمية الدولة العلمانية أو الدولة المدنية كما يحب البعض تسميتها، التي لم تحتكر المعرفة والحقيقة المطلقة، بل تتنازع الأفكار والرؤى المختلفة عبر الدلائل المنطقية والبحث الدائم، لبديل مناسب لأي مشكلة دون الاعتبار لقدسية فكرة أو رأي. والتأكيد على الحريات وسيادة القانون والديمقراطية والتعددية كضمان لتسير الحياة بشكلها الطبيعي دون تدخل أو سلطة على رأي ومعتقدات الآخرين.
**
ملاحظة:
خبر من موقع شفاف الشرق الأوسط يقول:
«المدهش أن الكتاب «هرطقات 2» عُرِِضَ في معرض الكتاب بمدينة الرياض في حين يبدو أنه جرى منعه في معرض الكتاب بالكويت! فماذا يحدث في الكويت؟»
وأقول: لا شيء سوى أنها هرطقة كويتية جديدة لاستقبال العام الجديد.
almole110@kwtanweer.com
* الكويت