كثيرة هي اسباب اختفاء كثير من اللغات في منطقة الشرق الاوسط لصالح اللغة العربية. فرغم انها لغة لم تشفي غليل المتحدثين بها معرفيا وفكريا الا ان كتابة القرآن بها بعد ان دخل العرب عصر التدوين زمن العباسيين جعل لها قدسية صنعها حكام حكموا المنطقة من دون صلاحية أو موافقة من مواطني المنطقة بل بالسيف وقوة السلاح المصاحب للظلم والجور والعدوان. فمصادر الالفاظ في العربية تكمن فيما تحدث به سكان المنطقة قبل ان يبدا الغزو العربي خارج جزيرة العرب. لكننا معنيين في هذا المقال بالاسباب الدينامكية الفاعلة في انحسار لغة لصالح لغة اخري دون البحث في صلاحية لغة للحياه اليومية من عدمها.
فالدفاع بالقول بان “إلغاء المسلمين للغة القبطية أكذوبة.. ولم تندثر بقرار من السلطة”. هو قول لا تؤيده بل تنفيه مقولات المؤرخين الذين كتبوا تاريخ مصر عن تلك الفترة التي حكم فيها ولاه اجانب من قبل خلفاء مسلمين جالسون في عواصم خلافية خارج حدود الوطن. ولو بحث كل شعب وامة من امم الشرق الاوسط في تراثه اللغوي لوجد كثيرا من اسباب الاحلال والنزع للغة لصالح لغة حتي ولو كان الجديد ادني قيمة من الجديد.
فالبراهين من اقوال المؤرخين تنفي دعاوي العروبيين والاسلاميين في الغاء اللغة القبطية فيما يمكن ان يصدر عن حكام يتحدثون لغة غير لغة اهل البلاد. فاول ما جاء في قرار الغاء اللغة القبطية كان موقف الحكام العرب الاجانب من الدواوين. فبقراءة تاريخ غزو العرب نجد ان الدعوة للاسلام لم تكن همهم الاول بل حيازة النصر العسكري والاستحواز علي السلطة ثم فرض الجباية وجمع الاموال وتقسيم الغنائم. فلم يكن عمر ابن العاص حائزا علي اي شهاده تؤهله للدعوة فهو من الذين عتقوا بعد فتح مكة ولم يعتنق الاسلام الا بسبب هزيمة مدينته مع طموحه في ان يكون شيئا في الكيان السياسي الجديد. فقد عاصر نشأة الاسلام لمده عامين فقط منذ فتح مكة حتي وفاه رسول الاسلام. بل ولم يكن معه اثناء غزوه لمصر ايه نسخة لا من القرآن او الحديث، فالقرآن لم يكن قد جمع بعد ولم يكن هناك تدوين الا في العصر العباسي اي بعد اكثر من 150 عاما علي انتهاء الدعوة للاسلام. لم نسمع ايضا عن هؤلاء الغزاه انهم بدؤا في الجدال بالتي هي احسن او عملا بالقول ” ادعوا الي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة”. انما السلاح والسبي وتقسيم الغنائم. ظل الامر هكذا حتي العصر الفاطمي الذي هو غزو اسلامي آخر لاعاده حيازة السلطة من اهل البلاد مثلما فعل الرومان الوثنيين من قبلهم بل وظل تجدد الغزو تحت ضلالات كلمة الفتح حتي سليم الاول العثماني الذي اتي مصر لمحاربة مسلمين. فماذا فعل سليم الاول باسلامة سوي القتل والسبي وحيازة السلطة وترك ولاته ليحكموا لصالح مجتمعات اخري اتخذت من الاسلام حجة للغزو والنهب كسابق اقرانهم. وفرض لغة رجاله الاتراك والتي دخلات مفردات كثيرة منها في حياتنا اليومية حتي يومنا هذا. اذكر مقالة هامة للاستاذ عبد لمعطي حجازي تتحدث عن كيفية ان المصريين قاربوا ان يكونوا اتراكا عبر مفردات اللغة ونشرت منذ سنوات في جريده الاهرام.
ولنعد الي زمن الغزو العربي ومشكلته مع اللغة المحلية.
كان الهم الاول وكما اسلفنا واكده رواه التاريخ هو حيازة السلطة ومن ثم التحكم في نهب الثروة والتي باتت فضائحها تزكم الانوف كما تشهد به الرسائل المتبادلة بين امير المؤمنين عمر ابن الخطاب ووليه علي مصر عمرو ابن العاص. فالاول كتب اليه يقول ” بلغني انك فشت لك فاشية من خيل وابل فاكتب لي من اين لك ذلك المال … ” فالاتهام بسرقة اموال المصريين بين الصحابة لم تبطلها كونهم موعودون بالجنة مثلما سياتي الحديث عن موقف عثمان. بل ان المساجد لم تنجو من تلك الافة فمواد بناء المسجد كان اما من احجار الاهرامات بعد خلعها وهدم الاهرام الصغيرة السهلة علي المخربين للحضارة وكذلك الاعمده التي اخذت من المعابد والكنائس بعد هدمها.
لم يسأل امير المؤمنين ابن الخطاب، اعدل الخلفاء، عن حال الدعوة الي الاسلام وكم عدد الذين دخلوا الدين الجديد انما كان يسأل عن الثروة وكيف حجبت عنه وعن ارسالها له. ولم يصدق امير المؤمنين رد عمرو بن العاص الذي نفي اختلاس جزء لصالحه من الاختلاس العام لصالح من هم خارج الاوطان. فارسل اليه محمد ابن مسلمة ليقاسمه المنهوب الخاص من المنهوب العام. هكذا كتب المقريزي فيقول ان حكام مصر منذ ابن العاص وحتي عصرالمقريزي في القرن الخامس عشر كانوا يحوزون ثروات طائلة لا حصر لها. بالقطع فان المصدر الي الخارج كان ايضا مرضيا لجموع جائعة لا تشارك في عملية الانتاج والعمل بل تستبيح ثروة الاخرين بحجة فعل السلاح عملا بالقول الشهير العربي المذكور بكتب التراث بان الرزق قد جعل تحت سن الرمح. بعد ابن العاص جاء ابن ابي سرح قريب عثمان ابن عفان عملا بان الاقرباء اولي بالمعروف وبالتالي بالاقتراب من مصادر الثروة لجعلها في خدمة الجماعة الوظيفية بفرعيها في الامصار وفي دار الخلافة. فلما درت اللقاح باكثر ما كان يدرها ابن العاص انبسطت اسارير ابن عفان وكتب لابن العاص ان اللقاح قد درت من بعدك يا عمرو. ومعناه ان الخير الوافد عليه قد زاد من بعد عزلك ، فرد عليه ابن العاص بان فصالها ستهلك. بمعني أن قريب عثمان ابن عفان لم يترك شيئا للابناء حتي يعاد الانتاج في الاعوام التالية. اي ان النهب قد وصل لعدم بقاء شئ من الثروة في مصر.
لم يكن الوضوح والشفافية بهذا القدر بين الصحابة واوليائهم وبين الموعودين بالجنة وقادتهم العسكريين بقدر ما كان الامر متعلقا بالاموال والثروة والسبي والغنائم. لهذا تذكر كتب التاريخ قول الخليفة معنفا الوالي علي ارض مصر بانهم خزنه له. لم يقل انهم دعاه لهم بل خزنة لهم. فليس مستغربا ان تظل الحرب علي ارض مصر في اتجاهين طوال عصر حكم العرب لمصر وحتي نهايتهم بتولي احمد ابن طولون الحكم مبعوثا من الخليفة العباسي. اتجاها ضد المصريين لضمان مصادرة الانتاج المصري واتجاها للحرب ضد الوالي الجديد استئثارا بما هو قائم والتي كانت تنتهي دوما لصالح الجديد الوافد. ادرك ابن طولون ان المسالة لا تعدو غنائم وثروات لهذا استقل بمصر وعندها بدء عصر من الازدهار الاقتصادي والفنون والمعمار وهدأت احوال المصريين وهو ما لم تعرفه مصر منذ الرومان وحني نهاية حكم العرب لها. فالنظامين كانا متشابهين في اهداف كل مهما بجعل مصر سلة غذاء لروما او مصدرا للغذاء مع اضافة للاموال في زمن العرب. من القصص النادرة لكنها الفاضحة هو تعنيف امير المؤمنين وعقابه لاحد الجنود العرب القادمين عندما ارسله ابن العاص للخليفة بتهمة هروبه من الجيش ولجوءه للفلاحة في ارض مصر. ربما لان العمل من المكروه عند العرب.
كانت تلك مقدمة حتي ندرك آليات النهب ومعرفة مصادر الثروة وكيفية جبايتها في بلاد لا تتكلم لغة القادمين علي اسنة الرماح بحجة الاسلام. فالدواوين التي هي سجلات الممتلكات والارض والثروة والزراعة كانت كلها مدونة باللغة القبطية اي لغة اهل البلاد. فاللغة القبطية اصبحت سهلة بعد ان تحولت صورتها المكتوبة الي الابجدية اليونانية مع بقاء الصوتيات والفونيمات والالفاظ والجمل والتراكيب اللغوية قبطية صرفة كامتداد للغة الفرعونية القديمة. انها فقط صورة الكتابة التي تغيرت وليس اللغة ذاتها كما يدعي كثيرين. فبساطة وسهولة الحرف اليوناني في الكتابة بدلا من صور الطيور والحيوانات الجميلة في اللغة الفرعونية جعلت التدوين اسهل واكثر كفائة.
كان من الطبيعي ان يفضل العرب استخدام لغتهم للتفاهم بدلا من استخدام المترجمين تجنبا للغش وعدم الامانة. فالخليفة المامون – زمن العباسيين – عندما اتي لمصر لمحاربة اهلها وضمانا لايراد الخراج كان معه مستشاره الخاص علي ابن الرضوان الذي قيل انه طبيب وعالم لغويات. فقام بدور المترجم مما يدل علي ان اللغة العربية لم تكن لغة محكية عند اهل البلاد حتي ذلك العصر رغم ان تعريب الدواوين لصالح العرب وتسهيلا لحصرهم حجم الثروة بدلا من القبطية. في البداية قام عبد الملك ابن مروان الاموي بتعريب الدواوين اي بمنع اللغة القبطية من كتابة السجلات المصرية . هنا تتاكد نظرتنا السابقة فكان اول استخدام للغة العربية ايضا في صالح النهب وليس الدعوة للاسلام. بعد تعريب الدواوين ازدادت محنة الناس فقرر من تولي بعده الحكم ان يجمع خراج عامين مقدما فاشتد الكرب علي المصريين فطارهم الجنود والعربان واجبروهم علي الزراعة بالقوة.
لكن امر اللغة لم يكن فقط لصالح الثروة بل امتد ليفرض نفسه علي مسائل اخري كثيرة منها الصلاة بالعربية وليس بالقبطية حتي ان الاقباط اضطروا الي اتخاذ اللغة العربية لقراءة التراتيل خاصة بعد ان أمر الحاكم بامر الله بمنع استخدام اللغة القبطية في الحياه اليومية. وقيل قطع لسان من يتحدث بها. ومع ذلك ظل كثيرين يتعلموا في المدارس القبطية ليدرسوا الطب والرياضة والفلك التي هو موروث فرعوني بجدارة وتخلوا منه لغة العرب الوافده. فكلما انتشرت اللغة العربية بمحتواها الثقافي العربي كلما قلت اعداد تلك المدارس وزادت الامية وانتشر الجهل وتآكلت العلوم في المجتمع المصري، الامر الذي وصل الي حد انه لم يبق بمصر من يعرف القراءة والكتابة للغة العربية ذاتها سوي ما يقرب من الخمسين شخصا حسب ما جاء في رسالة القنصل الروسي في مصر للقيصر في زمن تولي محمد علي السلطة في مصر.
فالغازي او ما يسمي بالفاتح كان يريد ان يحاط علما بكل ما يجري علي الارض وفي البلاد ضمانا لامور كثيرة اولها عدم افلات الثروة منه وضمان تسمع ما يقال عنه كحاكم ومعرفة ما يجري من مؤامرات ضده كاجنبي علي ارض الوطن. سبب اخر جعل بعض من اهل البلاد يتبنون اللغة العربية كلغة تخاطب كونهم وعبر الاف السنين كانوا هم الموظفين في ادارات الدولة منذ عهد الفراعنة والقائمين علي شئون العباد فيها. وللاحتفاظ بوظائفهم اضطروا للتحدث بلغة الغزاه ضمانا لاستمرار وجودهم علي ارض وطنهم بدلا من اقتلاعها. وهو ما يثبت ان اللغة عند المصريين ليست بذات القيمة بقدر الثبات علي الارض والتمسك بالوطن حتي ولو كان محتلا من الاجانب. فاللغة عند المصري اداه وليست هدفا، وسيلة وليست قدسا من اقداسه. فليس غريبا اذا ان تنهار اللغة العربية حاليا لصالح لغات اخري بل يتخوف البعض من انقراضها لعدم امكانها من دخول العصر الحديث بكل معارفة وادواته، ولا يهب احدا لانقاذها. قديما كان التحول اللغوي مرده الي سياسة الاجنبي المحتل اما الان فالعولمة والتحولات المعرفية باتت خطرا ليس فقط علي الثقافات ذات اللغات المقدسة والغير مقدسة انما علي كل حامل للغة لم تعد تفي بحاجة العصر من خيرات مدنية وامن اجتماعي وعلوم وامكانية الدخول الي العصر الحديث.
elbadry44@gmail.com
* القاهرة