التوريث السياسي هو الأكثر تعرّضاً للنظر بين انماط التوريث الاخرى. وهو الأكثر مدعاة للإدانة. فأن يمنح المسؤول الاول كرسيه لإبنه في ظل نظام جمهوري، وان يحذو حذوه مسؤولون اقل درجة، فهذا من باب إعاقة الطاقات السياسية الجديدة والمجدّدة من باب وضع السدّ المنيع امام ولادة هذه الطاقات ونموّها. والجميع تقريبا يعلم الحاجة الماسة الى هكذا طاقات. اما ان يقترن بالاقتصادي؛ ويتشابك التوريث السياسي مع التوريث المالي… فهذا ما يضاعف حجم السدود والموانع. يميت الطاقات الحية من مهدها ويحول السياسة الى مناورات بقاء وإبقاء. وهذه مسألة متداولة ومدوّنة. وقد تفجّرت بوجهها حركات واقلام محتجّة منذ سنوات قليلة. خبتْ قليلا الحركات ولكن رفض التوريث السياسي في اعلى الهرم السياسي بقي موضوعا ذا شأن. رأس المال السياسي ورأس المال المالي. وتوريثمها للأبناء والاخوة او الزوجات الخ. هذا باتَ مفهوما. ومعرّضا للنقد الصريح.
اما الذي لا يتم تناوله بالعبارة الواضحة؛ الذي يُحجب عن النقد، بل تُغدق عليه المدائح كما سنرى…، فهو توريث رأس المال الرمزي. ورأس المال الرمزي يرثه الابناء عن الاب «المؤسس»، وأحيانا عن «الجدّ المؤسس» الذي شقّ طريقه نحو احد عوالم انتاج المعاني: وهي عوالم تنتمي، مثل السياسة والمال، الى المجال العام. المجال الذي يخصّ كل الناس. كالفنون، الشعر، النقد، الصحافة والاعلام الخ. هو رب «البيت الكبير»، ومنه يستمدّ ابناؤه واحفاده الهالة اللازمة. فيرثون العلاقات النافذة والامان والثقة في اجواء العظماء، وقد كبروا امام اعينهم. يرثون التقدير المسبق، تقدير محيطهم المسبق؛ وهو تقدير مسبق ايضا للنفس، بصرف النظر عن حقيقة «الموهبة» الموروثة. الاسم يطغى على سيرة هؤلاء الورثة. والنسب مدعاة للاعتزاز. وان افتعلوا التنكّر له احياناً. اسم يكون مصدر فخر للذي «تعرف عليه» يوما…
هؤلاء هم الورثة البيولوجيون لصاحب رأس المال الرمزي. اما الابناء بالتّبني لصاحب رأس المال هذا، فتجدهم ايضا في هذا المجال: وريث مخرج عظيم، وريث روائي عظيم. بعدما رافق وارثه منذ بزوغ نجمه… وحتى وفاته.
ورثة رأس المال الرمزي ليسوا كلهم من الطبائع نفسها. منهم من ينهكه ثقل الارث. ومنهم من لا يبالي به، او يبدّده، او يفرط به. ولكن الغالبية العظمى من ابناء هذا المجال يستمدّون من ارثهم طريقا مفروشا لإطلاق العنان للطاقات «الابداعية» التي ورثوها بصورة «طبيعية» عن آبائهم. وهم بذلك «يكمّلون المشوار»… وبعد ذلك يتوقف الامر على قدرة الوريث في استثمار رأس المال هذا، وتنمية وتعزيز قواعده. لعلّ الوراث يورِّث بذلك ابناءه الورثة.
هذا النوع من التوريث لا يقل إعاقة للطاقات الابداعية، عن التوريث السياسي للطاقات السياسية؛ الطاقات التي لا تحتاج الا لمن يحييها. انه عالم الشلل والاصدقاء والحساسيات الفائقة والتحالفات «الثقافية» او «الفنية». وتصعيد اسماء، واستبعاد اسماء والتلاعب بأخرى. يدخل فيه عامل الفساد طبعا. الفساد الثقافي اقصد. وتوريث رأس المال الرمزي لا ينفصل عن الفساد. انه مخالفة واضحة لأنظمة وقوانين اكثر وضوحا… في سبيل الاولاد والاحفاد. وهنا لا يختلف اليمين عن اليسار. الغالبية من اصحاب رأس المال هذا يورثون كنزهم العام لأولادهم. مباشرة او غير مباشرة. بالتقطير ام بالجملة. واحيانا في غير مجال المعاني: في مجال السياسة والمال.
صحيفة يسارية قامت بمبادرة توريثية اثناء شهر رمضان الماضي، كانت مادة للتندّر. اعدّت ملفاً شبه يومي اسمه «البيت الكبير». وفي كل حلقة من حلقاته «بيت» من البيوت في مجال الفن او الكتابة او الصحافة. وحيثية كل «بيت»: أبٌ أو جدّ احيانا، يقف على رأسه ويرسم مسيرة ابنائه او احفاده الافذاذ ايضا والسائرين نحو هدفه نفسه. فرادة الاب، فرادة الابناء، تلحظها الصحيفة حول كل «بيت» من البيوت «الكبيرة». والجاه، الجاه العادي الذي نعرفه. خذ هذا المثل عن جنازة احد «الكبار» الذي ورّث ابناءه الثلاثة ما يفيض من الجاه: «أظهرت مراسم الجنازة الاهتمام الاعلامي والرسمي بها قيمة «آل (كذا)» في الحياة السياسية والفنية والاعلامية والاقتصادية المصرية». قيمة «البيت» من قيمة الذين حضروا الجنازة. الوزراء ورئيس الحكومة ورئيسا مجلسي الشعب والشورى ونجوم كبار»…
على مدى الشهر الكريم كان للملف روايات عن «جينات إبداعية» وعن «تشبّع الابناء باجواء الابداع»، و«روافد المعرفة». عن «سر الابداع» لدى «البيت» الفلاني. وعن استمرار الابداع عبر الكتابة في هذه العائلة العلاّنية؛ «بعد ان ظلت لعقود متتابعة لها حضور ادبي وصحافي وانساني واضح». عن الابداع التلقائي لدى الاحفاد، عن «المواهب المتميزة» للأبناء، عن الاجواء التي كبروا وتعرفوا اثناءها على «كبار المسؤولين ورجال الفكر والثقافة والفن»… فتهيّأت لهم اسباب حتمية للفرادة والعطاء… الخ.
هكذا تقرأ الحلقات ولا تصدق عيونك. صحيفة يسارية؟! نعم. وهل من تناقض؟ بالعكس. انه اقتراب من الواقع. الانفصام بين القول الفعل اقل حدّة هنا. نوع من انواع «التعاطي مع الواقع لتغييره». فالورثة المعنيون هم في غالبيتهم من الاجواء «التقدمية» و«اليسارية» و«المعارضة».
وهذه إشارة الى ان اليساريين ايضا منخرطون في عملية قتل الطاقات والمواهب التي لا أب لها ولا أم. فمرحبا بهم في النادي!
dalal.elbizri@gmail.com
* كاتبة لبنانية- القاهرة
الحياة