نحتفل هذه الأيام بذكرى ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمي (7 نوفمبر حسب التقويم الشرقي)، وهي ثورة أحدثت في عالمنا تحولات عاصفة في جميع المجالات الفكرية والاقتصادية، وقادت إلى تحرر معظم شعوب العالم من الاستعمار. والى نشر الفكر الثوري، فكر التحرر والتقدم الاقتصادي والاجتماعي، والمساواة في الحقوق ورفض الاستغلال والاضطهاد بكل أشكاله الطبقية والقومية.
عندما إنضم أبناء جيلي لمعسكر الفكر الماركسي، كنا نتفجر بالطاقات الفكرية والنضالية، والثقة التي لا تتزعزع بصحة نهجنا، وبأننا قادرون على تحقيق المستحيل، بالانتصار على الأعداء الطبقيين، والانضمام إلى العالم الحضاري المتنور، عالم العدالة الاجتماعية والحرية البعيد عن الاستغلال.
كنا مؤمنين بنهجنا، متعصبين له بشكل مطلق ولكن اتضح فيما بعد أن ما كان يبدو قريب التحقيق أصبح مستحيلاً، وأقرب إلى المعجزات الإلهية. وكنا قد تجاوزنا جيل الحماسة والاندفاع، واتسعت معارفنا وتجاربنا السياسية والفكرية، وبدأنا ننظر للقضايا الفكرية والاجتماعية، بواقعية ومنطق مختلفين.
لم يكن الحديث عن نظرية، أو فلسفة تتعارك مع الواقع الفكري والاجتماعي، إنما عن دين له كهنته وبطاركته ونصوصه المقدسة بل وله حرمته الدينية. ولم نفهم أن هذا يعتبر تجاوزا للفكر العظيم لمؤسس الماركسية – كارل ماركس، قزم فلسفته، وحولها إلى فكر ضيق الأفق، وحارب كل المتنورين الذين طرحوا مواقف مختلفة عن النهج السوفياتي الرسمي. فهل نستهجن أن التجربة الاشتراكية الأولى في العالم وقعت ضحية أخطاء الممارسة الفكرية والسلطوية للنظام الجديد، الذي مارس نهجا غير ماركسي بشكل مطلق؟
ليس من السهل طرح موضوع ثورة أكتوبر وتجربة بناء النظام الجديد في عجالة صحفية، أو مراجعة فكرية متعجلة. وأنا أعتقد أن الموضوع لم ينل حقه من التحليل والمراجعة الجادة التي تعتمد على المعطيات والحقائق بدون مواربة. ما أقوله لا ينفي عظمة الفكر الماركسي ونظريته لبناء المجتمع الجديد. السؤال هل طبقت الماركسية في التجربة السوفياتية، أم طبقت ماركسية روسية – سوفياتية – لينينية وستالينية؟!
اليوم لا يمكن الحديث عن ماركسية واحدة. هناك أشكال عديدة انطلقت من الفكر الماركسي. الماركسية الأوروبية مثلا، وأبرز ممثل لها الفيلسوف الايطالي انطونيو غرامشي الذي يعتبره البعض مرحلة جديدة في الفكر الماركسي لم يعط من الأحزاب الشيوعية الأهمية التي يستحقها وما زالت كتاباته تشكل نافذة فكرية ثقافية وسياسية وفلسفية بالغة التأثير في الثقافات العالمية كلها.
إن عدم قدرة الأحزاب الشيوعية الفكرية، وعدم رغبتها , وربما خوفها، من اعادة تقييم المرحلة التاريخية لتجربتها، بدءاَ من أول تنظيم شيوعي عرفه التاريخ، في أواسط القرن التاسع عشر، على يد أباء الفلسفة الماركسية – ماركس وانجلز… ووصولا لثورة أكتوبر وتجربتها التاريخية وإنهيار هذه التجربة، هو من دلائل مواصلة الانهيار في البنى التنظيمية للأحزاب الشيوعية، وفقدانها لطليعتها الفكرية، واحيانا التنظيمية في مجتمعاتها.
إن تجاهل ( أو العجز ) نقد التجربة الذاتيه، ونقد التجربة الاشتراكيه، سيبقى هذه الاحزاب عاجزة عن إعادة تكوين نفسها وفكرها ونضالها من جديد، والأهم عجزها عن صياغة مشروعها الاشتراكي الجديد، في ظروف عصر العولمة المتوحشة.
لا شك أن النظام السوفياتي، عبر مؤسساته الداخليه والدولية، استطاع ان يفرض على الحركة الشيوعية العالمية مواقف غير قابلة للنقاش، فرضت جمودا فكريا وتفكيرا اصوليا على الحركة الشيوعية منعتها من تطوير طروحات ماركس. ماركس لم يكن نهاية الفلسفة، بل كان ثورة في الفلسفة توقفت بحدود التجربة اللينينية وشوهتها أكثر التجربة الستالينية. مع كل عظمة الماركسية، الا انها ليست نهاية للفكر الثوري والاجتماعي. صحيح انه في كل تاريخ التفكير الحديث لم توجد نظرية اجتماعية وفلسفية ورؤية اقتصادية وسياسية، لفتت أنظار الشعوب وهزت أركان الدول، وأثرت على ملايين البشر وغيرت نهج حياتهم وتفكيرهم بقدر ما قامت به الماركسية.
لا أعرف مجالا علميا أو انسانيا أو ثقافيا لم تؤثر عليه الماركسية ولم تترك عليه ثورة أكتوبر تأثيرها الواضح، سلبا أو ايجابا.. في الاقتصاد تأثيرغير قابل للنقاش.. في علم التاريخ والعلوم الاجتماعية والفكر السياسي وفي مناهج الفلسفات الجديدة.. لم يظهر أي فيلسوف هام دون أن يتناول المأركسية بالعديد من طروحاتها ويرى بها فلسفة تمثل تحديا كبيرا أمام كل الطروحات الجديدة.
البعض وصف ما طرحته الفلسفة الماركسية بنفس القيمة العلمية العظمى لطروحات كوبرينيكس وغاليليو في علوم الفيزياء.. التي أحدثت انقلابا علميا في المعرفة البشرية والعلمية فتحت آفاقا واسعة لتطوير كل العلوم وانطلاقها الى فضاء رحب أكثر اتساعا من حدود السماء!!
بالطبع هناك قضايا لم تكن صحيحة، وكان يجب تطويرها. ولكن الأصولية السوفياتية، والجمود العقائدي الستاليني وأثره السلبي على مجحمل الفكر الشيوعي منع طرح رؤية تطويرية لما تبث عدم صحته كقاعدة يمكن تطبيقها في كل المجتمعات البشرية. ومثال واحد على ذلك فكرة البروليتاريا، التي لم تتطور الا في ظروف اجتماعية واقتصادية اوروبية، وحتى في الولايات المتحدة المتقدمة اقتصاديا لم تنشأ بروليتاريا حسب المفاهيم الماركسية.. فكيف الحال في الشرق العربي وفي افريقيا؟
للبروليتاريا تفسير اقتصادي اجتماعي.. ولم تخلق ظروف مشابهة لتصبح البروليتارية نظرية عامة شاملة لكل الشعوب والبلدان.
قضية صراع الطبقات؟ هل حقا هو صراع تناحري..؟ قضية الأممية هل أثبتت نفسها ام أن الانتماءات القومية استمرت سائدة؟ مثلا بعد انهيار دولة الأممية السوفياتية، ومعسكرها الاشتراكي، عادت الأمور الى سابق عهدها من التقوقع القومي والطائفي والأثني لدرجة التناحر والتفسخ كما حدث في يوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا.. والاتحاد السوفييتي نفسه، ودوله السابقة، وآخر نموذج ما يجري في جورجيا!!
لقد طرأت على بنية الطبقة العاملة تغييرات عميقة ألغت كل الفكرة السابقة السائدة في الفكر الماركسي عن طبقية المجتمع. الطبقية قائمة ولكنها ليست العامل الحاسم في التطور التاريخي. لست الأن في مجال الخوض في هذا النقاش، ولكني على استعداد للعودة له، إنما أريد أن احدد بعض الأمور الأساسية، فيما أظنه ضرورة لإحياء التنظيمات الماركسية، وعلى رأسها اعادة صياغة المشروع الاشتراكي لهذه الأحزاب في الظروف التاريخية الجديدة. هذا يفترض ان تتخلص الأحزاب الشيوعية، من فكرها شبه الديني، وأن تخرج من انعزاليتها الفكرية ومن العصبية الحزبية التي تميز كوادرها القديمة… وان تقوم بمهامها الفكرية والاجتماعية الجديدة، بالتصدي الفكري للموجة التي اخرجت الدين من روحه الانسانيه العامة، وحولته الى جهاز كهنوتي استبدادي.
أن مهمة التغير في العالم لم تعد مهمة طبقية فقط وبالتحديد… وأصلا لم تكن مهمة طبقية حتى في ثورة أكتوبر، انما مهمة كل المجتمع بكل فئاته واتجاهاته الفكرية، من أجل بناء مجتمع المساوة والعدل، بدون اضطهاد وبدون سحل للطبقات التي ساهمت بالتطور الاقتصادي والثقافي والعلمي والتكنلوجي، وباتت تعرف كطبقات عدوة يجب قبرها. هل ساهم قبر الرأسمالية الروسية في تطوير روسيا؟ ألم يطرح لينين سياسة “النيب” من أجل دمج الراسماليين في التطوير الاقتصادي.. حتى جاء ستالين وبدأ مذابحه؟
ان مهمة التغيير ان يضع المجتمع الجديد الانسان في أعلى مراتب اهتماماته. وهذا للأسف لم يتحقق.. وقاد لفشل التجربة.. وكراهية المواطنين لنظامهم الحزبي المستبد.
هل بالصدفة ان انتاجية العمل في الدول الاشتركية، والاتحاد السوفييتي على رأسها، كانت من أدنى المستويات في العالم؟ ان دراسة هذا الجانب ضرورية لفهم الأخطاء التي دمرت تجربة ثورة أكتوبر. أيضا قضايا الادارة. اليوم الادارة علم. في الاتحاد السوفييتي كانت من نصيب الانتهازيين أعضاء الحزب.. ان ادارة سياسية للاقتصاد وغير مهنية هي كارثة قومية للإقتصاد !!
ان حديثنا عن ذكرى ثورة أكتوبر مليء بالشجن والألم. كنا نريد لهذا الحديث ان يكون حديث فرح وانتصار الانسان على قوى الشر.
ومع ذلك تنتصب أمام الحركات الماركسية تحديات ومهمات بالغة الخطورة على اعادة اللحمة لتنظيمها واحداث انطلاقة فكرية بنهجها.
هذه المهمات يجب ان تأخذ مكانها الطليعي في الطرح السياسي والفكري، وعلى رأسها فكرة الدولة الديمقراطية، دولة صيانة حقوق الأنسان وحماية حقوق المواطن.
لا أعني ان كل التجربة سلبية بل هناك انجازات عظيمة في مجالات ومستويات مختلفة، خاصة الدور الذي قام به جيل الطلائعيين، وجرأتهم في طرح الأفكار الثورية والنشاط الخلاق، وقدرتهم على التثقيف الفكري للكوادر ولأوساط اجتماعية واسعة.
في هذه الذكرى نحني رأسنا اجلالا للثوريين الطلائعيين الذي أحدثوا أعجوبة فكرية وسياسية في مجتمعاتهم وفي واقع عالمنا كله.
nabiloudeh@gmail.com
* كاتب، ناقد وإعلامي – الناصرة
بذكرى ثورة أكتوبر.. لا بد من بداية جديدة الاشتراكية ينقصها خطة المارشال . في منصف الثمانينات من الفرن الماضي في الاتحاد السوفيتي عرض فيلم روائي باسم ( التوبة ” repentance “) أو طلب المغفرة, أو الاعتراف بالأخطاء,لا اجزم إنما سرع في تكوين الرأي العام السوفيتي إن النظام الحاكم اغترف جرائم لا يمكن السير إلى الإمام بدون الاعتراف بها , لكن النظام استمر في العابة حتى انتهى في أغسطس 1991 . لم يجري حتى الآن أن الحزب الشيوعي السوفيتي ولا أي حزب يساري في العالم ارتكب أخطاء فادحة إن اعترف بها أو طلب المغفرة من الشعب من ناحية أخلاقية على الأقل… قراءة المزيد ..
بذكرى ثورة أكتوبر.. لا بد من بداية جديدة من جديد أقحم نفسي في موضوع يحق إن يخوض فيه فقط مفكرينا ومثقفينا و أساتذتنا من لهم ضلع كبير في قضايا الاجتماع والسياسية والفلسفة, أنا إنسان متوسط الوعي- فنان تشكيلي – الفكري, لان مجال نشاطي غير مرتبط بعصر الدماغ من اجل أن تشرب البشرية عصير حلو المذاق مجانا, وفيما يعد يدفعوا ثمنا باهظا , أو من باب إسعاد البشرية -الفقراء- فقط تصدير الثورات , اوالمشاركة بروح رياضية العالية في مسابقة الجميع يتحصلوا على ميداليات من معدن رخيص . ولكن ابتلت الأغلبية من المثقفين الروس ببلى- مرض فكري- ولاحقا أغلبية المقفيين العرب للأسف… قراءة المزيد ..