دخلت «السعادة السياسية» أخيراً الى مؤشرات التنمية البشرية، بعد الصحة والتعليم والتربية والبيئة الخ. وقد عرّفت هذا المؤشر الجديد بـ«المشاركة السياسية». وهذا النوع من السعادة في اللغة والخطاب الدولييَن يخلو من البعد الوجودي والثقافي.
خذ معنى السعادة نفسه، غير المتخصص سياسياَ. تعريفه «المادي» لا يغطّيه: توفر الصحة والتربية والمال والنظافة… لا يصنعون سعادة. ربما رضا واكتفاء او حِراك طبقي الخ. لكن السعادة؟ قد تكون عاصية على التعريف. قابلة للتذكّر أكثر من التعريف.
أيام طفولتنا وشبابنا، أيام المدرسة والجامعة… فيها قصص محزنة وأحياناً مصائب. ليست كلها باللون السماوي الأزرق. ولكننا لا نتذكّرها من غير أن نردّد: رزق الله! أحلى أيام! كم كنا سعداء! هكذا نتكلم الآن عن أيام كنا نخالها سجناً في البيت أو المدرسة أو مع الأصحاب. ولو تمعنتَ في معنى السعادة، التي تلبسها لتلك الأيام، لكشفتَ عما كانت تنطوي عليه من بهجة وأمل وتوقع أمر ما، غامض ومرغوب، من المستقبل. شيء من الوثبة في الزمن المقبل، من هذه الوثبة تخلص الى قدر من التعريف للسعادة، بصفتها وعداً يحقّقه المستقبل. لكن مع العمر، تصبح السعادة في السعي نحو تحقيق هذا الوعد واستمراريته، مرهونة بتكرار الوعد وبتكرار التحقّق. قد تكون الشعوب هكذا: سعادتها السياسية كامنة في وثبتها الجماعية نحو تحقيق غاية جماعية أيضاً.
ان اجمل ما قرأت عن هذا النوع تحديداً السعادة السياسية، في كتاب توفيق الحكيم «عودة الروح». الكلام لأحد أبطاله، الموسيو فوكيه، عالم الآثار الفرنسي، المستمتع بأغاني الفلاحين حوله في الدمنهور، موجّهاً الى المستر بلاك، مفتش الريّ الإنكليزي، يقول: «نحن الأوروبيين (…) لا نستطيع ان نتصور تلك العواطف التي كانت تجعل هذا الشعب فرداً واحداً، يستطيع ان يحمل على أكتافه الأحجار الهائلة عشرين عاما، وهو باسم الثغر مبتهج الفؤاد، راض بالألم في سبيل المعبود. اني لموقن ان تلك الآلاف المؤلفة التي شيدت الأهرام، ما كانت تساق كرهاً كما يزعم «هيرودوت» الإغريقي عن حماقة وجهل. وإنما كانت تسير الى العمل زرافات وهي تنشد نشيد المعبود، كما يفعل أحفادهم يوم جني المحصول» (ص 278).
توفيق الحكيم كتب روايته عام 1927. والأرجح انه بعيد عام 1952، أي بعد «الثورة»، كانت غالبية الشعب المصري متهيئة للوثبة نفسها، وبأنغام أم كلثوم وعبد الحليم. وإن كانت الوثبة نحو هدف غير هدف الفلاحين الزراعي. وبدورة يفترض ان تدوم اكثر من سنة واحدة (الخطط الخمسية مثلاً). وثبة قصيرة بقياس الزمن المصري، وكثيفة أيضاً. لم تثمر محاصيل. بل كان لامتداداتها «الشرعية» اليد الطولى على الفلاحين السعداء من مواسمهم وزراعاتهم. استبدلت الضفاف الخضراء بالإسمنت المسلح. هاجر الفلاحون الى العشوائيات الخطيرة، حيث كسب العيش بما تيسر من طرق الارتزاق، طرق العشوائيات. من دون محاصيل ولا خطط، ولو خمسية. ومن دون الجماعة.
هُجر النيل. وهجر الريّ نظامه وبيروقراطيته. ولكن بقي فرعون، ونُخرت البيروقراطية العريقة بالفساد. فالتحولات العمرانية والمهنية أرست أسساً جديدة لجني المحاصيل. أسس تعتمد اللقاء على مصالح خاصة غير متساوية، ومصالح موقتة قابلة للانكسار والتناقض. والهدف منها الكسب، ودائماً وغالباً على حساب الآخرين، بمصالحهم وحياتهم.
قد تخطر ببالك فكرة ان الأحزاب السياسية والجماعات «المدنية» تحمل نحو هدف سياسي سعيد. فهل أوجدت السعادة السياسية؟ تلك الأطر؟ دورياً أو بصورة متقطعة؟ انظر إليها كلها. ولن تجد سوى فراعنة صغار يقفون على رأس هرمها. هرم بالقرب من هرم. أو تحته أو فوقه. ولكن في مطلق الأحوال هناك الفرعون الأكبر الذي يقف على رأس الجميع.
كان نظام الفراعنة القديم مرتبط بقواعد الريّ الضرورية لاستمرار البقاء. ومع تضاؤل وظيفة النيل الزراعية تبدّدت هذه الوظيفة. ولكن بقي فرعون الكبير ونظامه القائم على الفراعنة الصغار والمتوسطين. من غير محصول زراعي ولا مواسم ولا نظام ريّ.
فرعون من غير زراعة. فرعون من دون النيل. من اين لنا الأمل؟ يقول علاء الأسواني مؤلف «عمارة يعقوبيان» و «شيكاغو»، تعليقاً على المصائب المتتالية في بلاده ان واقع مصر اليوم افضل ما يكون للوحي برواية… او بروايات. والمعروف ان الرواية لا تروي إلا قصص التعساء والمفجوعين والمكلومين… الرواية لا تهتم بالسعداء. لذلك فإن الأسواني معه حق. ولن تكون المؤسسات الدولية قادرة على استخلاص «السعادة السياسية» عند المصريين إلا بشيء من القص واللصق.
• كاتبة لبنانية- القاهرة
الحياة
• كاتبة لبنانية- القاهرة
الحياة