ليس من محض الصدفة أن تنشر الصحف مقالتين في الأسبوع ذاته، واحدة كتبها الدكتور خليل أحمد خليل في جريدة السفير، والثانية بتوقيع “الأستاذ الجامعي” طلال عتريسي في جريدة النهار(26 أيلول2008)، تناولا فيهما الموضوع ذاته المتعلق بالشيعية السياسية وبتيار الاعتراض عليها، الذي سماه العتريسي الطريق الثالث، ثم نفى وجوده، وسماه خليل، الشيعية الثالثة، ثم استشرف ضرورة قيامها. وإذا لم يكن ذلك صدفة، فهو بالتأكيد ليس منسقا. بل هو من تجليات سخونة القضية في صفوف المثقفين عموما والشيعة منهم على وجه الخصوص، فضلا عن احتدامها في صفوف العامة.
لم يكن في وسعي أن أتفادى المقارنة بين المقالتين، أولا لأنهما تحملان وجهتي نظر متناقضتين، ولأنهما صادرتان عن أستاذين في جامعتنا الوطنية. وليس تعاطفي مع نص خليل أحمد خليل نابعا من موافقتي على وجهة نظره فحسب، بل لأنه أشعرني أنه يكتب من موقعه مثقفا وباحثا وأستاذا جامعيا، في حين خاب أملي من نص العتريسي، لأنه اختار الكتابة بمنهج العامة لا بمنهج الباحث، أي أنه كرر الحجج والأفكار التي ترددت على ألسنة المحازبين الذين يتميزون بالطاعة لا بالعقل النقدي الذي يفترض أن يتميز به المثقف، وبلغت الخيبة حد التأسي على ما آلت إليه حالة جامعتنا التي تخرج منها علماء وأكاديميون وبحاثة، كما تخرج منها مناضلون. لذلك سأركز قراءتي على المفارقة اللافتة في المقالة، المتمثلة في دفاع “الأستاذ الجامعي” عن المذهبية والجهر بها من غير خجل.
يبدأ العتريسي من لندن. هناك يجد الحجة والدليل، إذ لم يعثر في بلادنا القريبة على من طرح الفكرة، فقصد بريطانيا و رئيس وزرائها طوني بلير الذي طرح شعار “الطريق الثالث” بين الشيوعية المنهارة في الاتحاد السوفييتي والرأسمالية الغربية. إننا نعتقد أن هذا السفر الطويل لم يكن ضروريا، إذ من الممكن العثور على عشرات الحالات التي يمكن وصفها بالطريق الثالث، وعلى عدد مماثل من الاقتراحات التي سبقت اقتراح طوني بلير: بين أن يذوب الشيعي في ثنائية أمل- حزب الله وأن يعاديهما، هناك طريق ثالث؛ بين الانبطاح أمام سوريا ومعاداتها هناك طريق ثالث؛ بين أن يكون المرء طائفيا ومذهبيا وأن يكون معاديا للطوائف، هناك طريق ثالث؛ بين أن يكون المرء عربيا ضد الوطن أو وطنيا ضد العروبة هناك طريق ثالث؛ بين أن يكون المرء مع المقاومة شتاما لخصومها أو مع خصومها شتاما لها هناك طريق ثالث؛ بين أن يكون المرء متزمتا دينيا وأن يكون هرطوقيا هناك طريق ثالث؛ بين أن يكون المثقف عصا في يد الثنائي الشيعي أو بوقا ضده هناك طريق ثالث. إن الطريق الثالث هو الخيار الجاهز دوما بديلا عن تطرفين، والأمثلة لا تحصى ولا تعد، ولم يكن العتريسي بحاجة إلى تلك الرحلة المتعبة وراء طوني بلير و”الأحزاب اليسارية الاجتماعية والاشتراكية الاجتماعية” في أوروبا، لكي يقنعنا بوجهة نظر لن تكون مقنعة حتى لو شحنها بكل الأسماء اللامعة و استنجد من أجلها بكل الأمثلة الأممية.
المستغرب في الأمر أن طريق بلير الثالث هو ثالث بين نقيضين” رأسمالية الغرب وشيوعية الاتحاد السوفييتي”، على ما ورد في المقالة. أما الطريق الثالث العتريسي الشيعي فهو ليس بين نقيضين، بل هو ثالث عددي يضاف إلى الثنائي حزب الله-أمل الحليفين اللدودين، وما كان للمشابهة أن تستقيم إلا باستحضار تناقض ليس موجودا داخل الثنائية الشيعية، ما اقتضى الاستنجاد بتناقض آذاري بين14 و8، وكان استخدامه مفتعلا، لأن الثالث في هذه الحالة لا يكون بالضرورة شيعيا، بل ثالثاً وطنياً بين نقيضين مؤقتين. وهما مؤقتان لأن القوى المكونة لفريقي آذار كانت كلها تحت عباءة النظام الأمني السوري، وها هي اليوم تنخرط في صراع المحاصصة الودودة…. لهذا لم يكن سفر العتريسي موفقا ولا كان ضروريا.
إذا سلمنا مع العتريسي أن “طريق بلير الثالث لم يبصر النور” فهذا ليس دليلا ولا حجة على فشل كل خيار ثالث، ولا سيما الطريق الشيعي الثالث، إلا إذا كانت مقاييسه في الفشل والنجاح كمقاييس العقل السياسي العربي في النصر والهزيمة أو في الربح والخسارة. ثم إن النفي المطلق بلا النافية للجنس (لغويا)، على ما ورد في عنوان مقالته، هو في حد ذاته، مثل كل جزم وتوكيد، مجاف للعلم. أليس ما ينشر في وسائل الإعلام وما يحصل من تحركات متفرقة ومتنوعة، على فاعليته المحدودة حتى الآن كافيا في نظره؟ وإذا لم يكن كافيا فلماذا هذا الهجوم الكاسح عليه؟ ألا يكفي كل ذلك، ومعه اهتمام صاحبنا، ليكون دليلا على أن الطريق الثالث ممكن عقلا أو تخيلا، أو ممكن، على الأقل، وهماً؟ فيصير النفي القاطع، بالتالي، منافيا لشيم الباحثين وتقاليدهم العلمية. فضلا عن ذلك، إذا كان لنا أن نجاري الكاتب فإننا نقول له، بلغة الجزم الحسابي، إن مصير الشيعية السياسية لن يكون أفضل من مصير المارونية السياسية، وليس من حل للأزمة الوطنية إلا في الطريق الثالث، طريق الدولة العلمانية المدنية، دولة القانون والمؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص والعدالة والحريات الديمقراطية.
يبدو أن المقياس الذي اعتمده الكاتب في الحكم على الطريق الشيعي الثالث بالفشل هو القدرة (أو عدم القدرة) على بناء حزب، أو على تنظيم الاعتراض على الثنائية الشيعية. فلا حزب الطريق الثالث قام ولا الاعتراض على الثنائية انتظم في حزب. أي أن الدعاة ظلوا “أفرادا”، وهذا صحيح، ولم يجتمعوا ولم يتوحدوا، وهذا من نقائص تحركهم، أما نقيصته الكبرى فهي صفته الشيعية، الصفة التي يخشى منها الثنائي على نفسه، ونخشى نحن من تأثيرها السلبي، لأن التحرك لا يكون ناجحا إلا إذا كان ذا طابع وطني.
المحاججة الواردة في مقالة العتريسي لم تكن مفاجئة أبدا، فهي تكررت على ألسنة المحازبين والمتعصبين والمذهبيين، وفي الخطب والتصريحات والبيانات، وتداولتها كل وسائل الإعلام المرئي والمكتوب والمسموع، وملت أسماعنا من تردادها في بيوت الأقارب والأصحاب وفي مماحكات الأميين من الدهماء، وكذلك، للأسف، بين طلابنا وزملائنا. لكن المفاجئ فيها هو ورودها مكتوبة على لسان من عرف نفسه أنه أستاذ في الجامعة اللبنانية. ذلك أننا ننتظر من الأستاذ الباحث أن يرفع النقاش إلى مستوى البحث العلمي، لا أن يتناول الموضوع على طريقة السياسيين أو المحازبين أو العامة من أتباع الزعيم أو الرئيس أو الأمين العام.
يقول العتريسي عن المعترضين الشيعة على ثنائية أمل- حزب الله إنهم “شخصيات لم يعرف عنها سابقا…انتماءها (الصحيح لغويا: انتماؤها) الشيعي السياسي أو العقائدي أو الطائفي أو المذهبي… بل كانوا من ذوي الانتماءات الماركسية أو الاتجاهات اللادينية أو من منتقدي الحالة الطائفية السياسية… ومن هؤلاء أيضا من اكتشف أنه شيعي…”
يبدو أن قضية الانتماء عصية ومعقدة و مربكة ومحيرة، ولاسيما لدى شخصيات عادت من انتماءاتها أيام النضال الوطني اللبناني الفلسطيني، وكنا مع صاحبنا في عدادها، لتبحث عن صيغة جديدة لهذا الانتماء، فحاولنا أن نجتهد. صحيح أن أصحاب الطريق الثالث ليسوا هم الذين اكتشفوا أنهم شيعة، بل الثنائية الشيعية هي التي فوجئت بهم فحاولت ألا تعترف بشيعيتهم وأن تخرجهم من صفوف الطائفة لنقص في طواعيتهم.
هذا ما حصل مع كل الكفاءات الشيعية، العلمية والدينية والمالية والاقتصادية والأكاديمية التي وضعت بين خيارين: إما الطاعة سبيلا إلى الحظوة، أو التمرد فالتكفير والرمي بالحرم. ولا يخفى على الدكتور طلال العدد الكبير من الشيعة من غير أهل الكفاءة ممن لم يشرفوا الطائفة ولا الوظيفة العامة ولا الوطن، الذين سرعان ما انتهى الأمر ببعضهم على لائحة المضبطة الاتهامية المهينة بحق الطائفة كلها. تواطأ مع الثنائية الشيعية على هذا الأمر كل أهل النظام، قبل أن يتوزعوا بين 8 و14، أي حين كانوا جميعا تحت مظلة النظام الأمني اللبناني السوري، الذي كانت الطاعة عنده مقياسا شبه وحيد للكفاءة، وهو مقياس لا يبني كفاءة ولا يؤسس لوطن. في تلك الفترة تأسست قيم الطاعة والولاء: ولاء الزعيم للجهاز وولاء “الكفاءات” للزعيم، وولاء الأزلام للمحاسيب، ومن بينها، للأسف، ولاء “المثقفين” ووقوفهم على أبواب السلطان، ما جعل الجامعة مطية للسياسيين ومصالحهم بدل أن تكون منبرا للبحث العلمي، وهذا أبشع أنواع الفساد والإفساد.
كلنا، نحن العائدين من أحزابنا، نحن وأنت أيها الزميل الكريم، رحنا نعيد النظر في قضية الانتماء، وافترقت خياراتنا. كنا، نحن وأنت، الماركسيين أو من يزعم ذلك، لا نعير اهتماما لانتماءاتنا الطبيعية العائلية والطائفية، فرفضناها وتعالينا عليها وزعمنا أنها لا تتسع لأحلامنا القومية والأممية فجافينا الأقارب والمتدينين وعادينا الطقوس وعشنا حالة اغتراب مع أنفسنا ومع محيطنا الاجتماعي، الخ. بعد الانهيارات الكبرى، اندفعنا نقرأ ماضي سيرتنا بعين نقدية بحثا عن صيغة جديدة للانتماء، فوجدنا أننا حين رفضنا انتماءاتنا الطبيعية كنا نمارس نوعا من التطرف هربا من وقوعنا في تطرف آخر هو الذوبان فيها. اقترحنا “طريقا ثالثا”. ورأينا أن الطوائف هي أرحامنا، خرجنا منها، ولا يحق لنا أن نكون معها أو ضدها، لأنها منبتنا. رأينا أن الطوائف أرحامنا ولها علينا الاحترام والعرفان، لكنها ليست أوطاننا ولا يمكن لها أن تحل محل الأوطان، ورأينا أن علمانيتنا جنحت قليلا حين وضعنا، بموجبها، الدولة في مواجهة الدين، ولم يكن الدين هو المقصود بل المؤسسة الدينية التي راحت تعمل حثيثا على تحويل الطائفة إلى وطن. في المقابل رأى سوانا، بعد فشل محاولته العلمانية، أن العودة إلى الطوائف والذوبان فيها هو المنقذ من الضلال. إذا كانت علمانيتنا قد بالغت في النفور من انتمائنا الطبيعي إلى طوائفنا، فمن المبالغة كذلك أن يفضي النقد الذاتي إلى النفور من العلمانية والوقوع في نقيضها، فيجهر “الأستاذ” في الجامعة الوطنية بطائفيته ومذهبيته ويتباهى بهما، ويرضى لنفسه بأن يكون جزءا من الدهماء التي تتحرك بقوة الغرائز و بقرار زعيم الطائفة.
عودة الأستاذ الجامعي إلى طائفته اليوم تعني تخليه عن دوره الثقافي العلمي الأكاديمي، وتحوله إلى تابع ومريد لمدرسة المعممين ونمط تفكيرهم وطريقة إدارتهم شؤون الدنيا، التي لا هم لديهم إلا إقناع جمهورهم بعدم جدواها. إنها تعني استسلام الجامعة للجامع، والبحث العلمي والتفكير الهادئ لصخب مكبرات الصوت ولأسلوب التهديد والوعيد يستعيرونه من النصوص، ليزعموا احتكارهم امتلاك أبواب الجنة، و لينصبوا أنفسهم حراسا على الدين، وليمارسوا باسمه كل صنوف الاستبداد، وليعيدوا الوعي الاجتماعي إلى مستواه الأسطوري الخرافي وإلى عصور ظلامه قبل عصر الجامعة.
الثنائية الشيعية فوجئت بانتماء هذا العدد الكبير من الكفاءات الشيعية إلى الطائفة فلجأت إلى تكفيرهم وإعلان خروجهم من الجماعة وعليها. إنه أمر مبرر أن تلجأ ثنائية أمل- حزب الله إلى هذا السلاح. أما أن يلجأ باحث وأستاذ جامعي إليه فهو مدعاة للحزن على الجامعة وأهلها. إنهم، يقول العتريسي، “أقرب إلى أن يكونوا جزءا من فريق الرابع عشر من آذار نفسه دون سواه إن لم يكونوا كذلك…”. وهل هو عيب أو حرام أن يكون للمرء رأي مخالف لقيادة الثنائي الشيعي؟ الأستاذ الجامعي اختار موقع المحازب لا الأستاذ. من حقه أن يختار الموقع الذي يريده، لكن من واجبه، لأنه أستاذ جامعي، أن يحدد موقعه بصفته محازبا فلا يزعم صفة الباحث في هذا المجال على الأقل. إن من طبيعة الأمور أن يكون للأحزاب أتباع ومناصرون، ومن الطبيعي أن يناكف الحزبيون بعضهم بعضا، لكن سياسة التكفير لم تعد معتمدة إلا في أنظمة الاستبداد وفي الأحزاب الشمولية وفي الحركات الشوفينية، التي تلجأ كلها إلى استنفار كل أنواع العصبيات ضد الآخر، الآخر المختلف دينيا أو مذهبيا أو أيديولوجيا أو سياسيا أو إتنيا أو عرقيا أو حتى جغرافيا. وإذا كنا قد رفضنا أن تعتمد القوى السياسية في لبنان مثل ذلك النهج التكفيري، ورفضنا تراشقها بتهم العمالة، للإمبريالية والصهيونية والاستعمار والرجعية، الخ.من جهة، ولسوريا وإيران من جهة أخرى، فإن خيالنا يعجز عن أن يتصور كيف يمكن لأستاذ جامعي أن يعتمد هذا النهج، من موقع التباهي بكونه طائفيا ومذهبيا. التباهي يعني الجهر بالرأي في وسائل الإعلام، وكنا نتخيل أن من يتبنى هذا الموقف لا يتجرأ على الجهر به. ربما كان ذلك قصورا في مخيلتنا!
ولم نتخيل أيضا كيف لا يخجل أستاذ جامعي من أن يكرر أفكار العامة، اعتقادا منا بأن المثقف لا ينساق كالعامة وراء الغرائز الطائفية، ولا يرى الطائفة كيانا مغلقا، ولا يصدق البروباغندا الطائفية التي تحشو عقول العامة بوعي مزيف، فتنسب إلى خصوم الطائفة مثلا “اتهام الشيعة بعدم الوطنية، لأنهم لم يشاركوا في اعتصامات المطالبة بخروج الجيش السوري”. للتدقيق فحسب يا حضرة الأستاذ الجامعي: لم تكن الطائفة الشيعية هي المتهمة، ولم تكن هذه هي التهمة. المتهم هو الشيعية السياسية ممثلة بالثنائي أمل- حزب الله، المتهم هو طرف سياسي وليس الطائفة، والتهمة مناصرة سوريا وقت اعتقدت غالبية اللبنانيين، أو توهمت، أن سوريا كانت وراء مقتل الحريري وسائر عمليات الاغتيال الكبرى منذ اغتيال كمال جنبلاط. التهمة هي الانتصار لسوريا و”الوفاء” لها في مواجهة الوحدة الوطنية اللبنانية، وما نشوء 14 آذار إلا للرد على ذلك “الوفاء”، والبادئ هو الظالم.
والمخزي في سوق التهم قوله عن الشيعة أنهم كانوا “يشاهدون من يتفرج عليهم في حرب تموز وينتظر نهايتهم… ومن يهلل لسقوط القذائف الإسرائيلية على رؤوسهم”… ثم “يبدأ التمييز في بعض الإدارات (العامة) في غير مصلحة الكثير من الموظفين الشيعة”. ربما لم ينتبه صاحبنا إلى أن الفساد في الإدارة العامة اللبنانية ما بعد الطائف قد تفاقم وبلغ أحجامه القياسية، فقط حيث تبوأ شيعة، وليس كل الشيعة طبعا، موقع المسؤولية ومنها في الجامعة اللبنانية. ولم ينتبه أيضا إلى حجم الاحتضان الوطني، في كل المناطق وبين كل الطوائف، لمهجري الجنوب اللبناني من الشيعة ومن سواهم، لأن العدوان لم يميز بين لبناني ولبناني على أساس تذكرة الهوية. ولا يجوز لأستاذ جامعي أن يزعم، كما تزعم العامة، أن العدوان هو عدوان على الشيعة، لأنه، في الحقيقة والواقع، عدوان على الوطن؛ ولا يجوز له أن يقحم الشيعة كل الشيعة فيجعلهم في “مواجهة يخوضونها مع الخارج ومع الداخل في وقت واحد”. فها أنا ذا الموقع أدناه، محمد علي مقلد، الشيعي الشيوعي اللبناني العربي، الذي قاتلت العدو الإسرائيلي قبل أن تولد الثنائية الشيعية، لا يشرفني أن يحشر اسمي في عداد من يخوضون مواجهة مع الداخل، ولن أسمح بأن ترتكب باسمي أخطاء كالتي ارتكبتها مع رفاق لي في الحزب والحركة الوطنية حين استعنت على أبناء وطني بالقوى الخارجية، ولا أرضى بأن يعيدني أحد، باسم الدين أو الطائفة، إلى لغة الحرب الأهلية أو أن يزجني فيها، فأنا لم يعد لي عدو في الداخل غير التخلف والجهل والاستبداد والتعصب المذهبي والطائفي.
أما أسباب فشل الطريق الثالث الشيعي وأصحابه فيعود، برأي صاحبنا، إلى “أن القنوات الفضائية المحلية والعربية المؤيدة لقوى الرابع عشر من آذار فتحت أمامهم بسهولة لافتة ومبالغ فيها، وحتى من دون حرص على….ومن دون تمييز بين مستويات معرفتهم وثقافتهم… الخ”. هذا السبب ينبغي أن يكون، بحكم كل صنوف المنطق، الشكلي والجدلي والرياضي وغيرها، عامل نجاح لا عامل فشل. إذن كيف نفسر هذا الربط بين السبب والنتيجة؟ إنه منطق الحاج وثقافة الجامع لا منطق الأستاذ وثقافة الجامعة.
مع ذلك لنا أن نلفت صاحبنا إلى أن وسائله الإعلامية والذين يطلون على منابرها أكبر عددا، لكن الحكم على المستوى الثقافي والمعرفي يحتاج إلى معايير أقل تسرعا حتى لا يتحول إلى نوع من الشتيمة. قليلا من التواضع أيها الأستاذ، فبعض الذين يكتبون نصوصا اعتراضية على الثنائية الشيعية أرفع شأنا من أن يشهد لهم أو عليهم واحد من خصومهم، فقط لأن شهادة الخصم قد تكون منحازة وغير موضوعية.
فضلا عن ذلك، لقد صادرت الثنائية الشيعية وسائل إعلام أرضية وفضائية لا تحصى ولا تعد، من بينها أعمدة الكهرباء والأبنية والمفارق والمنعطفات حيث علقت صورا وأعلاما ويافطات وإعلانات. على أن أخطر وسائل الإعلام وأكثرها تجهيلا للناس وأكثرها إرهابا لهم هي مكبرات الصوت التي يجرب المجربون فيها أصواتهم ويطلق الهواة منها عظاتهم، وهي تعد بالمئات، ويملك الحق الحصري في إدارتها أشخاص لا يخضعون لأي معيار علمي أو ثقافي أو لغوي، ويصرون على إبراز مواهبهم الخطابية في كل مناسبة.
لم تستوقفني أفكار المقالة ومحاججاتها وآلياتها السجالية، بقدر ما استوقفني توقيعها باسم الأستاذ الجامعي، لأن هاجس البحث عن سبل لإنقاذ هذا الصرح الوطني يلاحقني ويلح علي، غير أن المقالة بدت كأنها أطلقت رصاصة الرحمة على كل أمل لي بإنقاذ الجامعة أكاديميا، بعد أن بلغ المستوى الأكاديمي ما بلغه، وبعد أن تسللت السياسة إليها وتسلطت عليها، حتى صار إنقاذها أكاديميا يحتاج إلى رفع الهيمنة السياسية عنها. إن وضع الجامعة هذا يدفعني إلى التفكير في الاستقالة منها قبل الأوان.
moukaled47@hotmail.com
* بيروت
مقالات ذات صلة: