موكب البشرية السابح مع تيار الزمن يحيا ألفيته الثالثة، وشعبنا يكاد بأفكاره يكون قابعاً هناك في مجاهل القرون الغابرة، فيما نعيش بأجسادنا في الزمن الراهن، فكيف يمكن والحالة هذه أن يتحقق الحد الأدنى من التواصل، بين العقل والجسد؟
الحل إما أن يرتد العالم كله في مسيرة حضارته، حتى يصل إلى لحظة الماضي الذي يأسرنا ونعشقه، وهذا ما تحاوله الآن طلائعنا المجاهدة بقيادة بن لادن والظواهري وحسن نصر الله وخالد مشعل ومهدي عاكف، وإما أن نستطيع مغادرة محطة الزمن المنسي، ونجد لأنفسنا طريقاً نعود به مسرعين الخطى إلى العصر.
ولأننا نزعم أن أي عاقل لابد وأن يتجه بحزم نحو الخيار الثاني، يتحتم علينا أن نبحث كيف يمكن أن يتم هذا، ما يتطلب أولاً أن نحدد المحطة التي توقفنا عندها لنتخلف عن مسيرة الحضارة، ثم نعرف كيف نتخلص من إسار الماضي، ونجد طريقاً يعود بنا إلى العصر.
بدأت مسيرة الحضارة وعقل الإنسان صفحة بيضاء، ليبدأ باكتساب الخبرات العملية من واقع ممارساته الحياتية، وليبدأ مع هذا تكاثر تساؤلاته عن الوجود والحياة، وقد أتاحت له خبراته المستمدة من ممارساته العملية إجابات بسيطة عن النزر اليسير من الأسئلة، تاركة فجوة تتسع مع الأيام، نتيجة زيادة معدلات التساؤل الناتجة عن تفجر الوعي الإنساني، على المعدلات المتواضعة للإجابات المكتسبة من الخبرات العلمية، وهنا تصدى الخيال الإنساني لسد تلك الفجوة، فافترض افتراضات وأساطير، تحاول حل أكبر عدد من الإشكاليات، واختلفت تلك الاجتهادات وتطورت باختلاف الشعوب، وصارت مع الوقت بمثابة حقائق مقدسة، اختلطت مع المعارف العملية المكتسبة، ليحتويها جميعاً وعاء واحد، يصح تسميته “بالفكر الديني”.
استغرقت هذه المرحلة الجزء الأطول من مسيرة الحضارة الإنسانية، ورغم أن المليارات من البشر آمنوا بأديان أتى وحيها من السماء، إلا أن ما نصطلح على تسميته “الفكر الديني” كان دائماً فكراً وفهماً بشرياً، ويشمل الجزء المتعلق بالدين ذاته، كما يشمل الجزء المتعلق بالخبرات البشرية، وقد انصهر الجزءان ليبدوان كمنظومة واحدة، تعتقد الغالبية من العوام أنها بكاملها وحي سماوي مقدس، وهو التصور الذي صادف هوى رجال الدين، لأنه يجعلهم مصدر كل المعارف والسلطات.
جاءت اللحظة المفصلية في تاريخ البشرية، مع عصر النهضة في أوروبا، حين عرفنا الأسلوب العلمي التجريبي في البحث، للوصول إلى إجابات على أسئلة الإنسان، وقد أدى تطور هذا الأسلوب إلى تحقيق طفرة هائلة في حجم المعارف الإنسانية، ما استدعى انفصاله واستقلاله التام عن حزمة “الفكر الديني”.
عند هذه النقطة بالتحديد انفصلت الشعوب التي عجزت عن استيعاب وإنتاج المناهج العلمية الحديثة عن باقي الشعوب، وبينما سارت الأخيرة في طريقها في صنع الحضارة وإبداعها، دخلت الأولى في حالة غيبوبة، لتعيش أسيرة “الفكر الديني الشامل”، والذي يدعي امتلاك مفاتيح كل ما يعترض الإنسانية من إشكاليات.
لابد أن يكون النهوض من ذات نقطة السقوط ، التي هي تبني المنهج العلمي في البحث عن حلول لإشكاليات حياتنا، بتدريب أبنائنا على التفكير العلمي الحر، والمستقل عن كل ما ورثناه من تراث، ولن نستطيع هذا إلا إذا امتلكنا ما يكفي من الشجاعة والثقة بالذات، الأمر الذي لن يتحقق بمواعظ تنويرية، بل سيأتي تلقائياً متى امتلكنا ناصية العلم وأساليبه، واغتنينا بمعارفه المنتجة محلياً وذاتياً، وليست المنقولة عن الغرب نقلاً آلياً، دون فهم أو قناعة حقيقية، لكن كيف تتحقق لنا تلك النقلة التي عجزنا عنها عصوراً طويلة؟!
الأمر رهن بتصرف الصفوة من حكام ومفكرين ونشطاء مجتمع، فقد كان هؤلاء بالنسبة لجميع الشعوب بمثابة القاطرة، أن يسيروا بعزم وحزم باتجاه إنتاج أجيال تمتلك التفكير العلمي، وتثق بالعلم وتعتمد عليه في حل مشاكلها، وفي المقابل تُختصر حزمة “الفكر الديني” التقليدية، لتقتصر على معالجة الروحانيات التي تحتاج إليها النفس البشرية بالسليقة، وأن لا يُسمح لرجال الدين بادعاء ما لا شأن لهم به ولا علم، إن فعلت الصفوة ذلك ونجحت فيه، عندها فقط يمكن أن تعود شعوبنا من غيابها.
هل يتحتم علينا تقديم اقتراحات محددة؟
· التغيير الشامل والجذري لمناهج وأساليب التعليم، لتنمية القدرة على البحث والنقد والتفكير الإبداعي الحر، وليس على الاستظهار والنقل.
· إغلاق جميع مدارس التعليم الديني، وقصر الالتحاق بالمعاهد العليا للتعليم الديني على المتخصصين، بعد مرورهم على مراحل التعليم الأساسي والثانوي العام، لضمان تشكل عقولهم وفقاً للمنهج العلمي السليم.
· مراجعة جميع النظم والعلاقات المجتمعية في كافة مناهج الحياة، لتتواءم مع العلم، عوضاً عن الفوضوية والعشوائية السائدة، التي من أهم معالمها تسييس الدين وتديين السياسة، لنخلق واقعاً يحفز الشباب على الثقة في جدوى العلم وأهميته لتحقيق حياة أفضل.
لا نزعم أن هذه النقاط الثلاث من قبيل الحلول للإشكاليات، لأنها ربما كانت في ذاتها إشكاليات أكثر حدة من حيث كيفية تحقيقها، بعد تلك العصور الطويلة من الثبات والتحجر والغياب، ومع ذلك فهي جديرة بالبحث، إن كنا معنيين بمصير أولادنا وأحفادنا.
kghobrial@yahoo.com
حتمية الحل العلمانيصديقي العزير الأستاذ / كمال غبريال لقد نجحت في توضيح طبيعة المشكلة، فنحن العرب مسلمون و مسيحيون نعيش بأجسامنا في عصر العالم والمعرفة، ولكن عقولنا وسلوكياتنا ما تزال ترزح بعبئ الماضي . ولكن ما طرحته من حلول هي مجرد تصورات فكرية لا تحل الأزمة من جذورها، فتغير منهاج التعليم، وتنمية القدرة على النقد، وإلغاء اذدواجية التعليم لا يمكن أن تتم مع سيادة نمط انتاجي زراعي متخلف، ووضع اقتصادي يقوم على نهب الطبيعة بدون الدخول إلى مجالات العمل الاجتماعي المنتج، فحياة الناس لا تتغير بالدعوات الفكرية ، ولكن بتطور قوى وعلاقات الإنتاج، لا بد من دخولنا معترك النظام الرأسمالي… قراءة المزيد ..