شاءت إرادة الله أن يجعل الإنسان خليفة له على الأرض، وفي دين كالإسلام صارم في التوحيد، فإن هذا يكون أعظم تكريم يمكن الوصول إليه، كما يلحظ أن الله أمر الملائكة بأن تسجد لآدم في حين أن لا سجود في الإسلام إلا لله.
لهذا خلق الله الإنسان، كما خلق الأرض، بصورة مميزة ليكونا مجلي الله ومشيئته في الكون، فخلق آدم من طين إشارة لارتباطه بالأرض، ثم نفخ فيه من روحه فوهبه الضمير والوعي والإرادة، ثم علّمه الأسماء كلها، وهو تعبير عن تملك الإنسان مفاتيح المعرفة، كما خلق الأرض كوكبًا مميزًا بين ملايين الكواكب فجعل مناخها محتملاً، وشقَّ فيها البحار والأنهار، وبسط السهول والجبال، واختزن في جوفها المعادن، وأوجد علي سطحها الحيوان والغابات والنبات، ليكفل للإنسان حاجته من المأكل والمسكن والملبس.
واختار من بقاعها بقعة كانت هي أصلح البقاع لتلقي دعوة الإسلام هي شبه الجزيرة العربية، حيث تنبسط الصحراء كالبحر وتنطلق الرياح كالعواصف، وبين أقوام لم يكدحوا بأيديهم في الأرض، ولم يحملوا علي ظهورهم الحجر، مما شغل حياة الناس في العهود القديمة، ولم تذل رقابهم لملك أو إمبراطور، ولم يخضعوا لمران النظـم وضبطها وربطها، كانوا أحرارًا يعيشون عيشة البـداوة وتحكمهم الفطرة أو العرف، ويعيشون في خيام يذهبون بها حيث الرعي، أو في بيوت ساذجة، ويتحملون الحر اللافح نهارًا والبرد القارس ليلاً، ويعبدون آلهة من صنعهم، فما كانت تملك تحريماً أو تحليلاً أو تفرض قداسة أو «تابو» من أي نوع، ولم يكن لديهم ميثولوجيا كالميثولوجيا اليونانية، أو الميثولوجيا العبرية (وهي التوراة وما أضيف إليها من أساطير وروايات)، تثقل كاهلهم وتعقد أفهامهم، كانوا مثل «الفايكنج» لديهم الجرأة، والشجاعة، والثقة في النفس، والإقـدام.
وكان البساط الأصفر المترامي للصحراء، والرياح المنطلقة دون ما يصدها من جبال شاهقة تمثل أبرز خصيصتين لهذا المجتمع: المساواة والحرية. فلم يعرف المجتمع العربي القديم النظم الطبقية، ولا الألقاب الوراثية، ولا الحواجز ما بين الطبقة العليا والطبقة الدنيا، التي كانت مألوفـة في الإمبراطورييتين الرومانية والفارسية، وواصلت البقاء حتي الثورة الفرنسية، وظلت بقاياها حتي الآن في بعض المجتمعات التي تحمل أرستقراطيتها الألقاب الموروثة. إن العرب لم يعرفوا الأرستقراطية المقننة حتي عندما وصلوا إلي المرحلة الإمبراطورية. فالحضارات القديمة لم تستطع أن تخترق أساس المساواة الذي غرسته البادية وعززه الإسلام.
وأنزل الله الإسلام ليهدي هذا الإنسان المستخلف، فالإنسان هو الغاية والإسلام هو الوسيلة.
لم تقدر الكتابات القديمة المعني الكامل لاستخلاف الإنسان، فما كان ليسمح لهم بذلك عهدهم القديم ونظمهم المستبدة. وبحكم عهدهم وثقافتهم تصوروا أن الاستخلاف هو صورة من صور «العبودية لله»، وشاع هذا التعبد في كتابات ابن تيمية، وانتقل إلي بعض المفكرين المحدثين مثل المودودي الذي تصور أن مضمون هذه الخلافة هو كما لو أن أحدنا أرسل خادمًا له ليلبي أمرًا من أموره، فإنه عليه أن يحقق ما أراده سيده دون إضافة أو نقص أو تساؤل… الخ. إن هذا الإسقاط البشري علي الله تعالي يدخل فيما قاله الله: «فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ» (النحل: ٧٤)، لأنه تعالي يعلم أنها أمثال «إنسـانية» لا يمكن أن ترقي إلي حقيقة الله.
ويكفي للدلالة علي خطأ فكرة المودودي أن الله تعالي لو أراد من هذه الخلافة العبد الطائع الذليل لما زوده بعقل، ولا أتاح له إرادة أو حرية.
إن الله تعالي خلق نوعًا فريدًا من الكائنات هو الإنسان، نفث فيه من روحه، وعلمه الأسماء، وسخَّر له كل ما في الأرض، فكيف يقال إن صلاحية هذا الخليفة لا تعدو صلاحية عبد يرسله ســيده في مهمة، عليه أن يؤديها حرفيا دون زيادة أو نقصان، دون فكر منه أو فهم.
إن كلمة عبد في القرآن إنما يريد بها الله تعالي «مخلوقاً»، بل ليس لها معني إلا هذا. أما فكرة «العبد» التي توجد في مجتمع الرقيق، فهذه من ثمرات فكر طبقي ساد في إحدي مراحل البشرية، ومحال أن تتطرق مثل هذه الفكرة إلي مقام الله تعالي وهو خالق الحرية والحكمة، وقد أراد القرآن من إبراز حقيقة أن الإنسان مخلوق استبعاد فكرة أنه «خالق» أو «إله»، وهو أمر محتمل لأن الإنسان معرض للزلل، وعندما يظن الإنسان أنه خالق، وأنه سيد الوجود، فعندئذ يكون قد ناقض ما أراده الله به، ووصل إلي «الشرك بالله»، أما إذا ما ظل الإنسان يمارس صلاحياته كخليفة لله زوده بالعقل والضمير والحرية والإرادة، وأن الله تعالي لا يتدخل في عمله بحيث يحول دون خطئه واختياره في الدنيا، ولا يفرض عليه أو يعاقبه لذلك، وإنما يحاسب في الآخرة بمعيار لا يظلم فيه أحد قيد ذرة، ويحكم فيه برحمة من الله تعدل مائة مرة رحمة البشر.
إن الله تعالي وإن كان يعلم كل صغيرة وكبيرة خافية وظاهرة، فإنه وضع للكون نظمًا يسير عليها، ووضع للمجتمع البشري «سننـًا» يلتزم بها و«كتب» علي نفسه اتباع ذلك كله، وعندما قال “إِنَّ اللَّهَ لا يغَيرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّي يغَيرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ»، وقال: «ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يكُ مُغَيراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَي قَوْمٍ حَتَّي يغَيرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»، وقال «وَلَنْ يؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ»، وفي إطار هذه السُـنن والنظم يجب أن تفهم الإرادة الإلهية، ولا تطرح مفاهيم المجتمع البشري علي الإرادة الإلهية.
إن هذه البداية تغير فهم الإسلام تغييرًا جذريا. فالإسلام نظام ديني يقيم مجتمع الإنسان المستخلف علي الأرض، ويجعله الغاية، ويجعل الدين الوسيلة. فهل هناك شرع يصل إلي هذه الدرجة من الإنسانية، دع عنك أنه يفوقها.
ومن الواضح أن قيام الإنسان الخليفة بوظيفته كان يتطلب مجتمعًا حرًا قيمته الأولي الرئيسية «المساواة»، بحيث لا يوجد تميز، ويخضع الجميع لسلطة القانون، كما لا يمكن أن يوجد هذا المجتمع إلا عندما يقوم علي الحرية في الفكر، والعدل في العمل.
فهم الرسول (ص) جيدًا هذا فأقام على الأرض، في المدينة، مجتمعًا يحقق للإنسان العزة والكرامة، وأرسي القيم التي تؤدي إلي هذا، وكان أبرزها المساواة، فكل المسلمين عدول يسعي بذمتهم أدناهم، وهم كأسنان المشط، ولا يعلو أي واحد على القانون، فالرسول (ص) نفسه قَبِل القصاص منه، والرجال والنساء والفقراء والأغنياء سواء في الحقوق والواجبات، كما وضع نظامًا يكفل الأمن والأمان للجميع ويبعد الخوف من الحاجة، فلم يكن في المدينة بوليس ولا سجون، كما كفل الأمن الغذائي وما تتطلبه المعيشة بسن الزكاة والتكافل الاقتصادي، فحقق إسلام الإنسان.
نعم إننا لا نجد في هذا المجتمع إشارات إلي حقوق الإنسان لسبب بسيط هو أن النظام بأسره قام أصلاً للإنسان، فذكر حقوق الإنسان فضول، وعلي كل حال فإن لكل عصر لغته واصطلاحاته وما يركز عليه من قيم أو شعارات. المهم أن مضمون الحكم للإنسان كخليفة، وتنظيم المجتمع الذي يحقق ذلك بتقرير المساواة والأمن والكفاية كان محققاً بالفعل، ولو أجرينا مقارنة ما بين ديمقراطية السوق في أثينا وديمقراطية الجامع في المدينة لرجحت كفة الأخيرة، لأن ديمقراطية السوق الأثينية كانت تستبعد الرقيق والنساء من المشاركة، وهم أغلبية سكان أثينا، في حين أن ديمقراطية الجامع كانت تدخل الرقيق والنساء، وتسمح بأن تقف امرأة لترفض رأي الخليفة، ويستمع الخليفة ثم يأخذ برأيها ويقول قولته التاريخية: «أصابت المرأة وأخطأ عمر»، دلالات هذا لا تخفي، حيث كان في هذا إيمان عميق بحرية الرأي وكرامة الإنسان.
لم يستمر مجتمع المدينة وإسلام الإنسان سوى ربع قرن تقريبًا، عشرة أعوام حكم الرسول (صلي الله عليه وسلم)، وعامين ونصف العام حكم أبي بكر، وعشرة أعوام حكم عمر، وعندما طُعـــن عمر بن الخطاب، طُعن هذا المجتمع، وبدأت الفتن والقلاقل مع انحراف عثمان عن سُنة الشيخين، واحتدام الخلاف. فقتل عثمان وهو يقرأ القرآن وتدفع عنه زوجته حتي بترت السيوف أناملها، وقامت حرب عنيفة حول هودج السيدة عائشة ما بين الذين يوجهون سهامهم إليه والذين يدافعــون عنه. ثم أخذ نصف المسلمين يحارب النصف الآخـر في صفين، وقُتل علي بن أبي طالب الذي أراد إعادة مجتمع المدينة، وختمت الحقبة سنة ٤٠ هـ بتحويل معاوية بن أبي سفيان الخلافة إلي ملك عضوض لا يختلف عن أي ملك كسروي أو قيصري، فهو وراثي سلطوي مستبد. ومن هذا التاريخ استمر هذا الحكم السلطوي الفاسد حتي أنهى مصطفي كمال الخلافة سنة ١٩٢٤.
gamal_albanna@infinity.com.eg
* القاهرة