فى مسيرة المجتمعات البشرية منعطفات، هى بمثابة العلامات الفارقة بين مرحلة تاريخية وأخرى مختلفة. من ذلك قيام مجتمع بكامله بتغيير ديانته، مثلما فعلت روما فى القرن الرابع الميلادى، حين أعلنت المسيحية ديانة رسمية للدولة، ومثلما انتقل شعب الخزر جميعه إلى اليهودية فى القرن الثامن الميلادى – وهو الشعب الذى انحدر منه يهود أوروبا الشرقية الحاليون – ومن ذلك أيضا أن يتنكر شعب لعقيدته السياسية فيلفظ النظام الجمهورى ويرفض الديموقراطية، مستبدلا بهما ديكتاتورية فاشية كما حدث من الشعب الألمانى فى الثلث الأول من القرن العشرين لأسباب ليس هذا مجال سردها.
ومن المنطقى أن هذه التحولات الجذرية لا تحدث إلا إذا توافرت عوامل داخلية وخارجية معينة، من شأنها أن تحرض الفاعلين الاجتماعيين على نبذ الثبات الذى يهدد الجماعة بالتلاشى، وبالمقابل تحفزهم على الأخذ بأسباب التغيير – بغض النظر عن معيار الصواب والخطأ- إيمانا بأن التغيير فى حد ذاته هو ضمان البقاء والاستمرار.
كانت هذه المقدمة ضرورة تمهيدية للولوج إلى ما يمكن تسميته ب “المسألة القبطية فى مصر” حيث تضافرت عناصر محلية وأقليمية ودولية (سنأتى لذكرها فيما بعد) لفتح هذا الملف ذى الحساسية، بعنوانه البارز BOLD : الاشتعال الدورى للفتن بين المسلمين والمسيحيين بدء من سبعينات القرن الماضى وحتى الآن، وبما يهدد الوطن جميعه.
وبالتساوق مع هذا العنوان، لابد لنا أن نتذكر أطروحة صمويل هنتنجتون الشهيرة بـ ” صراع الحضارات” والتى تنبأ فيها بأن القرن إلحادي والعشرين إنما سيكون ميدانا لصدام ثقافي عالمي، ففي حين انسحب الصراع الطبقي، ولو إلى حين، عن مقدمة المسرح بسقوط الاتحاد السوفيتي وانحسار الفكر الماركسي جراء تحويل النظرية من مرشد للعمل إلي عقيدة جامدة رغم تحذيرات ماركس نفسه ؛ فإن البشر مقدمون على مرحلة يتآزرون أو يتحاربون فيها بدوافع ثقافية، وفى القلب منها الدين، إثباتا ً للهوية وتأكيداً للذات المحدودة بحدود الموروث والمألوف . ولقد بدا ذلك واضحا في حروب البوسنة، والشيشان، وفى الحروب الأهلية التي وقعت في السودان بين الشمال المسلم والجنوب المسيحي علاوة على دارفور، فضلا عن الاقتتال الدموي بين السنة والشيعة في العراق، ثم في لبنان علي نطاق خجول متردد. والأطروحة (= هنتنجتون ) رغم ذلك كله قابلة للنقد، غير أن أفضل نقد لها إنما يكون بشحذ الآليات العملية للدول الحديثة من أجل دحضها وتكذيبها، وهذا رهن بأفعال الجماعات البشرية، وليس باحتجاجات المثقفين حسب.
بالنسبة لمصر، فلا مشاحة فى أن الدولة قد أحسنت صنعا بتعديل دستورها،ليتضمن ( فى مادته الأولى) أن المواطنة هى الأساس للدولة المدنية الحالية. وهى وإن أقرت بأن الإسلام هو دينها الرسمى إلا أنها اشترطت للممارسة السياسية أن تقوم على أسس غير دينية(المادة الخامسة من الدستور) وبذلك تكون قد قطعت الطريق على من يخططون لقيام دولة ثيوقراطية تفرق بين المواطنين تبعا لديانتهم، ومن ثم تمهد لحروب أهلية قادمة لامحالة.
من هنا ترى أن الملف القبطى لم يعد مفتوحا أمام الدولة، بل أمام ثقافة مجتمعية موروثة من جانب، ووافدة من جانب آخر. فماهى هذه الثقافة ؟ربما تحتاج الإجابة عن هذا السؤال إلى إطلالة سريعة على التاريخ.
العرب والمصريون فى التاريخ
فتح العرب المسلمون مصر عام 641 ميلادي، وكشأنهم مع البلاد المفتوحة فقد خيروا السكان بين القتال أو الجزية أو اعتناق الإسلام. حينئذ لم يكن أمام فقراء الناس من بد سوى الخيار الثالث، بيد أن هؤلاء لم يصبحوا عرباً لمجرد أنهم أسلموا، فلقد ظل العرب الفاتحون يسمونهم – مع غيرهم ممن بقوا على ديانتهم المسيحية- باسم “الأقباط الموالى” من حيث أن كلمة قبطى Aegyptos كانت تشير إلى الاسم الذي أطلقه البيزنطيون على أهل مصر الحاميين، وأصله الفرعوني Het- Ke – Path أى منزل روح بتاح . ومنها اشتقت اللغات الهندوأوربية كلمة Egypt ، بينما ترجمها العرب الساميون إلى قبط.
المصريون جميعاً إذن أقباط لغوياً. أما التفرقة الدينية بين مسلميها ومسيحييها فقد ترسخت مع حكم الخلفاء أمويين وعباسيين وفاطميين وعثمانيين، هؤلاء الذين مارسوا التمييز بين الناس باسم الدين. من ذلك إجبار المصريين على التخلى عن لغتهم القبطية إلى حد قيام الحاكم بأمر الله الفاطمي بقطع لسان كل من يتكلم بها! ومن ذلك أيضاً أن ” العصاة ” ممن ظلوا على ديانتهم المسيحية (فانفردوا بصفة الأقباط) ألزموا بحمل الصلبان الثقيلة على رقابهم إلى أن ازرقت عظامها! ومن ذلك ثالثاً نفى وقتل الفلاحين المتمردين منهم بالجملة (فعلها الخليفة المأمون العالم المثقف!) وقد أفاض المؤرخون أمثال المقريزى وساو يرس ابن المقفع وابن إياس في ذكر ثورات الفلاحين الأقباط المقموعة فى أشليم والحوف الشرقي والبشمورى وغيرها حيث جرت الدماء فيها أنهاراً. الأمر الذي أورث الأقباط المصريين ثقافة الخوف والإذعان، وقادهم إلى كهوف العزلة السياسية لعصور بأكملها.
الدولة الحديثة تعالج التذكارات السوداء
بقيام الدولة المدنية الحديثة فى القرن التاسع عشر، انشطب من القاموس السياسي تعبير “أهل الذمة” إذ تم ترميم البناء القانوني بأسمنت جديد مع صدور أول دستور عثماني عام 1876، وعليه فقد أسقطت “الجزية ” عن المسيحيين على قاعدة المساواة أمام القانون، وتأكد هذا السقوط بإقرار مبدأ التجنيد الإجباري لكل المواطنين، الأمر الذي سمح للمسيحيين المصريين أن يصيروا ضباطاً ورؤساء أفرع، بل وقادة ألوية وفرق في الجيش الوطني للبلاد . أضف إلى ذلك ما حدث من رتق كامل للنسيج الاجتماعي المصري باشتراك أبناء مصر جميعا مسلمين ومسيحيين في الثورة الوطنية الكبرى عام 1919 بالضد على المحتل البريطاني، مما فتح فضاء العمل السياسي أمام الأقباط المسيحيين للمشاركة في الحكم تحت مظلة حزب الوفد الليبرالي بزعامة سعد زغلول ثم مصطفى النحاس ومكرم عبيد. فما الذي أحدث القطيعة بين مصريي المرحلة الحالية، وبين مصريي تلك المرحلة السابقة ( والمائزة ) من مراحل تاريخهم القريب؟
سيولة كونية وجمود عقائدى
انتهت الحرب الباردة بتبخر الاتحاد السوفيتي كدولة عظمى، تسير في فلكها معظم دول أوربا الشرقية، وتبع ذلك تحطم الاتحاد اليوغسلافي حين قامت دولُه بطحن عظام بعضها البعض تحت شعارات عرقية ودينية حلت محل وحدة الفكر (الاشتراكي ؟!) بينما أفرخت حرب الخليج الثانية طيور الفرقة والانقسام داخل الأمة العربية، في ذات الوقت الذي ترسخت فيه دولة إسرائيل العدوانية التي قامت أساساً على مبدأ عنصري ديني يدعو يهود العالم إلى الاستيطان في فلسطين – أرض الميعاد ! – على حساب السكان الأصليين. ونتيجة لاخفاق مشروع الوحدة العربية على أرضية “أيديولوجية القومية”. وبالتوازى مع نجاح الثورة ( الإسلامية ) في إيران، بات طبيعياً أن ترتفع أصوات لا يستهان بها في العالم العربي تدعو إلي إقامة دولة إسلامية شاملة في مواجهة حاسمة مع الدولة العبرية التي حققت الانتصار تلو الانتصار على كل قادة الدول العربية “قومية الطابع” مجتمعين أو فرادى.
فما الحل إذن ؟! الإسلام هو الحل ! هكذا ظهر تنظيم القاعدة داعياً لحرب شاملة عالمية الطابع ضد النصارى واليهود. وهكذا أيضاً انتعش الفكر الوهابي بجموده العقائدي، ذلك الجمود الذي يمنح الغطاء السيكولوجي المريح للعرب المغلوبين، فإذا كان الحاضر أليماً لا يحتمل، ففي الماضي الذهبي العزاء، وربما كان في محاولة ابتعاثه مرة أخرى ما يحمل بعض الأمل ( وإن كان غامضاً) للجماهير المغيب وعيها، وللنخب السياسية التقليدية ذات المصالح في الوقت نفسه .
في هذا المناخ صار لمخاوف المسيحيين العرب – خاصة في لبنان ومصر – ما يبررها. وبالتالي يدعوها إلى الإفصاح عن نفسها. وبقدر ما نجحت السيولة الكونية – المصاحبة لزوال النظام العالمي القديم- في محو دول بأسرها، بقدر ما سمحت نفس هذه السيولة للأقليات العرقية والدينية أن تطالب بمكان لها في عالم بدا أنه يتشكل على أسس جديدة. فها هي ذي ثورة الاتصالات تسهم في تفتح وعى الأفراد والجماعات المختلفة على مبادئ حقوق الإنسان التي تعني – ضمن ما تعني – رفض أي تمييز بسبب الدين أو العقيدة . فكيف إذن لا يحاول الإفادة من هذه المبادئ كل ُّ من يشعر أن حقوقه منتقصة ؟!
الأقباط أمام المنعطف
تلك كانت العناصر الدولية والإقليمية التي أشرنا إليها في بداية المقال، أما على المستوى المحلى، فقد تضافرت مع هذه العناصر ممارسات تدعو لفتح الملف القبطي (= المسيحي) بمصر. وهى عناصر ممثلة لاتجاهات ليبرالية لها برامجها، من بينها إلغاء الخط الهمايوني الصادر 1856 م على عهد السلطان عبد المجيد هذا الخط العثماني الذي تحول إلى لائحة تنفيذية على يد العزبى باشا وكيل وزارة الداخلية المصرية عام 1934 ومضمونها التمييز في بناء وترميم دور العبادة بين المساجد والكنائس. كما تعالت أيضاً أصوات المدونين الجدد بالاحتجاج على كل ألوان التمييز الاجتماعي وصولاً إلى المطالبة بإلغاء المادة الثانية عن الدستور، وحذف خانة الديانة من البطاقة القومية للأشخاص.
بيد أن تحقيق هذه المطالب وغيرها من المطالب القانونية المشروعة مرتهن بإنعاش العمل السياسي ذاته بمشاركة الأقباط أنفسهم، وليس بالتقوقع داخل الشرنقة “القبطية”. وآية ذلك أن التطرف الإسلامي لا ريب يقوى ويتمدد إذا ما قوبل برد فعل ديني مضاد . في حين أن انخراط أقباط مصر في الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني بقناعة لا غش فيها، لا ريب مؤد إلى تراجع التطرف المتأسلم، الذي يعلم في قرارته أنه يتعلل بالأوهام لا بالحقائق، وأنه يتسلح بالصوت العالي والصراخ الأجوف لا بالقدرة على المناظرة العقلية المنطقية.
وهكذا يتبدى للأقباط أنهم أمام منعطف تاريخي واقعي يدعوهم الى نبذ السلبية الموروثة من عصور ولت، لكى يشاركوا في استخلاص الدولة المدنية، والمجتمع المصري بأسره من براثن التطرف على الجانبين. فهل يفعلها الأقباط؟ أعني هل يفعلها المصريون؟!
tahadyat_thakafya@yahoo.com
الإسكندرية
الفرصة التاريخية لأقباط مصر
الموضوعية , العمق, و الحلول المنطقية مقرونة مع التشخيص الجريء المبسط في آن : هذا ماتعودناه في كتاباتك الشيقة
الفرصة التاريخية لأقباط مصر
المفكر الكبير
د مهدي بندق
قرأت مقالك الرائع عن المثقف التقليدي وعرقلة الديمقراطية . و هو قوي جدا
و أعتقد أن الفكر العربي دائما ما يتعامل مع الحداثة و التجاوز في سياق جزئي
و مواز لنظيره الغربي و لكن تأثيره محدود للأسباب التي ذكرتها في مقالك هذا .. وفي سائر كتاباتك العميقة الإبداعية
الفرصة التاريخية لأقباط مصر
الحق هو ما تقول ، ولكن لي عتاب لأخوتي الأقباط ، فهم متباطئون جدا ً في أخذ زمام المبادرة . والأسوأ أنهم ينظرون بريبة عجيبة لمن يطالبهم بالخروج من قمقم السلبية !
الفرصة التاريخية لأقباط مصر
I do not like the unfairness in official positions and the church building as the Copts always say that this is their main problem and I do join them, I would say that they need to be more involved and merge and be not isolated in the community, I have had a lot of Coptic friends and I’m the one always have to break the ice and be with them, I know and understand that some ignorant people will bother them, but this ignorant person will bother me too as a Moslem.
الفرصة التاريخية لأقباط مصر
مقالة رائعة لكاتب كبير يستحق التحية ليس من الأقباط وحدهم بل ومن المسلمين الذين
يؤمنون بالوطن وقيمه الأصيلة . وأنا أناشد أقباط مصر بالإنخراط في الحركة السياسية
من خلال الأحزاب الشرعية ، وكفانا تعلقا بذيل الكنيسة كبديل عن الدولة . فلنهط ما لقيصر لقيصر وما لله لله ، فهذا عو أساس مبدأ فصل الدين عن الدولة.
الفرصة التاريخية لأقباط مصر
This is a very thoughtful article. I wish Egyptians can think in this clear approach to aleviate their problems.
الفرصة التاريخية لأقباط مصر
أين هذه الفرصة يا أستاذ مهدي ؟ ألا ترى ما يفعله الأخوان من تجييش المشاعر السلبيةضد الأقباط ؟ وكذلك الدولة .