مهرجان المواهب الشابة في الناصرة.. يحصد عواصف من التصفيق والحب الانساني
حين كتبت مقالي السابق ” اورفيوس تبني جمهورية للموسيقى في الناصرة ” اتهمني بعض الذين أحبهم ، بأني تخليت عن واقعيتي وذهبت وراء المبالغة. قلت لنفسي لعلهم صادقون ، وان ما أصابني نزوة حماسية .
كان الشافعي يدعو تلاميذه صراحة ان لا يقبلوا كلامه اذا لم يكن عقلانيا . وكان النبي العربي الكريم يقول ” كما أنتم يولى عليكم ” ، فهل أكون قد دخلت مسارب اللامنطق ، وأوليت على نفسي ما لا يتماثل مع عقلي ..؟
أعرف مجموعة المثقفين والأكاديميين التي أقامت اورفيوس ( جمعية لنشر الثقافة الموسيقية متعددة الحضارات )، وأعرف بالمشاهدة .. ما أنجزته اورفيوس من نشاط موسيقي واسع ، ومن جهود لتعليم الموسيقى على قاعدة علمية في العديد من المدارس العربية في الناصرة ، وفي المعهد الرائد الذي أقامته . وأعرف بالمشاهدة واليقين ما حققته اورفيوس من نهضة موسيقية في العديد من المدارس ، رغم ان الميزانيات الشحيحة نسبيا تحول دون توسيع نشاطها لشمل أوسع لطلاب مدارس آخرين .
ليس لنا في الوسط العربي في اسرائيل ، سابق لهذا النشاط ، عبر التعاون مع معلمي موسيقى وغناء من المهاجرين الروس الجدد ، الذين أثبتوا جدارتهم الممتازة ، ومن المعلمين العرب الأكاديميين ، من الأجيال التي بدأت تنطلق الى الآفاق الرحبة للموسيقى ، محليا وعالميا .
كانت رؤية صاحب الفكرة والقائم على تنفيذها ، الذي لا يكل ولا يتوقف ، المهندس ومسؤول التربية اللامنهجية السابق في مدرسة المطران ، دعيبس عبود أشقر .. تقول بضرورة الدمج بين الاجتماعي والثقافي ، وتوسيع عالم الطلاب بالفنون من موسيقى ومسرح وقراءات ثقافية ، طريقا لبعث اجتماعي تربوي علمي وتعليمي ، لا بد ان يعكس واقعا ايجابيا على مستقبلنا القريب والبعيد …
ربما تجربته العائلية ، هو والسيدة زوجته مها عودة – أشقر ، صاحبة النشاط الثقافي والموسيقي والتربوي ، الذي ظل معظمه في الخفاء وبتواضع ،عقودا طويلة ، حيث أعطيا للموسيقى ابنا يعتبر اليوم من الأسماء الأكثر بروزا عالميا في العزف على البيانو ، وأعني العازف المبدع سليم عبود أشقر ، وكذلك الأبن الثاني ، عازف الكمان ومدير المعهد الموسيقي ” بارنبويم – سعيد ” في الناصرة ، نبيل عبود أشقر .
وكان لا بد ان يجيء الوقت لأفحص ، هل وقعت في المبالغات ، التي باتت تميز الكثير من مواقفنا في شتى المواضيع ؟
يومان وانا حائر.. والأصح ان أقول : أكثر من ثلاثة اسابيع ، وانا أتحفز للكتابة ، مرة أخرى عن أورفيوس ونشاطها الذي جعل من الموسيقى نهجا تربويا وجزءا لا يتجزأ من حياة اوساط اجتماعية واسعة في الناصرة ، أضحت الموسيقى حالة حياتية لأبنائها ، تثري عالمها البيتي أولا ، وتفتح آفاق حدودها السماء في شتى المواضيع ، ليس الموسيقية فقط .. التي تجعل من شعبنا شعبا حضاريا متقدما ين الشعوب . . هذا انطباعي الأول بعد ان شاهدت مهرجان الموسيقى للمواهب الشابة الذي أقيم في المركز الثقافي البلدي في الناصرة ، على مدى ثلاثة ليال ، الليلة الأولى في (08 – 06 – 21 ) والثانية في ( 08 – 06 – 28 ) والثالثة في ( 08 – 07 – 05 ).
ليس سرا ان المفكر الفلسطيني العظيم ادوارد سعيد كان عازفا ممتازا على البيانو .. ونضاله الفكري والسياسي الذي كرسه لشعبه الفلسطيني ، وصل الى قمة جديدة ، حين أقام مع الموسيقي اليهودي التقدمي دانيئيل بارنبويم ، ما يمكن ان نسميه حركة موسيقية لدعم التفاهم ين العرب واليهود في الشرق الأوسط ، كطريق لانهاء الصراع الدموي ، والاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني ، ونبذ فكر الحروبات والعداء من منطقتنا . ونشاطهم كان معلما بارزا في العديد من البرامج الموسيقية الدولية التي شارك فيها عازفين وطلاب موسيقى من مختلف الدول العربية واسرائيل .
اذن ما تقوم فيه اورفيوس هو استمرار لطروحات المفكر الفلسطيني العظيم ادوارد سعيد ، ولجهوده في زرع نهج حضاري وفكري متميز في اوساط ابناء الشعب الفلسطيني وسائر الشعوب العربية، كطريق لتغيير الواقع الاجتماعي والتربوي والثقافي ، نحو الانفتاح على حضارات الشعوب ، والتأقلم معها ، والمساهمة في بناء صرح حضارتنا ، صرح مستقبلنا.
ما شاهدته في الامسيات الثلاث ، أعجز عن التعبير الكتابي عنه ، لأسباب عدة ، أهمها اني لا أملك ثقافة موسيقية للحديث المهني عن مهرجان المواهب الشابة ، وان من يدّعون الاختصاص والمعرفة المهنية ، على الأغلب وللأسف الشديد ، كانوا غائبين عن هذا المهرجان الأكثر حضارية في نشاطنا الفكري والاجتماعي وليس الموسيقي فقط . كذلك برز غياب صحافتنا المحترمة ، الحاضرة دائما لتغطية أخبار النفاق ، والطوشات ، وحرق السيارات ، واستعمال السكاكين في فض النزاعات … حقا ” أخبار هامة “، ولكن أين الخبر الذي يخرجنا من المنهج المنحرف ، ويعطي أملا وأفقا جديدا لشبابنا وأهلنا ؟ أين التقارير التي تزرع بذور التربية الاجتماعية السليمة ، بدل ما نقرأه من صفحات بلا مضمون ، تعمق الابتذال الاجتماعي ، والتفكك الثقافي . هل تغطية طوشة في مقهى أرجيلة ، وملء الصفحة بالصور المؤذية ، هو المهمة المقدسة للأعلام ؟ اليس الاعلام تربويا نهضويا في مضمونه أيضا ؟ هل أخبار مغنيات الكليبات ، الجميلات بلا شك، الذي ينشر ويعاد نشره بالاف المواقع ، ويحتل الصفحات الأولى من مواقعنا الى جانب الطوشات وحرق سيارات رؤساء السلطات المحلية ، ولا يقدم جديدا للقارئ المحلي ، هل صار أفضل وأهم من مهرجان ثقافي في بلدنا ، ولأبنائنا ، ابناء المستقبل كما نحب ان نتفلسف أحيانا ؟!
هل يفهم محررو تلك المواقع ما هو الفن وما هي الثقافة وما هو الهام لمجتمعنا وشبابنا؟! هل يعون مبادئ التربية والتعليم وتعميق الوعي واثراء الشباب ؟!
مقالي السابق عن اورفيوس ، لم تنشره صحافتنا المحلية ، تجاهلته ، ربما مشكورة ، اذ لا قيمة له الى جانب ما تكشفه من جسم هيفاء وهبه مثلا .. مع أني ارسلته للجميع . لو كتبت مادحا متحمسا عن تمثيلية ” نور” التركية التافهة وبطلها ( المثلي الجنس ) الذي صار معشوقا للمراهقات ، وجعلت من قيمها ( لم أجد قيما في القصة ) أو سماجتها الأخلاقية ، قمة ما نصبو اليه في حياتنا ، لتسابقت صحافتنا على نشره. هل من أجندة فكرية أو اجتماعية في نهج اعلامنا ، ام هو اعلام فقير فكرا ونصا ومضامين ؟
ما عدا بعض المواقع الألكترونية المحلية ، والتي تحترم نفسها .. غاب المقال من شبكاتنا العنكبوتية المحلية ، بينما المواقع في العالم العربي رأت أهمية ما يجري ، بل ووصلتني رسائل من مثقفين عرب أثار الموضوع اهتمامهم ..
أجل انا غاضب ان يمر مهرجان حضاري من هذا النوع بمثل هذا التجاهل المزري والمأساوي . أيضا “قادة شعبنا” (!!) يتحملون المسؤولية الشخصية والمنهجية ، من هذا الغياب الصارخ عن نشاط يتجاوز بمضامينة وأهدافه، على الأقل ..
النشاطات الرسمية “التي تثقل كاهلهم” ( لم أسمع بها ) والخلافات الشخصية الانتهازية المتواصلة بينهم ، والعداوات الشخصية داخل التنظيمات ، التي تزيدنا تشرذما ، وتزيدنا عداوة ، بدل ان يعملوا متضافرين على رفع وعي مجتمعنا ومعارفة وآفاقه ، الا اذا كانت المعرفة والثقافة ، وخلق جيل جديد حضاري ، تشكل خطرا على مناصبهم و”امتيازاتهم ” السياسية والاقتصادية !!؟؟
ان حماس الجمهور الذي جاء ليحضر المهرجان ، واستقباله بعواصف من التصفيق المتواصل للمقطوعات الموسيقية التي قدمت ، وللشباب الموهوين الرائعين ، هو الأمل الوحيد ، للأسف الشديد من جهة بكل ما يخص واقع ” المقاطعة العربية ” للجهد الثقافي والحضاري ، ولسعادتنا المطلقة من ناحية أخرى ، للمستقبل الذي نريده لأبنائنا، وأيضا لأبناء من يتجاهلون هذا الابداع الجماهيري الحضاري غير العادي .. وقلت للأسف لأني توقعت حضورا واسعا من مؤسسات شعبنا الرسمية والشعبية ، وتغطية توازي هذا الحدث الحضاري الكبير .
قررت ان لا أستعرض المادة الموسيقية والغنائية التي قدمت ، ولكني لا استطيع الا ان أضيف ، ان مشاركة عدد من مدارس الناصرة العربية ، ومدارس الناصرة العليا اليهودية ، هو معلم بارز في الاتجاه الذي تبني عليه اورفيوس فكرها المتنور والحضاري ، اتجاه ادوارد سعيد ودانيئيل بارنبويم ، من أجل خلق لغة مشتركة تتجاوز الحواجز العرقية واللغوية والسياسية ، نحو تشكيل قاعدة واسعة تنطلق منها أجيال المستقل ، نحو بناء عالمهم الآخر .. عالم احترام الانسان لحقوق أخيه الانسان ،عالم الحوار والتعددات الثقافية والإثنية ، عالم المساواة بين البشر ، عالم العلوم والرقي الحضاري والفني . وكان من الممتع والمؤثر ان نستمع الى فرقة الات النفخ ( أكثر من 40 عازفا ) التي تتشكل من طلاب مدارس الناصرة العربية ومدارس الناصرة العليا اليهودية .
اورفيوس تبني حقا جمهورية للموسيقى في الناصرة ، وتبني جمهورية للتفاهم والتعاون الحضاري ، جمهورية للمستقبل
من المؤلم الغياب الصارخ للموسيقيين العرب ابناء الناصرة وغير الناصرة ، غياب الذين من المفروض انهم يمثلون الحياة الثقافية والفكرية لمجتمعنا ، ويشكلون حركة مجتمعنا الثقافية ، وغياب قيادات وهيئات رسمية وشعبية تطرح الثقافة على أجندتها كبند متقدم ، لكني لم ألمس حتى اليوم اهتماما بتحويله الى اداة مؤثرة ، وأضعف الإيمان كان ان نرى حضورهم لبرنامج ثقافي فني حضاري تربوي متقدم . لا يكفي ادعائهم انهم درع هذا الشعب ولسانه والرافعين لمطالبه … غيابكم سادتي هو غياب صاخب .. ليتكم تنجزون لثقافتنا بعض ما انجزته اورفيوس في السنوات الأخيرة!!
– كاتب ، ناقد واعلامي – الناصرة
nabiloudeh@gmail.com