**
(الصورة: مرشد الثورة، نائب الإمام الغائب “معتكفاً” في “كهف الشهداء”)
*
لأنّ الصلة وثيقة، وهي أحياناً مباشرة وأقرب إلى الفرع والتفرّع، بين ما يشهده لبنان اليوم من احتقان سياسي وأمني وطائفي، وما تشهده إيران من شدّ وجذب في أعلى هرم السلطة كما في المواجهة المفتوحة بين المحافظين والإصلاحيين (هي محض وجه آخر للصلة الوثيقة، بدورها، بين الساحة اللبنانية وما يُطبخ في واشنطن وتل أبيب والرياض والقاهرة… كلٌّ حسب معسكره وتحالفاته)، ثمة مغزى بالغ الخصوصية في التوقف عند التصريحات الأخيرة التي أطلقها الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي، حول مفهوم “تصدير الثورة”. صحيح أنّ خاتمي كان يشير إلى التدخّل الإيراني في شؤون العراق بصفة خاصة، غير أنّ صيغة التعميم (المضيَّقة، مع ذلك) التي تقصّد اعتمادها كانت تشير إلى أيّ وكلّ تدخّل إيراني مثيل: في لبنان، وفلسطين، وسورية، والسودان…
إذْ ليس من المألوف، ولن يكون واقعة هامشية على الأرجح، أن يحذّر خاتمي من “تشويه أفكار الإمام الخميني”، وأن يتهم السلطات الايرانية بـ”تصدير” العنف الى بلدان أخرى، قبل أن يتبنى تأويلاً (سلمياً تماماً في الواقع، وأقرب إلى التفكير الرغبوي) للمعنى الذي قصده الإمام الخميني من المصطلح: “هل نحمل السلاح ونتسبب بانفجارات في بلدان أخرى؟ هل نشكّل مجموعات للقيام بعمليات تخريب في بلدان أخرى؟ الإمام كان يعارض بشدّة أعمال الإرهاب ويدعو في المقابل إلى نموذج يقوم على وضع إقتصادي جيد، واحترام البشر، ومجتمع يتجه الى الرخاء وتحسين ظروف الجميع”.
الدليل الأوّل على أهمية الواقعة جاء من ردود الفعل الرسمية، أو شبه الرسمية، التي تراوحت بين الدعوة إلى “محاسبة خاتمي على تصريحاته غير الوطنية، التي “لا ينجم عنها سوى تلطيخ سمعة الجمهورية الاسلامية وتأكيد اتهامات لا أساس لها يطلقها الإستكبار العالمي”، كما فعلت صحيفة “كيهان” الناطقة باسم المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، آية الله علي خامنئي؛ أو اتهام خاتمي (وهذا تطوّر نوعي خطير في لغة انتقاد رئيس سابق) بالعجز عن “التمييز بين الأعمال الإجرامية للطالبان والعمليات الإستشهادية لقوّات حزب الله في لبنان أو للمقاتلين المسلمين في فلسطين”، كما فعل النائب المحافظ مهدي كوشك زاده؛ وصولاً إلى اعتزام 77 عضواً من التيار المحافظ في البرلمان الإيراني التقدّم بشكوى إلى وزارة الإستخبارات، للتحقيق مع خاتمي حول تصريحاته التي اعتبروها مسيئة للخميني.
لكنّ توقيت إطلاق هذه التصريحات لم يكن عفوياً تماماً، بل لعلّ اختياره نهض على حساب بارع لسلة اعتبارات سياسية وعقائدية داخلية، وأخرى إقليمية: نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة، التي آلت إلى هيمنة المحافظين بعد رفض الطلبات التي تقدّم بها عشرات المرشّحين المعتدلين؛ واشتداد التأزّم بين الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد وعدد من كبار البرلمانيين المحافظين، على خفية سياساته الإقتصادية وازدياد معدّلات التضخم في البلاد؛ فضلاً عن الإنطلاق، المبكّر وغير المباشر، لما يلوح أنه حملة تمهّد لترشيح خاتمي لانتخابات الرئاسة القادمة، ربيع 2009، بالرغم من إعلانه اعتزال السياسة في مناسبة سابقة.
وفي المقام الثاني ثمة ما يشبه النزاع العقائدي، الذي يمسّ بعض أقدس مبادىء الفقه الشيعي، بين أحمدي نجاد وبعض أيات الله وحجج الإسلام، حول أقواله بأنّ “يد الله سوف تظهر وترفع الظلم عن العالم”، وأنّ أعداء إيران يعلمون أنّ عودة المهدي الغائب حتمية”. وهكذا اعتبر حجّة الإسلام علي أصغري، المتشدد وعضو كتلة حزب الله في البرلمان، أنه “من الأفضل لأحمدي نجاد الاهتمام بمشاكل المجتمع مثل التضخم (…) بدل التركيز على الشؤون الدنيوية”. من جانبه تهكم حجة الإسلام غلام رضا مصباحي، المتحدث باسم “جمعية رجال الدين المقاتلين” المحافظة المتشددة، هكذا” “إذا كان أحمدي نجاد يريد أن يقول إنّ الإمام الغائب يدعم قرارات الحكومة فهذا ليس صحيحاً (…) ومن المؤكد أنّ المهدي المنتظر لا يقرّ التضخم الذي بلغ 20%، وغلاء المعيشة، والكثير غيرهما من الأخطاء” التي ترتكبها الحكومة!
وأياً كانت سياقات تصريحات خاتمي حول مفهوم “تصدير الثورة”، ودوافعه وأغراض توقيته، فإنّ الأمر يعني شعوب المنطقة، في العراق ولبنان وفلسطين وأفغانستان، لكي لا يتحدّث المرء عن دائرة أوسع تشمل جميع دول الخليج وتعبر اليمن إلى مصر فالسودان… تماماً كما في خطوط الجغرافيا التي رسمها النشيد الوطني الأشهر: من الشام لبغدانِ، ومن نجدٍ إلى يمنٍ، إلى مصر فتطوانِ! وإذا جاز للمرء أن يضع عشرات علامات الشكّ على بضاعة الديمقراطية التي تنخرط الولايات المتحدة في تصديرها إلى شعوبنا، فإنّ العلامات ذاتها ينبغي أن توضع على مشروع إيراني لا يصدّر “الثورة”، أياً كان المعنى المراد منها، إلا متجلببة بعباءة “ولاية الفقيه”.
والحال تقتضي أن لا يملّ المرء من تكرار الهاجس التالي، الذي لا يلوح أنّ المسارات الراهنة للجمهورية الإسلامية في إيران كفيلة بإنزاله من مقام التخوّف الأوّل والاكبر: لن يكون الأمل كبيراً في أيّ انفراج داخلي إيراني، سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي أو ثقافي، ما لم يقف الإيرانيون موقف المراجعة الراديكالية الشاملة لهذا المبدأ بالذات، ولاية الفقيه، وتصحيح علاقته بالحياة والحقّ قبل أيّ مبدأ سواه. هذا، في كلّ حال، مبدأ في «الحكم الإسلامي» صاغه الإمام الخميني على عجل، حين كان منفياً في مدينة النجف العراقية عام 1971، وخضع على الدوام لأخذ وردّ منذ البدء، حين اختلف حول تأويلاته عدد كبير من فقهاء الشيعة. ونعرف أنّ خامنئي هو، اليوم كما في الأمس، أشدّ المدافعين عن مبدأ ولاية الفقيه، وأبرز المتمسكين بالحفاظ على المبدأ في الدستور، بل وتشديد وتوسيع صلاحيات الوالي الفقيه المنصوص عنها حالياً في الدستور. وليست عسيرة معرفة أسباب هذا الحماس، بالطبع.
فما الذي يتبقى من صلاحيات لرئيس الجمهورية، محافظاً أم إصلاحياً، إذا كان في سلطة الوالي الفقيه تسمية أعضاء مجلس المرشدين، وتسمية مجلس القضاء الأعلى، ورئاسة القيادة العليا للقوات المسلحة (بما في ذلك تعيين أو عزل رئيس الأركان، وقائد الحرس الثوري، وأعضاء مجلس الدفاع الأعلى، وقادة صنوف الأسلحة)، وإعلان الحرب والسلام والتعبئة، وإقرار أسماء المرشحين للإنتخابات الرئاسية، وتوقيع مرسوم تسمية رئيس الجمهورية بعد الإنتخابات، وإدانة وعزل الرئيس بموجب أسباب تتعلق بالمصلحة الوطنية، وإصدار مختلف أنواع العفو؟ ولقد حدث مراراً أنّ بعض الفقهاء ورجالات الحكم ذهبوا أبعد مما ينبغي في تفسير مبدأ ولاية الفقيه، كما حدث حين اعتبر أحمد أزاري ـ قمّي، وهو واحد من كبار شارحي فكر الخميني، أنّ بين صلاحيات الوالي الفقيه إصدار «منع مؤقت» لأداء فرائض دينية مثل الصلاة أو الحجّ أو الصوم»، وفي وسعه أن يأمر بهدم بيت المسلم، أو أن يأمره بتطليق زوجته!
ينبغي أن لا تكون هذه هي الجمهورية الإسلامية التي يريدها أصدقاء إيران، ونريدها نحن بدورنا، من الشام لبغدانِ، ومن نجدٍ إلى يمنٍ، إلى مصر فتطوانِ… خصوصاً في هذه الحقبة من اشتداد «الإستكبار» الغربي، وفي طليعته الإمبراطورية الأمريكية بوصفها قلعة الإستكبار الأولى. وفي عام 1911 لم يتردد فلاديمير إيليتش لينين، زعيم الثورة الروسية، في القول إنّ واحدة من أبرز علائم اليقظة الآسيوية تتبدّى بعمق في «حركة المشروطة»، أي التسمية الثانية للثورة الدستورية الإيرانية التي اندلعت عام 1905 ضدّ الشاه مظفر الدين، وقادها الفقيه الشيعي الملا محمد كاظم الخراساني (كان بين أنسب ألقابه أنه الأب المؤسس للدستور والنهضة والإصلاح السياسي في إيران)، يعاونه نفر من كبار رجال الدين الذين تألفوا من الشيعة غالباً. على رأس هؤلاء وقف آية الله الميرزا محمد حسين الغروي النائيني (1860 ـ 1936)، الذي يذهب بعض الباحثين إلى اعتباره طبعة شيعية من مارتن لوثر.
في الصفّ المناهض، والذي كان يقود الماء إلى طاحونة الشاه عملياً، تمترس نفر من رجال الدين وآيات الله، استحقوا بالفعل تسمية «أنصار المستبدّة»، ولم يتحرّج النائيني في وضعهم ضمن فريق «عَبَدة الظالمين» و«علماء السوء» و«لصوص الدين» و«مُضلّي ضعفاء المسلمين». النائيني كان يستلهم جمال الدين الأفغاني وروحية «طبائع الاستبداد»، ولكن في ميدان سياسي فقهي شائك هو الإمامة الغائبة ومدى حقّ الأمّة في ولاية نفسها وتشكيل حكومة زمنية عادلة (أي: ديمقراطية، حسب النائيني)، بدل الركون إلى حكومة لازمنية مطلقة (ومستبدة بالضرورة، لأنها جزء من «شعبة الإستبداد الديني»، حسب النائيني أيضاً).
إيران هذه الأيام ليست إيران العقد الأوّل من القرن الماضي بطبيعة الحال، ليس فقط لأنّ البلد لم يعد يحكمه شاه مستبدّ تتحالف معه مرجعيات دينية مستبدّة، بل أساساً لأنّ الدستور الإيراني قائم بالفعل، ولأنّ العلاقة بين السلطات التشريعية والتنفيذية تحكمها نواظم مختلفة تماماً عن تلك التي كانت معتمدة آنذاك، واندلعت الثورة الدستورية لاستبدالها جذرياً. كذلك لا تبدو المرجعيات الدينية الإيرانية «المحافظة» أو «المتشددة» شبيهة تماماً بتلك المرجعيات التي وصفها النائيني.
وهكذا، فإنّ المعركة السياسية الجوهرية تدور اليوم ـ كما كانت عليه الحال في انتخابات 1997 ـ بين المحافظين والإصلاحيين، وبين التنمية السياسية والجمود المؤسساتي، وبين ديمقراطية أوضح وأفضل، وتشبّث أكثر تشدّداً بمبدأ ولاية الفقيه. ذلك، في عبارة أخرى، يعني أنّ المعركة لا تدور حول مسائل الإنفتاح على الغرب، وصواب أو خطل سياسة “تصدير الثورة” ومواصلة الكفاح ضدّ الإمبريالية العالمية. إنها، في الجوهر، ما تزال تدور حول حاضر ومستقبل إيران، وحول مسائل داخلية سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، أوّلاِ وجوهرياً.
والعودة إلى تجربة الإنتخابات الرئاسية الأولى، وإلى مآلاتها الراهنة تحديداً، تمدّ أصحاب هذا الرأي بالكثير من أسباب الترجيح. ففي عام 1997 انتخب الإيرانيون رئيسهم الجديد، محمد خاتمي، بأغلبية ساحقة (بل وفاضحة بالنسبة إلى خصمه علي أكبر ناطق نوري)؛ واختار خاتمي تشكيلة وزارية هي الأكثر تعددية (والأكثر «اعتدالاً» كما قرأنا في التقديرات الغربية) منذ أن وطأ الإمام الخميني أرض مطار طهران عائداً من منافيه الطوال؛ وصوّت البرلمان الإيراني على منح الثقة لهذه الحكومة (ليس دون صعوبات ومقاومة ودسائس).
وإذْ يستعرض المرء اليوم تاريخ أبرز الشخصيات التي اعتبرت السلطات الإيرانية أنها تناوىء الجمهورية الإسلامية، فإنّ الحيثيات تثير الألم أكثر من الدهشة: هاشم أغاجاري، الذي حُكم عليه بالإعدام سنة 2002 بتهمة الهرطقة ضدّ الجمهورية، كان مؤرّخاً بارزاً وإصلاحياً ومؤسس أوّل جامعة إسلامية بعد الثورة، ومعاق حرب؛ وأكبر غانجي، الصحفيّ الإصلاحي السجين، كان ضابط استخبارات في “الحرس الثوري” على جبهة الحرب مع العراق؛ وعباس عبدي، الذي اعتُقل على خلفية الدعوة إلى الإصلاح، كان أحد قادة اقتحام السفارة الأمريكية وإثارة أزمة الرهائن الشهيرة؛ هذا إذا وضع المرء جانباً قضية وزير الثقافة الأسبق الشهير عطا الله مهاجراني، ودفعه إلى الإستقالة بضغط من المحافظين إجمالاً.
وليس من باب الفانتازيا أن يرى الكثيرون صلة وثيقة، مباشرة وأقرب إلى الفرع والتفرّع، بين ارتفاع أو انخفاض رأسمال مبدأ ولاية الفقيه في المشهد السياسي والعقائدي الإيراني، واستمرار إشعال الإطارات على طريق مطار بيروت، وما تشعله من نُذُر الحرب الأهلية…
s.hadidi@libertysurf.fr
* كاتب سوري- باريس
مراجعات إيران السياسية والعقائدية: مبدأ ولاية الفقيه ما يزال الأعلى
المرحوم هادي العلوي كانت له نفس مواقفك التثمينية للصورة المشروطية ولآية الله الميرزا محمد حسين الغروي النائيني ، وكتب الكثير حولها وكذلك مثلك من موقع الحريص على تطور الثورة الايرانية باتجاهات عصرية وديمقراطية وتحررية ، ومقالتك استاذي الكريم تتمتع بروحية البحث الاشتمالي والديالكتيكي المتين وتليق بها صفة المقالة المرجعية ذات الفائدة العميمة .