أبادر فأقول إني لست قاضيا، أو محاميا، أو وكيلاً للنيابة، أي إنني لست عضوًا من الهيئة القضائية الموقرة.
قد يسأل سائل لماذا إذن تتدخل في غير اختصاصك؟
فأقول لو أنني كنت كناسًا أكنس القمامة من الحواري لوجدت أني لي حق في الحديث عن القضاء، لأن القضاء هو حمايتي من ظلم رؤسائي أو غيرهم فأنا لي مصلحة، بل يمكن أن أقول إني وبقية أفراد الشعب من غير المختصين أصحاب المصلحة العظمى في القضاء.
هذا إذا كنت كناسًا، فما بالك وأنا رجل جعلت التفكير ومعالجة القضية العامة صناعتي منذ خمسين عامًا، والقضاء يعود بالدرجة الأولى إلى القانون، والقانون لا يعدو أن يكون فرعًا من علم الاجتماع وعلم الاجتماع بأسره علم إنساني يعود إلى الإنسان ومن ثم فهو مجال مشترك حتى لو كان متميزًا.
وأذكر أني أصدرت عام ١٩٦٣م مع بداية التحول الاشتراكي كتابًا من مائتي صفحة عن القانون والقضاء في المجتمع الاشتراكي قبل أن ينتبه المختصون إلى هذا في التحول وانعكاساته على القضاء. وأنا أقول للمختصين في القضاء ما قلته للمختصين في الفقه لا تحجروا ولا تحتكروا ولا تجعلوا المهام المقدسة والفكر النبيل حرفة وأكل عيش ودكانًا لا يقربه إلا أصحابه.
أقول لهم إن فوق كل ذي علم عليم وإن آفاق المعرفة لا تحد. إن المعرفة لا تنتهي أو تخلص بكثرة المعالجات، بل إنها تزداد وتثري وإن الرمية الصائبة قد تأتي من غير رام، ورب أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره، فلا تغتروا وتتملككم العزة بما وصلتم إليه واقرءوا قول المتنبي من ألف عام:
يموت راعي الضأن في جهله ميتــــة جالينوس في طبـــــــه
وربما زاد على عمــــــــــــره وزاد في الأمـن على ســـربه
بعد هذه المقدمة التي يبدو أنها كانت ضرورية أقول إن من الأقوال الشائعة في الأسرة القضائية أن حكم المحكمة هو عنوان الحقيقة وأن التعليق على الأحكام لا يجوز إلا بعد أن تصبح نهائية وغير قابلة لأي ظن وعندئذ ـ كما يذكر الدكتور محمد سليم العوا ـ يكون هذا التناول من المتخصصين في حدود العلم القانوني ووفق أساليبه التي يعرفها أهل الاختصاص (كتاب حرية التعبير ص ١٠).
هذان: أي أن حكم المحكمة هو عنوان الحقيقة، بل الحقيقة ذاتها وتحريم التعليق على الأحكام، هما فيما نرى يخالفان حرية التعبير.
من أين جئتم أيها السادة بهذه القداسة؟
إذا كان المفسرون منذ أكثر من ألف عام تناولوا كتاب الله ـ القرآن ـ بالتفسير والتأويل وأبدعوا فنونا ولم يترددوا في القول بالنسخ إلى آخر ما يعرفه المبتدئون.
وإذا كان رسولنا العظيم قد حذر المؤمنين من أن يكون أحدهم ألحن بحجته فيقضي له فليعلم أنه يقضي له بقطعة من النار.
فهل يحرم على المفكرين ـ من غير رجال القضاء ـ أن يعالجوا أحكامًا أريد بها في النهاية تحقيق العدل، ولكن ما من قوة يمكن أن تؤكد أن ما تصل إليه المحاكم هو العدل بالفعل أو الحقيقة نفسها.
ومنذ أن حكمت إحدى المحاكم في أثينا قبل ميلاد المسيح بخمسمائة عام على سقراط بالموت والمحاكم ـ في العالم بأسره ـ تصدر أحكامها باسم القانون على المخالفين والمعارضين والمجددين ومن ينادون بالعدالة والحرية، وتزج بهم إلى السجون أو تقضي عليهم بالإعدام.
«وياما في الحبس مظاليم».
هل هناك من يجهل أن القاضي إنما يحكم بالقانون؟
هل هناك من يجهل أن القانون يضعه بشر معرضون للخطأ والقصور والضعف؟! وأنه من الممكن أن يصدروا قوانين معينة ويضطروا (كما يحدث بالفعل) لإصدار قوانين أخرى تلغيها.
بل هل هناك من يجهل أن القانون إنما تضعه في كثير من الحالات الطبقة ذات المصلحة أو السلطة الحاكمة، وأن الغرض في النهاية هو تعزيز وضعها وليس تحقيق العدالة.
حتى لو حكمت المحكمة بالشرع الإلهي، فما أكثر وما أوسع مجالات التفسير والتأويل التي يمكن أن تصل من النقيض إلى النقيض.
لا يمكن لأحد أن يدعي أن حكم المحكمة هو عين الحقيقة.
ولكن يمكن القول إن المحكمة قد طبقت تطبيقا سليمًا ما لديها من قانون أو لوائح.
وإذا كانت محاكمنا على اختلاف درجاتها، حتى محكمة النقض، قد أيدت الحكم بالتفريق بين الدكتور حامد أبوزيد وزوجته، فذلك لأن القانون نص على تطبيق أرجح الأقوال في مذهب أبي حنيفة، وقد حكمت به.
فالمحكمة أدت واجبها باعتبارها الهيئة التي تطبق القانون المعروض عليها، وقد كان أرجح أقوال مذهب الإمام أبي حنيفة.
ولكن من قال إن أرجح أقوال أبي حنيفة هو الحقيقة فأقوال بقية المذاهب تخالفه وهناك ما هو أرجح منها وقد قرر الفقهاء ـ بقضهم وقضيضهم ـ حد الردة (بما في ذلك الشيعة) مع أن القرآن الكريم يقف ضد هذا لا مرة واحدة، ولكن مرارًا وتكرارًا والرسول نفسه وقف ضد هذا لا مرة واحدة ولكن مرارًا وتكرارًا.
فما أبعد الحقيقة عما جاءت به قلعة الفقه السلفي وما تقضي به محاكمنا، ويقال عنه «الحقيقة».
أفهم ــ كما يفهم ــ كل واحد أن القضاء إذا أريد له أن يكون قضاءً حقًا، وأن يحكم على الجميع بلا استثناء بحكم القانون، لابد أن يكون هيئة مستقلة تماما عن أجهزة الدولة وبالذات السلطة التنفيذية لهذا فأنا لا أستسيغ أن تكون هناك من بين وزارات السلطة التنفيذية وزارة تمارس قدرًا من السلطة على القضاء. ولا أفهم أن يكون قسم النيابة العمومية كلها يتبع هذه الوزارة.
لماذا لا يثير أفراد الأسرة القضائية وهم ـ هيئة الاختصاص ـ هذه القضايا الحيوية بالنسبة لهم لابد أن يكون القضاء «هيئة مستقلة» يرأسها أصحابها قضاة ومحامون ـ ولا يكون لأحد من السلطة أي سلطان، بل أي علاقة بها.
وتضع هذه الهيئة نظامها الإداري دون تدخل من أحد وتقرها السلطة التشريعية دون افتئات حتى لا يظن أنها تحاول أن تحمي مصالحها على حساب المصلحة العامة ـ وعن مصلحة الشعب.
وتكفل لها المخصصات الكافية ولا يجوز للسلطة التشريعية أن تنتقص منها.
ويطلق عليها ديوان القضاء.
إن القاعدة الحقيقية التي تحمي القضاء هي الشعب صاحب المصلحة في العدالة والمفكرون الشعبيون الأحرار هم ألسنة الشعب وهم الذين يبلورون إرادته في مواجهة السلطات في السلطة التنفيذية بالدرجة الأولى، ثم السلطة التشريعية التي يفترض أنها تضم «نواب الشعب» وكلنا يعلم كيف دخل نواب الشعب المجلس.
وهم الذين يحركون الرأي العام الذي لابد وأن تسلم السلطات أمامه وإن طال المدى.
إن النواب الحقيقيين للشعب هم الصحفيون والمفكرون والكتاب الأحرار الذين لا يتأثرون بالتيارات الحزبية ولا بالعلاقة الوثيقة التي تربط السلطة التشريعية بالسلطة التنفيذية، رغم أنف مبدأ الفصل بين السلطات.
من هنا يتضح أن حرية التعبير نقيض ما يتصوره رجال القانون يجب أن تكون مطلقة ما لم تتضمن قذفا أو ابتزازًا، وأن تكون حرة في انتقاد القوانين، بل والدستور وأي سلطات أخري.
تتضمن الأقوال التي تمتلئ بها كتب الحقوقيين والمختصين عن القضاء بإشارات عديدة إلى قداسة القضاء وما يجب أن يحاط به من احترام وما يجب أن يظفر به من هيبة قد يمثلها ما جاء في كتاب للأستاذ الدكتور سليم العوا ودوافع القاضي، وأسلوب أدائه لعمله القضائي، وعقيدته الدينية أو السياسية أو الفكرية وبواعثه واتجاهاته الشخصية كل ذلك مناطق محرمة ليس لأحد أن يقع فيها أو يحوم حولها وإلا كان كالراعي يحوم حول الحمي (الأرض المملوكة للغير) يوشك أن يقع فيه (أي يعتدي على حرمتها ويهدر حمايتها).
واحترام هيبة القضاء (السلطة) والقضاة (الأفراد) ضرورة لا مفر منها لاحترام سيادة القانون ورسوخ ميزان العدالة في أيدي قضاة مطمئنين إلى حفظ أقدارهم وصون كرامة محاكمهم بين بني وطنهم : «رضوا بالأحكام التي تصدرها المحاكم أم غضبوا لها».
بالطبع فإن هذا كله مشتق من أن القضاة هم سدنة العدالة، ولكن هذا لا ينفي أن السدنة شيء، والعدالة نفسها شيء آخر، أما الذين يعملون باسمها فما يجب الحرص عليه هو التثبت من ملاحظة القضاء بمقتضيات العدالة، وأنه بقدر توفيقهم في هذا بقدر ما يستحقون التقدير، وقد يخطئهم التوفيق وهم بعد كل شيء بشر.
ومن الخطأ «تماهي» القضاء بالعدالة ـ أي جعلهما شيئًا واحدًا، لأن المدلول الوحيد لهذا هو توثين القضاة، بل من حقنا أن نتساءل لماذا يجب أن تكون هناك «هيبة» للقضاء والعدالة نفسها؟ إن العدالة تتنافى مع منطق «الهيبة». العدالة تعلم أن لصاحب الحق مقالاً يجب أن يجهر به، العدالة لا تريد إلا التقدير الحق أما سلطات الدولة المدججة بالسلاح المتخمة بالأموال، والتي تعلم أنها لا تظفر بتقدير أو ثقة فإنها تبحث عن «الهيبة» وبث الخوف في نفوس الناس ومن منطق العدالة فإن هذا الأمر كريه.
إننا في الوقت الذي لا نقر فيه أي هجوم أو قل أي مساس ـ بأشخاص القضاة أو أسرار إصدارهم الأحكام ـ وفي الوقت الذي نقدر ما يبذلون من جهد وتفان فإننا في الوقت نفسه لا نري داعيا إلى إرهاب الناس بهذه التوجيهات، لأن الأمر لا يتعلق بشخص القاضي، ولكن بالحكم والحكم ليس ملكا خاصا وشخصيا للقاضي، ولكنه يقوم على أسس وحيثيات وقد تخطئ محكمة درجة أولى أو تطعن النيابة ويعاد الحكم ويصدر مخالفا للحكم الأول.
التحية الحقيقية للقضاء هي عندما يهتف المتقاضون «يحيا العدل».
gamal_albanna@infinity.com.eg
* القاهرة
هل أحكام القضاء أكثر قدسية من القرآن؟
البشر ليسوا ملائكة اما قدسية احكام القضاء يجب ان لا تكون مطلقة وفى الشريعة الإسلاميةاوقات تعطل فيها الحدودوهى زمن الفتن والمجاعات فالسارق لا يقام عليه الحدفى زمن المجاعة ولنا فى عمر بن الخطاب اسوة حسنة
هل أحكام القضاء أكثر قدسية من القرآن؟
وهـل يوجـد أسا سا ً في القرآن أي نوع من أنواع القدسية؟
هل أحكام القضاء أكثر قدسية من القرآن؟
لا ادري كيف تحول الاخوان المسلمون الارهابيون مسالمين وودعاء ,,,,,اقول انهم يعمدون مبداء التقية السياسية ,,,,والدليل على ذلك اضطهاد الاقباط وخطف وتعذيب الرهبان من الاديرة وتعذيبهم واجبارهم بالقوة على اعتناق الاسلام ,,,على مرائ وسمع اجهزة الدولة الارهابية في عصر لا يمت للجاهلية بصلة الا عند هؤلاء القتلة المجرمين والمحرضين امثال البنا وامثاله ,,القرضاوي.بن لادن,الظواهري ,,,,الخ
هل أحكام القضاء أكثر قدسية من القرآن؟
يجي أولا شكر الشفاف على هذه المقالات الرائعة والجريئة، ويجب ثانيا تعميم افكار الاستاذ جمال البنا لتصل لكل القراء العرب والمسلمون الذين اقفلوا عقولهم وصاروا يقلدوا مشايخ متعصبون وبعيدون عن التسامح والقبول بالديمقراطية والحرية التي تترك المتدين في دينه وغير المتدين في حياته التي يختارها.
هل أحكام القضاء أكثر قدسية من القرآن؟
إلي صديقي ابن رشد العصر : جمال البنا
طالما استرحت ُ إلي فكرة مفادها أن التأويل يتضمن- في المسكوت عنه – أن النص الذي يحتاجه قد صار بالفعل خارج التاريخ .
بيد أن إصرارك النبيل علي تجسير الهوة بين المقدس الموروث في ثقافتناالعربية الإسلامية وبين الواقع المعيش المعاصر ؛ ربما يدعوني لمراجعة فكرتي .. سيما وأن خطابك له وقع العاصفة التي تحرك الآسن من الأفكار في رأس هذه الأمة.
هل أحكام القضاء أكثر قدسية من القرآن؟
دعني اروي لك يا شيخنا موقفا ولكن لن أقول القضاء فأنا لم أفقد عقلي بعد ولكن لنقل أحد المسؤولين, اعترض احدهم على أمر ولن أقول حكم وقال ان النظام الصريح يقول كذا وهذا الدليل ولن أقول الشرع قال كذا, فقال المسؤول ولن أقول القاضي وقد كان يمسك بيده (لستك)من الذي تمسك به النقود,قال المسؤول(هل تري هذا اللستك؟هل ترى سعته؟ثم قام بشده حتى اتسع وقال:النظام ولن أقول الشرع ,مثل هذا اللستك,إن أردنا تصغيره يصغر وإن أردنا تكبيره يكبر ,فبهت الذي سأل.