**
خاص بالشفاف- طهران
بداية لا بد من التوقف عند نقطة قد تكون مهمة في سياق تطور الاحداث على الساحة الباكستانية، وهي ان السلطة الباكستانية بقيادة الجنرال برويز مشرف وعلى الرغم من كونها سلطة عسكرية تحظى باعلى درجات الدعم والمساعدة الامريكية بهدف مساعدتها على البقاء والاستمرار واحكام السيطرة على استقرار النظام والامن في هذا البلد تأمينا لسلامة السلاح النووي من ان يسقط بايدي المتطرفين الاسلاميين، الا ان هذا البلد كان مسرحا غير طبيعي لاعمال الارهاب والتفجير والاغتيال العشوائي والمنظم. ما جعل هذه السلطة تدخل في مواجهة مباشرة وعلنية مع الجماعات الاسلامية بكل اطيافها القاعدية والطالبانية وما بينهما من تسميات ومسميات.
حالة عدم الاستقرار الامني وتنامي الاعمال الارهابية، ارسى اعتقادا بان السلطة العسكرية بقيادة مشرف غير قادرة على السيطرة، وانها تعاني من ضعف في الاداء واستقطاب الشارع الشعبي بكل مكوناته العرقية والدينية والقومية، خصوصا الاحزاب الدينية التي باتت تتهم هذه السلطة بالخيانة والعمالة للامريكي وتنفيذ اوامره بضرب الاسلاميين بذريعة محاربة الارهاب من دون مقابل.
ومع محاولات مشرف الهروب الى الامام تحت الضغوط الغربية عموما، وبالخصوص الامريكية المطالبة بتعزيز الديمقراطية والتعديدية في هذا البلد، وعد مشرف باجراء انتخابات رئاسية يكون هو المنتصر فيها شرط ان يتخلى عن لباسه العسكري، ويلي ذلك اجراء انتخابات برلمانية حرة وديمقراطية تقلل من حظوظ سيطرة الاسلاميين على البرلمان الجديد.
الاوساط الدولة والاقليمية، تلقفت هذا الاستعداد وعملت على تعزيزه وتضييق الخناق على مشرف منعا من تهربه من هذه الالتزامات، فسارعت الولايات المتحدة الامريكية لفرض تسوية قاسية على مشرف تقضي بعودة رئيسة الوزراء السابقة بينظير بوتو الى الباكستان في اطار صفقة تسمح لمشرف بالحصول على الرئاسة في مقابل ان تفتح الانتخابات الطريق امام تشكيل حكومة ديقراطية تترجم نتيجة الانتخابات البرلمانية، على امل ان تستطيع بوتو قلب المعادلة لصالحها.
في هذه اللحظة، وفي قراءة دقيقة لموازين القوى وما قد تؤول اليه التطورات جراء عودة بوتو واتمام الصفقة بين هذه الاخيرة ومشرف برعاية امريكية، تحركت المملكة العربية السعودية الراعي الرسمي للنظام الباكستاني ومشروعه النووي على خط الازمة ولفرض شراكة في “كعكة السلطة الباكستانية” من خلال الضغط على مشرف من جديد وللمرة الثانية بالسماح بعودة زعيم الحزب الاسلامي ورئيس الوزراء الاسبق نواز شريف الى الباكستان ليشكل القطب المنافس او على الاقل المشارك لبوتو في تقاسم السلطة.
والسعودية القلقة من التطورات والتغييرات السياسية على خاصرتها العراقية المتمثل بارجحية شيعية داخل السلطة في هذا البلد والذي ما لا تريد التسليم به، تزايد قلقها من الدور الذي قد تلعبه بوتو في استكمال المشروع الشيعي* المتقاطع مع الرؤية الامريكية للمنطقة التي اطلقت عليها اسم الشرق الاوسط الجديد او الكبير. فكان لا بد لها من التحرك السريع لقطع الطريق على أي تغيير قد يتم بعيدا عنها وعن مشاركتها فيه. فكان ان مهدت الطريق لعودة الضيف المزمن عليها نواز شريف الى الباكستان ليلعب دور الشريك الى جانب بوتو في تشكيل الصورة الجديدة للحياة السياسية للسلطة الباكستانية ويقطع الطريق امام تفردها بالقرار.
من هنا يبدو ان قراءة تطورات الوضع الباكستاني لا يمكن ان تجري من دون التوقف عند الاثار السلبية التي قد تتركها على منطقة شبه القارة الهندية واطرافها الممتدة من ايران وصولا الى افغانستان، وتتجاوزها نسبيا الى منطقة اسيا الوسطى والقفقاز، وخصوصا منطقة الشرق الاوسط.
اغتيال الحلم الديمقراطي
شكل اغتيال زعيمة حزب الشعب الباكستاني ورئيسة الوزراء السابقة بينظير علي بوتو صدمة قاسية تصل حد الفاجعة لمشروع التغيير نحو الديمقراطية والتخلص من قبضة وهيمنة العسكر في الداخل الباكستاني، اضافة للصدمة غير المتوقعة للتطلعات الامريكية في هذه المنطقة المضطربة والمفصلية في اطار مشروع الحرب على الارهاب الذي بدأ في افغانستان مع الهجوم على تنظيم القاعدة وجماعة طالبان وكان من المفترض ان لا ينتهي في العراق.
واذا ما سلمنا جدلا بان عملية الاغتيال هذه قد اربكت المشروع الداخلي الباكستاني نحو الديمقراطية، والمشروع الامريكي لتقديم نموذج ديمقراطي ايضا يستبعد الاعتماد على القوى المتطرفة ويضمن الاهداف الاستراتيجية الامريكية في السيطرة على السلاح النووي بعيدا عن متناول المتشددين، فان ارتدادات هذا الحدث السلبية والايجابية لم تكن بعيدة عن ايران الجمهورية الاسلامية التي تواجه يوما بعد يوم المزيد من الضغوط الدولية بسبب برنامجها النووي. وبالتالي فان هذا الاغتيال اما انه ساهم في خلط الاوراق والمخططات الايرانية ودفعت بها نحو مزيد من التعقيد، او ساعد في تضييق الخناق على طهران بحيث وضعها في مواجهة مستجدات لم تكن في الحسبان . او من ناحية اخرى، ساهم هذا الاغتيال في التخفيف عنى النظام الايراني بخلق بؤر توتر اكثر اشتعالا وحقول الغام قابلة للانفجار بوجه الامريكي بالاضافة للعراق. وكل هذه الابعاد للحدث الباكستاني يمكن التوقف عندها كل من زاويته وبناء على الرؤية التي يمكن ان ينظر منها لهذا الحدث والتفسيرات التي تقدم له.
لا شك ان الوضع في الباكستان، من ناحية الاستقرار الامني يعتبر الاكثر توترا، خصوصا في ظل المرحلة السابقة لسيطرة الجنرال برويز مشرف على المؤسستين السياسية والعسكرية، وذلك لان الساحة الباكستانية التي من المفترض ان تشهد استقرارا وسيطرة امنية بسبب الحكم العسكري لمشرف، شكلت اكثر الساحات دموية وانفلاتا وجعلت منها مسرحا لتصفية حسابات داخلية من جهة، واقليمية من جهة اخرى، لعبت فيها الطالبان دورا مهما، اما لخدمة المشروع الامريكي واحكام السطيرة على هذه المنطقة، واما لخدمة ضرب هذا المشروع وارباكه، وكل ذلك تحت نظر واعين النظام الايراني المترقب لمسار النتائج والامل بان تصب لصالحه وصالح طموحاته الاقليمية والنووية.
باكستان قبل اغتيال بوتو
شكلت الضغوط الامريكية على الجنرال برويز مشرف لفرض مزيد من الشكل الديمقراطي على السلطة الامنية في هذا البلد، بداية لتراخي يد الجنرال عن المؤسسة العسكرية، وبالتالي ساهمت في ان يحصل جنرالات الجيش على هامش من الحرية اكبر في قيادة مصير باكستان بالاتجاه الذي يريدونه او يرغبون فيه.
والضغوط الامريكية لم تقف عند حد فرض تخلي الجنرال مشرف عن لباسه العسكري، بل تعدت ذلك لاجباره على الموافقة على عودة غريميه السياسيين بينظير بوتو ونواز شريف، ما اسس لمرحلة جديدة من التنافس الديمقراطي بين الاطراف الثلاثة، الامر الذي سبب قلقا كبيرا لدى كل من المؤسسة العسكرية الخائفة على المكتسبات التي حققتها في سيطرتها على الباكستان منذ ايام الجنرال ضياء الحق حتى الان. وزادت كذلك من المخاوف لدى التيارات الاسلامية المتشددة التي ترى في الديموقراطية العدو اللدود لمشروعها في بناء دولتها الاسلامية في هذه المنطقة، خصوصا وانها تعتقد انها قادرة على التفاهم مع المؤسسة العسكرية التي كانت المساهم الابرز في تشكلها واشتداد عودها في السابق، عندما تبلورت فكرة انشاء حركة الطالبان الافغانية وصولا الى الهامش الواسع الذي تحظى به انشطتها في مناطق القبائل خصوصا في اقليم وزيرستان والمناطق المحاذية للحدود مع ايران وافغانستان.
ان عودة بينظير بوتو الى الباكستان في مرحلة مفصلية ومهمة وعلى ابواب انتخابات تشريعية وبعد تخلي الجنرال مشرف عن لباسه العسكري يكتسي اهمية كبيرة في اطار المشروع الامريكي لتقديم نموذج ديمقراطي علماني بعيد عن التشدد، تمهيدا لفرض معادلة سياسية جديدة في السلطة الباكستانية.
*العسكر واغتيال خطر التجربة الشيعية
من الواضح ان عودة بوتو الى الباكستان كان على اثر الضغوط الامريكية، وهذا يعني في احد ابعاده استفزازا للمؤسسة السنية بكل ابعادها الدينية والعسكرية والاقتصادية، من هنا كان لا بد لهذه المؤسسة من مواجهة الخطر المحدق بمنجزاته والعمل للدفاع عنها باي وسيلة ممكنة.
وان أي تجربة ديمقراطية حقيقية في الباكستان، يعني ان تفقد المؤسسة السنية سلطتها اما تدريجيا واما دفعة واحدة بحكم التحولات التي ستشهدها الساحة الباكستانية نتيجة لتطبيق هذا التوجه.
ومن غير المستبعد ان تكون المؤسسة العسكرية هي التي قامت بعملية اغتيال بوتو لتحقق عدة اهداف في اطار استمرار سيطرتها على السلطة في الباكستان.
لا شك ان الخوف قد اعترى هذه المؤسسة (الجيش) من التحولات التي شهدتها الساحتان الافغانية والعراقية بعد التدخل الامريكي المباشر في هذين البلدين، وانقلاب موازين السلطة فيهما وانتقالها من يد السنة الى الشيعة في العراق، والاعتراف الرسمي بالوزن الشيعي وشراكته الحقيقية بالسلطة في افغانستان بعد القضاء على حركة الطالبان وما تمثله من رمزية سنية ودينية.
ومن الممكن ان تكون هذه المخاوف لدى المؤسسة العسكرية الباكستانية حقيقية، خصوصا بعد التحول في الموقف الامريكي من الاسلام السني السياسي بعد احداث 11 سبتمبر والضربة التي تلقتها امريكا من هذا الاسلام الذي ربته ورعته طوال العقود الماضية. ما يعني ان احداث 11 ايلول فرضت على الادارة الامريكي نوعا من اعادة القراءة للاسلام السياسي بين مذهبيه السني والشيعي، ورأت ان التعامل والتواصل مع الاسلام السياسي الشيعي اكثر امكانية من الاسلام الحليف لها الذي تربى برعاية سعودية.
لا شك ان المؤسسة السنية بشقيها العسكري والديني في الباكستان لم تستطع ابعاد مشهد الشيعة العراقيين وهم يسيطرون على مقاليد السلطة التي كانت تحت سيطرة حزب البعث الذي اختزل السنة العراقيين ودورهم التاريخي وصادر صوتهم، ويخرجون الى الشوارع لاداء شعائرهم الدينية الشيعية بكل حرية بعد ان حرمتهم السنية السياسية منها طوال عقود طويلة قد تمتد الى مراحل متقدمة من التاريخ السياسي للعراق.
ورأت هذه المؤسسة ان امكانية عودة بوتو الى السلطة من البوابة الديقراطية وعلى مبدأ الشراكة السياسية التي قد يفرضها الامريكي بين بوتو ومشرف، بحيث تكون هي رئيسة للوزراء ومشرف رئيسا للجمهورية نوع من استعادة امريكية للتجربة العراقية في الباكستان، وان منطقة نفوذ شيعية يمكن ان تتشكل في منطقة الشرق الاوسط وشبه القارة الهندية من لبنان وسوريا مرورا بالعراق وايران وصولا الى الباكستان واقليم كشمير الهندي سيكون لها الاثر الكبير على العالم الاسلامي والمعادلات الدولية في التعاطي مع السنية السياسية، خصوصا في ظل تراجع النظام العربي السني الذي اثبت فشله وعدم قدرته على تقديم الجديد اضافة الى مساهمته في رعاية العنف في العقود الماضية والذي انتج نوعا من العداء الغربي السافر للاسلام.
وبعيدا عن الاهتمام المباشر للمؤسسة العسكرية الباكستانية بالسماح باغتيال بوتو على ايدي المتشددين الاسلاميين، الا ان التحدي الذي اوجدته الاخيرة على الساحة السياسية الباكستانية وتهديدها للمكاسب التي حققتها هذه المؤسسة على مدى سنوات طوال، قد يكون شكل الدفاع وراء التحرك سريعا لقطع الطريق على الحلم الامريكي بعراق ثان في شبه القارة الهندية. اما بدعم وتأييد وتوفير الارضية لعملية الاغتيال او التغاضي عنها والسماح بحدوثها على ان تقوم لاحقا باستيعاب مفاعيلها وارتداداتها داخليا واقليميا ودوليا.
وقد ساعدت بوتو في التأسيس لاغتيالها من خلال اجراءات تاريخية قديمة واخرى مباشرة رافقت مسيرة عودتها الى الباكستان.
اذا ليس خافيا على احد أن بينظير هي التي أسست حركة طالبان الأفغانية في تسعينيات القرن الماضي او سمحت بتأسيسها وبالتحديد على يد وزير داخليتها الجنرال المتقاعد حاليا نصير الله بابر عام 1995 بموافقة الولايات المتحدة الامريكية وتمويل سعودي بهدف محاربة الاحتلال السوفياتي لافغانسان والاحزاب غير الموالية.
وقد سهل على بوتو هذه المهمة كون الطالبان آنذاك كانت تنتمي للتيار الديوبندي الذي يمثله في باكستان حزب جمعية علماء الإسلام ـ حليف بوتو في الانتخابات ـ وهو تيار سني متشدد، حنفي الفقه وهابي العقيدة، يضم تحت عباءته تنظيمات متطرفة مثل طالبان وجيش الصحابة وجمعية طلبة الإسلام وحركة الأنصار وغيرها.
ويبدو أن الولايات المتحدة ـ التي دعمت بينظير لتصل إلى الحكم بعد ضياء الحق وتقضي على المشاعر الإسلامية التي أججها الجميع واستغلوها في هزيمة موسكو ـ رأت بعد أن فشلت في قمع طالبان أن تأتي بمن أسسها ـ أي بينظير ـ علها تفلح في قمعها، متناسية أن بينظير لم تستطع السيطرة على التطرف بعد ضياء الحق بعد وصولها الى الحكم اول مرة عام 1988، وأن الوضع قد تغير عما كان عليه عام 1995 بعد توليها السلطة في المرة الثانية، اذ لم تكن تفجيرات نيويورك قد حدثت، ولم تشهد المنطقة احتلالا امريكيا لافغانستان والعراق بذريعة القضاء على حركة الطالبان وتنظيم القاعدة ومحاربة الارهاب بعد هذه التفجيرات، وهي احتلالات ساهمت بنتائجها في تعميق التطرف او ما يسمى في المفهوم الامريكي الارهاب.
وعودة بينظير الى الباكستان ترافقت مع موافقتها على العرض الذي تقدم به الرئيس مشرف بدعم وطلب امريكي بالشراكة في السلطة، الا ان هذه العودة والصفقة اسست لعملية الاغتيال من خلال معطيات ساهمت هي في ايجادها واستفزاز التيار الديني المتشدد الخائف من عودتها من خلال :
* نشر تفاصيل الصفقة حول اقتسام السلطة ومكافحة الارهاب والتطرف.
* التحالف العلني مع الرئيس مشرف وواشنطن اللذين دخلا في حرب مفتوحة وعلنية مع حركة طالبان والتيار الإسلامي المتشدد في باكستان.
* اللقاءات العلنية مع شخصيات معادية للطالبان والتيار الاسلامية المتشددة كالرئيس الافغاني حامد كرزاي**.
* مهاجمة المتشددين الإسلاميين، وجعلت من هذا الشعار اساس حملتها الانتخابية اذ كان آخر ما قالته قبل الهجوم القاتل : “أؤكد لكم أن حزبي إذا فاز في الانتخابات فستقضي حكومتي على المتشددين”.
وأمام هذا لم يكن رد فعل المتطرفين ـ الذين أدركوا أنها ستقضي عليهم ـ سوى المبادرة الى اخراجها عن الساحة السياسية باسرع وقت ممكن.
حسابات الربح والخسارة:
قد تكون السنية السياسية المتمثلة بتنظيم القاعدة في الباكستان هي المستفيد الاول في المدى المنظور من تغييب بوتو عن الساحة الباكستانية عبر اغتيالها، على حساب المشروع الامريكي بفرض ديمقراطية جديدة في هذا البلد التي تهدف للحد من توسع نفوذ الاسلاميين او المتشددين فيه، وبالتالي ابعاد شبح حيازة وسيطرة هذه الجماعات على سلاح استراتيجي نووي يهدد من خلال العقلية التدميرية والسلبية الاسلاموية التي ستتحكم به امن كل الاطراف.
ان اغتيال بوتو شكل استبعادا لامكانية ان تكون الحاكم المدني الفعلي في الباكستان في اطار ديمقراطي قادر على التحكم بالسلاح النووي بمزيد من الرقابة، أي ابعاده عن تحكم العقائديين المتغلغلين في المؤسسة العسكرية الى حد ما. والذي كان سيسمح ويسهل للامريكي احراج مواقف الاخرين، خصوصا ايران، بما تمثله من تجربة ديمقراطية داخل منظومة الدول الاقليمية المجاورة لها، وبالتالي المساعدة على ابقاء التجربة الديموقراطية الايرانية حية ومستمرة. لكن الاغتيال ساهم في اعادة منسوب الخوف الامريكي من البرنامج النووي الايراني السلمي وامكانية تحوله الى عسكري الى مستويات عالية.
ومكمن الخوف الامريكي من ايران، هو لجوء القوى الاصولية المتشددة للسير في مشروعها في التحكم بالتجربة الديمقراطية التي قطعت شوطا كبيرا على طريق التبلور من مضمونها مع الحفاظ على الشكل الذي يضمن سيطرة ووصول من تريده هذه القوى بدعم وحماية من السلطة الدينية. وهو ما ظهر جليا وبشكل حاد في الانتخابات البرلمانية الايرانية مؤخرا والتي فرضت سيطرة واضحة للتيار المحافظ الاصولي على البرلمان واستبعاد التوجهات الاصلاحية او الديمقراطية والاصوات المختلفة مع خطاب السلطة عن هذه الانتخابات.
والاسلوب الذي استخدمته السلطة الايرانية في الانتخابات البرلمانية وقبلها في الانتخابات الرئاسية وقد تستخدمه لاحقا في أي انتخابات قد تشهدها الحياة السياسية في ايران، يهدف الى تمهيد الارضية لسيطرة الخطاب الديني الذي لا يقول بالمشاركة الشعبية في رسم القرار. أي ان دور الشعب او عملية الاقتراع هي الكشف عن تعيين غيبي لمندوبه ليس اكثر، ما يعطي السلطة او هذا المندوب هامشا واسعا في اتخاذ القرار الذي يتفق مع مصالحه ذات الصفة الدينية الغيبية من دون العودة او اللجوء الى الشعب او آليات العملية الديمقراطية التي اتت به، انطلاقا من عقيدته بان دور هذا الناخب تنتهي مع عملية الكشف التي كلف بها.
وهذا التركيز على البعد الغيبي والديني في العملية السياسية في النظام الايراني الاسلامي، يسمح للنظام بان يشكل السلطة ومراكز القرار بالشكل والنمط الذي يريده، وبالتالي يسمح له باتخاذ القرار الذي يريده من دون أي اعتراض، بما يملكه من سلطتين دينية – غيبية وزمنية قانونية شكلا.
هذه الاشكالية والخوف من تحكمها باليات القرار في النظام الايراني هي التي تزيد المخاوف من مستقبل ليس فقط الدور الايراني في المنطقة، بل ايضا من البرنامج النووي وتطوره. خصوصا الخوف من ان تتحكم قوى في مسار القرارات ترى ان الدفاع عن استمراريتها وسلطتها يمكن في الدفع بالمواجهة مع المجتمع الدولية على خلفية البرنامج النووي وملفات اخرى الى حدود الانتحار.
اذا، فالارباك الذي احدثه اغتيال بوتو لا يقتصرعلى الداخل الباكستاني وتوزيع القوى بين اقطاب الحياة السياسية في هذا البلد، بل يتعداه الى ارباك لعدد من اللاعبين الدوليين والاقليميين والاسلاميين. واذا ما كانت المخاوف او الارباك الامريكي من هذا الاغتيال تتركز على مستقبل البرنامج النووي التسليحي للباكستان، غير ان ارباكا اخر يضاف اليه، وهو مساعي محاصرة ايران بتجارب ديمقراطية نسبية من العراق مرورا بافغانستان وصولا الى باكستان تحت السيطرة الامريكية، والقول بان امكانية الاستمرار والتعايش مع المحيط والمجتمع الدولي لا بد ان تمر عبر التخلي عن الخطاب الايديولوجي المتشدد.
اما ايران والتي كانت ترى في عودة “بوتو” التي رحبت بها وان كانت تمثل رغبة امريكية، وامكانية استعادتها للسلطة على قاعدة التقاسم مع “مشرف” بشراكة مع ” نواز شريف ” عامل امان وراحة لايران، لان هذه العودة لبوتو بما تمثل عودة لمكون ديني في المجتمع الباكستاني الى السلطة يشكل حليفا بالقوة (كامنا) لها يخفف الضغط عنها بما يمثله من امتداد مذهبي يمكن ان يتكامل مع ما لدى ايران من نفوذ وامتداد في كل من العراق وافغانستان، ويلتقي مع نفوذها القوى في سوريا ولبنان. الا ان هذا الاغتيال اربك اللاعب الايراني مرحليا، بانتظار ما ستسفر عنه المستجدات والعملية الديموقراطية التي ستشهدها الساحة الباكستانية في الانتخابات التشريعية.
الانتخابات واعادة خلط الاوراق :
يمكن اعتبار اغتيال بينظير بوتو انه “اغتيال غبي في لحظة ايرانية” وان كان المستفيد المباشر منه في مدى قصير الاحزاب والقوى الاسلامية السنية خصوصا الاطراف الاقليمية المتخوفة من امكانية تشكل “الهلال الشيعي” الممتد من شبه القارة الهندية وصولا الى تخوم شمال افريقيا في فلسطين. الا ان النتائج افرزت مستفيدين حقيقيين من هذا الاغتيال، بعضهم كان يتوقع ان تكون استفادته اكبر لو ان بوتو ما تزال حية، والبعض الاخر ارتفعت نسبة فائدته بالفوز الكاسح الذي حققه حزب الشعب بزعامته الاشكالية الجديدة التي ورثت بوتو.
لقد انعكس اغتيال بوتو سلبا على الاطراف المدعومة من قبل تيار المملكة العربية السعودية في حديقتها الباكستانية الخلفية، اذ انتج استقطابا من قبل حزب الشعب لرأي الشارع الباكستاني وتحشيده وراء هذا الحزب في الانتخابات التشريعية على حساب حليف الرياض نواز شريف، وبالتالي سمح لشريف ان يكون شريكا غير مقرر في البرلمان والقرار السياسي، وبالتالي سمح لحزب الشعب بقيادته الجديدة المتمثلة بزوج بوتو “آصف علي زرداري “بايصال” السيد رضا يوسف جيلاني” مرشحه الى سدة رئاسة الوزراء، بعد ان استطاع الحزب ايصال مرشحته “فهميده ميرزا” العضو ايضا في حزب الشعب الى رئاسة البرلمان، الامر الذي ساهم في محاصرة رئيس الجمهورية برويز مشرف الذي يعتبر الخاسر الاكبر من اغتيال بوتو والعملية الديمقراطية التي وافق عليها مرغما مقابل الحفاظ على موقع الرئاسة.
في المقابل فان المشروع الامريكي لمكافحة الارهاب والحرب ضد التطرف خسر ورقة صلبة وعنيدة تصل حد الدكتاتورية في هذا الاطار. وبالتالي فان من سيخلفها لن يكون بالمستوى نفسه الذي كان من المفترض ان تضطلع به بينظير في هذه المواجهة، ما يستدعي من الجانب الامريكي اعادة النظر في المراهنة على طرف دون اخر، وبالتالي قد يكون على الولايات المتحدة اعادة تثبيت مواقع الرئيس مشرف من دون اضعاف الطرف الاخر بما يخدم مشروعها الاساس.
اما ايران التي اعترتها المخاوف من عدم امكانية التفاهم التام مع بينظير، فانها قد تبدي الكثير من الارتياح لسيطرة حزب الشعب على مقاليد السلطتين التنفيذية والتشريعية وبالتالي الارتياح الى التطورات التي قد تشهدها خاصرتها الباكستانية والتفرغ لملفات اخرى اكثر حيوية بالنسبة لها في منطقة الشرق الاوسط الذي تسعى ان تكون شريكة فيه الى جانب الولايات المتحدة الامريكية.
hassanfahs@hotmail.com
* ملاحظة من “الشفّاف”: هل كانت بنازير بوتو “شيعية؟ مع أن 90 بالمئة من شيعة باكستان يعطون أصواتهم تقليدياً لحزب بوتو، فالواقع أن بنازير بوتو نفسها كانت “سنّية” على مذهب والدها ذو الفقار و80 بالمئة من شعب باكستان. مصدر الإلتباس هو أن والدتها “شيعية” وكذلك شقيقتها التي اختارت مذهب والدتها. يُضاف إلى ذلك أن زوج بنازير “أصف زرداري” هو أيضاً “شيعي”.
** التقت بنازير مع رئيس أفغانستان حامد كرزاي يوم مقتلها في باكستان، وذلك في إطار زيارة رسمية لباكستان قام بها الرئيس الأفغاني. وكان حامد كرزاي قد وجّه دعوة لبنازير لزيارة باكستان أثناء إقامتها في دولة الإمارات، ولكنها امتنعت عن تلبية الدعوة بعد أن تلقّت “تحذيرات أمنية” دفعتها لإلغاء الزيارة (الشفّاف).