قد يكون الرد الحاسم على مبدأ «سد الذريعة» هو ما جاء به القرآن الكريم في سورة النجم «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ»؛ لأنها تنص على شيء اسمه «اللَّمَمَ» استثني من وجوب الاجتناب، وتسامح بوقوع المسلمين فيه.
فما هو «اللَّمَمَ» ؟
لقد جاء ذلك في تفاسير قدامى المفسرين الطبري والقرطبي وابن كثير، وكذلك الشهيد سيد قطب، وقد كنت أشفق من إيرادها، ولكن ادعاءات المتشددين تجبرني على إيرادها، وقد استغرق تفسيرها في كل تفسير ما بين ثلاث وأربع صفحات، مما لا يمكن أن نعرضه في مقال ويكون علينا أن نورد شيئاً مما جاء في كل منها.
جاء في الطبري قال ابن مسعود «زنا العينين (النظر)، وزنا الشفتين (التقبيل)، وزنا اليدين (البطش)، وزنا الرجلين (المشي) ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه، فإن تقدم بفرجه كان زنا، وإلا فهو « اللَّمَمَ». وقال أبو هريرة «اللَّمَمَ» هو القبلة والغمزة والنظرة والمباشرة إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل وهو الزنا. ورأى آخرون إن «اللَّمَمَ» في الآية ليس استثناء، وأن يعني أن يلم بكبائر الإثم والفواحش ثم يتوب. وقال أبو هريرة عن «اللَّمَمَ» اللمة من الزنا ثم يتوب ولا يعود، واللمة من السرقة ثم يتوب ولا يعود، واللمة من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود، وعن الحسن قال اللمة من الزنا أو السرقة أو شرب الخمر ثم لا يعود، وعن ابن عباس يلم بها في الحين قلت الزنا قال الزنا ثم يتوب. وعن أبي صالح قال الزنا ثم يتوب. وعن عبد الله بن عمر بن العاص « اللَّمَمَ » هم ما دون الشرك، ورأى آخرون إنه ما بين الحدين، أي حد الدنيا وحد الآخرة (حد الدنيا هو كل ذنب فرض الله عقوبته في الدنيا، وأما حد الآخرة فكل شيء ختمه الله بالنار وأخر عقوبته إلى الآخرة). قال الطبري وأولى الأقوال عندي بالصواب هو من قال إلا بمعنى الاستثناء المنقطع ووجه الكلام إلى «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ» بما دون كبائر لإثم ودون كبائر الفواحش الموجبة للحدود في الدنيا والعذاب في الآخرة فإن ذلك يعفو لهم عنه، وذلك عندي نظير قوله جل ثناؤه « إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً » (النساء: 31)، فوعد جل ثناؤه باجتناب الكبائر والعفو عما دونها من السيئات وهو اللمم الذي قال عنه النبي (العينان تزنيان والرجلان تزنيان) ويصدق ذلك الفرج ويكذبه، ذلك أنه لا حد فيما دون ولوج الفرج في الفرج (ص 38 ــ 41) الجزء السابع والعشرين من كتاب “جامع البيان في تفسير القرآن” لابن جرير الطبري، الطبعة الأولى، بولاق سنة 1329هـ.
وأعاد ابن كثير في تفسيره ما جاء في الطبري حرفيًا، وانظر تفسير الحافظ بن كثير الجزء الثامن، مطبعة المنار، سنة 1347هـ، الصفحات من 114: 116
وقال القرطبي «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ» هذا نعت للمحسنين، أي لا يرتكبون كبائر الإثم وهو الشرك لأنه أكبر الآثام، قال إلا اللمم وهي الصغائر التي لا يسلم من الوقوع فيها إلا من عصمه الله وحفظه وقد اختلف في معناها فقال أبو هريرة وابن عباس والشعبي هي كل ما دون الزنى. كذا قال ابن مسعود وأبو سعيد الخدري ومسروق إن اللمم ما دون الوطء من القبلة والغمزة والنظرة والمضاجعة. وفي صحيح البخاري ومسلم عن ابن عباس قال ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة أن النبي قال (إن الله ليكتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة فزنى العينين النظرة وزنا اللسان النطق والنفس تتمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)، والمعنى إن الفاحشة العظيمة والزنى التام الموجب للحد في الدنيا والعقوبة في الآخرة هو في الفرج وغيره له حظ من الإثم، وقد ذكر الثعلبي حديث طاوس عن ابن عباس فذكر منه الإذن واليد والرجل وزاد فيه بعد العينين واللسان وزنى الشفتين القبلة، وكذا قال مجاهد والحسن هو الذي يأتي بالذنب ثم لا يعاوده، ونحوه عن الزهري قال اللمم هو أن يزني ثم يتوب فلا يعود، وأن يسرق أو يشرب الخمر ثم يتوب فلا يعود ودليل هذا التأويل قوله تعالى «وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ»، ثم قال «أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ» فضمن لهم المغفرة، كما قال عقيب اللمم «إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ»، وقال عبد الله بن عمرو ابن العاص اللمم ما دون الشرك، وقال الكلبي اللمم على وجهين كل ذنب لا يذكر الله عليه حدًا في الدنيا ولا عذابًا في الآخرة، فذلك الذي تكفره الصلوات الخمس ما لم يبلغ الكبائر والفواحش، والوجه الآخر هو الذنب العظيم يلم به الإنسان المرة بعد المرة فيتوب منه. الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، الجزء السابع عشر، ص 106ــ107 (طبع دار الكتب المصرية سنة 1948).
وأعاد الشهيد سيد قطب في كتابه «في ظلال القرآن» (الجزء السابع والعشرون، الطبعة الأولى، ص 62ــ63) الأقوال السابقة، وقال عن آخرها وهو ما روي عن أبي هريرة اللمة من الزنا ثم يتوب ولا يعود، واللمة من السرقة ثم يتوب ولا يعود، واللمة من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود، فعقب على ذلك : والذي نراه أن هذا القول أكثر تناسـبًا مع قوله تعالي بعد ذلك « إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ » فذكر سعة المغفرة يناسب أن يكون اللمم هو الإتيان بتلك الكبائر والفواحش ثم التوبة ويكون الاستثناء غير منقطع، ويكون الذين أحسنوا هم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا أن يفعلوا في شيء منها ثم يعودوا سريعًا ولا يلجوا ولا يصروا كما قال الله تعالى « وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ »، وسمي هؤلاء المتقين ووعدهم مغفرة وجنة عرضها السماوات والأرض، فهذا هو الأقرب إلى رحمة الله ومغفرته الواسعة، وختم الآية بأن هذا الجزاء بالسوء أو بالحسنى يستند إلى علم الله بحقيقة دخائل
الناس في أطوارهم كلها.
* * *
لم تقتصر الإثارة التي أوجدها هذا الموضوع على المشايخ التقليديين، ولكنها وصلت إلى الإعلام الدولي الذي عُني بها عناية خاصة لأنها تعالج موضوعًا يمت إلى الحرية، وإلى المرأة بنسب، وهذان من الموضوعات المحورية في المعارضة الأوروبية للفكر الإسلامي التقليدي، وجاءتني رسالة من سيدة مغتربة بالإنجليزية تسأل عما إذا كنت أقبل لابنتي أو أختي تبادل القبلات مع شبان ؟ والرد لو كان لي بنت في الثامنة عشر من عمرها في الجامعة فإني لا أحجر على تصرفاتها، بل ولا أملك لو أردت هذا الحجر، وقد أتحدث إليها حديثاً لا يجعلها تنزلق إلى ما هو أبعد، أما القبلات نفسها فمن المزايدة أن يطلب مني أن أكون أكثر تديناً من الطبري وابن كثير والقرطبي وسيد قطب، وقد عرفنا آراءهم في اللمم الذي يضم ما هو أكثر من القبلة.
ولفت نظري أن ما من واحد كتب لو أن لك ابناً أو أخًا هل تسمح له بتقبيل زميلاته ؟ لأن اللوم والحساب هو دائمًا على الإناث.. أما الذكور فمعفيون ضمناً.
وكتب الدكتور عبد الهادي مصباح في هذه الجريدة يوم 2/3/2008 مقالاً بعنوان «القبلات يا أستاذ جمال» وهو ما يشي باستعظامه الأم، وأن القبلة مقدمة الزنا، ويستشهد بحديث الرسول عن أنها «رسول» المواقعة، فهل فات الكاتب أن قبلة في حجرة النوم بين زوج وزوجته تختلف عن قبلة في الهواء الطلق بين زميلين في الجامعة.
وأسوأ ما كتب هو ما كتبته صحفية مغمورة في الأهرام ص 2 يوم 9/3/2008:
بعد إرضاع الكبير.. القبلة حلال لغير المتزوجين
بعد أن هدأت عاصفة فتوي ارضاع الكبير، خرج علينا المفكر الإسلامي جمال البنا ليضيف عربة جديدة إلي قطار الفتاوي المندفع بلا هوادة، ليبيح للشباب والفتيات القبلة، بشرط ألا يكونوا متزوجين!
مبررات البنا الضعف البشري وتزايد المؤثرات الخارجية وتأخر سن الزواج وارتفاع تكاليفه والبطالة، المهم أن الرجل الذي ترك كل هموم الأمة ولهث وراء إشباع شهوات الشباب اعتبر القبلات مجرد ذنوب صغيرة تمحوها الحسنات.
وفي الحقيقة غاب عن فتوي البنا، تحديد الحسنات التي يمكنها محو هذه الذنوب، وعدد القبلات المباحة، وهل تقدر بالألوف، وأين تتم هذه الشعائر الروحية.
رحم الله الفنان بيرم التونسي، فلو كان بيننا لقال : يا أهل (الفتوي) دماغنا وجعنا دقيقة سكوت لله !!» انتهى.
ووجه نظري بعض الأخوة إلى هذه الكلمة ولم أر إنها مما يستحق الرد، ولكن الصحفية المغمورة عادت تكتب يوم 15/3/2008:
مفتي القبلات الحلال.. يبيح الرذيلة الأولى
بعد اباحته القبلة بين غير المتزوجين، تمادى المفكر الإسلامي جمال البنا في فتاواه المثيرة مطمئنا من تنزلق قدماه إثر هذه القبلات ويقع في الزنا إلى أن هذه الجريمة مغفورة بإذن الله مادامت أول مرة!.. ان المسألة هتعدي وربنا هيمشيها بنظام المقاصة!! وقال ان الحسنات الكثيرة تذهب هذه السيئات مثل نظام البنوك! وأضاف ان السرقة أول مرة أيضا هتعدي !!.. ويبدو أن الذاكرة خانت البنا، فنسي المرأة التي زنت واعترفت للرسول ، وأقام عليها الحد .. عموما، ننتظر توضيحًا من البنا عن جريمة الزنا (المغفورة)، وهل الأمر يخص غير المتزوجين كالقبلات أم متاح للجميع».
وعندئذ وجدت أن من الضروري أن أوقفها عند حدها وأن أوجهها فيما ليس لها علم به، فأرسلت الرد الآتي:
أقول لكاتبة «مفتي القبلات الحلال… يبيح الرذيلة الأولى»: « اقرأي ما كتبه الطبري وابن كثير والقرطبي وكل المفسرين في تفسير الآية «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ» (النجم : 32)، ففيها أكثر مما ذكرت. وهل تسخرين من قوله تعالى «إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ»، أو من الرسول الذي جاءه رجل فقال له (أصبت حدًا)، فصمت الرسول حتى قامت الصلاة، وبعدها أعاد الرجل كلمته، فقال له الرسول : «ألم تصل معنا؟ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ».
وأنصحك بأن تحسني القياس ولا تخلطي الجد بالهزل.. وأيضًا أن تعرفي أقدار الرجال وتحترمي القلم.. والأهرام.. والقراء».
ولكن من الغريب أن الأهرام بدلاً من أن يلتزم بما فرضه العرف الصحفي من إثبات الرد، وبدلاً من أن يصلح غلطته بنشر مثل هذا الكلام الهازل الذي أنزل الأهرام إلى مستوى صحافة النميمة لم ينشر الرد، رغم إرساله مرتين بالبريد الإليكتروني ومرة ثالثة مع أحد صحفيي الأهرام، فهل ينشر الأهرام للصغار ولا ينشر للكبار؟
gamal_albanna@infinity.com.eg
* القاهرة