**
الحلقة 2 من 3
يعترف الإسلام بالضعف البشري، وأن هذا الضعف جزء من الطبيعة البشرية التي جبل الله عليها النفس البشرية « وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا» (الشمس: 7 ــ 9)، « وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً » (النساء: 28).
لم يستبعد الإسلام الخطأ على الإنسان، بل رآه أمرًا طبيعيًا، وقد جوز الخطأ على الأنبياء أنفسهم وهم المثل العليا للبشـرية في غير ما كلفوا بتبليغه، فقال القرآن عن آدم (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)، وعن سليمان (وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً)، وقال عن يوسف (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ)، وقال عن موسى (وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنْ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً)، وقال عن ذي النون (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ)، وقال عن محمد (وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ)، (وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِي عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً)، ونحن لا نجهل ما تذكره كتب التفسير عن هذه الآيات، لكن ظاهر الكلمات والسياق يأباها، وليس الأنبياء بعد بمعصومين لولا رحمة الله بهم وفضله عليهم، وليس ما هو أصرح من كلمة يوسف (وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنْ الْجَاهِلِينَ).
وقال الله تعالى «وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ » وتفضل الله تعالى على المؤمنين بالتجاوز عن سيئاتهم، «أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ» (الحقاف: 16).
وقال الرسول : (كل بني لآدم خطاءون وخير الخطائين التوابون)، وقال : (لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون وبستغفرون فيغفر الله لهم).
يتعامل الإسلام مع هذا الضعف طبقًا لاستراتيجية طويلة تدوم مادام الإنسان ولا تقف إلا عند « لغرغرة»، أي الدقائق التي قبل الموت عندما تفارق الروح الجسد.
وهذه الاستراتيجية ذات طبيعة إيجابية ــ حيوية ــ عملية وقوام هذه الطبيعة ما يمكن أن نسميه «المقاصة»، أي مقابلة السيئات بالحسنات، ولم يكن مناص من أن تكون هذه هي طبيعة الاستراتيجية الإسلامية، لأنه بعد أن سلم الإسلام بالضعف البشري وأن الإنسان سيقع في خطأ، وسيرتكب ذنبًا لا محالة وبحكم طبيعته وخلال سنوات عمره الطويلة، فلم يكن من محل إلا «المقاصة»،أي تقديم الحسنات والأعمال الطيبة والخيرة بقدر ما اضطره ضعفه البشري لارتكاب سيئات فتمحوا الحسنات السيئات.
والأساس في هذه المقاصة هو قول الله تعالى (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)، وقول الرسول (واتبع السيئة الحسنة تمحها)، ويصورهذه المقاصة تصويرًا رمزيًا حديث المفلس الذي صور المفلس يأتي بصلاة وصيام وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطياهم فطرحت عليهم وهذا أكمل تصوير لمضمون المقاصة.
و «التوبة» وسيلة أخرى للتكفير عن الذنوب، ولا يسع المجال لإيراد الآيات والأحاديث التي جاءت في التوبة، ولكن أفضل ما يصورها ما جاء في سورة الفرقان « وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً * وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً * وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً * إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً » (الفرقان: 63ــ71)، فانظر كيف أن التوبة والعمل الصالح بدلت سيئات شملت الشرك، والقتل، والزنا إلى حسنات.
ويفترض بالطبع أن تكون توبة نصوحًا، ومع هذا فالإسلام يرى في الندم «توبة».
أن هذه الاستراتيجية الحيوية الإيجابية العملية تختلف تمام الاختلاف ــ إن لم تتعارض ــ مع الاستراتيجية التي وضعها الفقهاء للتعامل مع الضعف البشري والتي تقوم على «سد الذريعة»، أي أنها تريد أن تحول بين الإنسان وبين الوقوع في الأخطاء والذنوب بإبعاده عنها أو بوضعه في «صوبة» لا يمكن للآثام أن تدخلها، وفاتهم أن الضعف مغروس في النفس الإنسانية نفسها، وباب سد الذريعة باب متسع في الفقه الإسلامي، وبعضهم بناه على أن العبرة بالمآل وأنه يدخل في فقه المآل، بينما ركز آخرون على تحديد مدى المفسدة التي يجب سدها، ولما كان الاتجاه الفقهي بصفة عامة يأخذ بالأحوط ويتوقى عدم وجود ثغرات يسمح منها ظهور المفسدة، فإنهم توسعوا في استخدامها، وكان كل ما جاءوا به من مباحث طويلة قائمة على فقه يعالج التصرفات كما لو كانت أعمالاً ثابتة جامدة، يفصل فيها المنطق الصوري وأنهم تجاهلوا أصولاً في الشريعة لا يسمح بمثل هذا التزيد والتحوط، لأنه يخالف اعتبارات اعتمدتها الشريعة، وما قضت به الطبائع من أن التوسع في التحريم يؤدي إلى آثار عكسية، وأن الطبيعة السلبية المعالجة تتناقض مع الطبيعة الحيوية الديناميكية التفاعلية الاستراتيجية المقاصة القرآنية.
والأساس الذي يقوم عليه مبدأ سد الذريعة هو أن كل وسيلة تؤدي إلى حرام يجب تحريمها ويذكرون في دعم مبدأ سد الذريعة الآية «وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ» (الأنعام: 108)، ولكن لما كانت دلالة الآية محدودة، فإن الاستخدام الأعظم جاء عن طريق حديث «المرأة عورة» فإذا كانت المرأة عورة، فإن سد الذريعة دون الفتنة بهذه العورة هو حجزها في البيوت داخل أربعة جدران، وإذا خرجت لضرورة يجب أن تخرج كما لو كانت شبحًا، وينسحب هذا على كل المناشط التي يمكن أن تقوم بها، كما يلجأون إلى حديث الحرام بين والحلال بين وبينهما متشابهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام.. إلخ.
وليس من اليسير أن نطرح استشهادًا معارضًا كأن يأتي النص القرآني محدداً لما حرم الله كما جاء في الآية «أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ» (الأنعام: 150ــ153)، فيكون سد الذريعة افتياتاً عليها، وكذلك حديث الرسول عن أن الحلال ما أحله الله في كتابه والحرام ما حرمه الله في كتابه وبينهما عفو فأ قبلوا من الله عافيته، ومنها التوجيه النبوي للمؤمنين (إذا نهيتكم عن أمر فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)، ومنها قول الله تعالى «وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ» (النحل: 116)، فهذه كلها ترى في سد الذريعة إفتياتًا على الشريعة.
وقد أثبتت التجارب أن المحاولات التي قامت بها بعض النظم الدينية الحاكمة مسيحية أو إسلامية لاستئصال الشر والفساد من منبعه والحيلولة دون ظهوره باءت بالفشل، وأنها حتى عندما تكتسب نجاحًا ظاهريًا وموقوتًا تدفع ثمنًا باهظًا في وسائل وأساليب تتطلب القمع والتجسس وتؤدي إلى ظهور السوق السوداء، والتهريب، والتحايل وإفساد الضمائر والنفوس ؛ لأن هذا الأسلوب يجافي طبيعة المجتمع البشري، وما فيه من ضعف وشهوات وما أراده الله له من مجابهة الإيجابية وليس الحيلولة السلبية بين الحق والباطل.. الخير والشر.. الإرادة والهوى.
وإنما سلك كثير من الدعاة الإسلاميين هذا المسلك لأنهم حصروا أنفسهم في دائرة ضيقة ينظرون منها ويحكمون على الأشياء طبقًا لها، ولو انهم درسوا المجتمع الإنساني والنفس البشرية دراسة موضوعية شاملة لأدركوا أن الحرمان المحرق لا يقل سوءًا عن الشهوة الجامحة، وأنه يذل النفوس ويوهنها ويوجد فيها ثغرات عديدة يمكن أن تؤتي منها.
وبالطبع فإن من يسلك هذا المسلك لا يمكن أن يفهم العمق الذي تضمنه فهم الإسلام للذنب وأن الوقوع في الذنب لا يخلو من آثار تصب في خانة المصلحة لا المفسدة وهو سر لا يمكن أن يدركه الفقهاء الجامدون والأعراب الجفاة، ولكن الإسلام الذي جاء من عند الله الذي يعلم بما في الإنسان وما توسوس به نفسه وهو أقرب إليه من حبل الوريد يدرك أن الوقوع في الذنب يمكن أن يكون هو نفسه نوعًا من سد الذريعة بمعنى تكرار الذنب، كما أنه يحول من تسلل عاطفة الزهو بعدم الخطأ على غيره والزهو في حد ذاته من كبائر الذنوب، وأنه من الخير أن يذنب أحد مرة ثم يتوب ويندم على هذا الخطأ أفضل من أن لا يخطئ بدًا، وتنازعه نفسه بعد ارتكاب الذنب مرة أخرى، وان التوبة بحكم أنها ابتهال صاحبها إلى الله تعالى ورغبته المخلصة في العفو والرضا أعمق أثرًا في الصلاح.
حديث القبلات 2
هات بوسه والنبي