على نحو ما كان نعت الديموقراطية بأنها «ديموقراطية بورجوازية» يمهد لرفضها والتشنيع عليها من قبل شيوعيين وقوميين في ستينات القرن العشرين وسبعيناته، ينعت ناشطو «معسكر الممانعة» وإيديولوجيوه اليوم الليبرالية بأنها «ليبرالية جديدة» و»متوحشة» لغرض مماثل. لكن بينما اقترح «تقدميو» أزمنة خلت «الديموقراطية الشعبية» بديلا متألقا عن تلك الديموقراطية البورجوازية التي لا تعدو كونها قناعا لديكتاتورية البورجوازية، لا يفرز ممانعو اليوم ليبرالية يرضون عنها، ولا يبذلون جهدا للتمييز بين «ليبرالية جديدة» مرفوضة (الأصح: ليبرالية محدثة neoliberalism) وليبرالية ليست جديدة قد تكون مقبولة. ويبدو أن إلصاق صفة «جديدة» بالليبرالية، وإلحاقها في الغالب بصفة «متوحشة»، سندٌ لرفضها في أية صيغة كانت، أكثر مما هو حرص على التمييز بين ليبرالية وليبرالية.
تصاعد هجاء «الليبرالية الجديدة» في سورية في بضع الشهور الأخيرة، بالخصوص عقب اجتماع واسع لائتلاف «إعلان دمشق» مطلع الشهر الأخير من العام الماضي، تمخض عن إخفاق مرشحين قوميين وشيوعيين في انتخاب الأمانة العامة للإعلان. وتقرر قراءة متداولة أن الاجتماع ذاك تمخض عن فوز «الليبراليين الجدد» و»إقصاء»، بل «طرد»، القوميين والشيوعيين من قيادة الإعلان، فكان أن عمد هؤلاء إلى «تجميد» عضويتهم في الائتلاف. ويترك لنا أن نفهم أن «الليبراليين الجدد» و«المتوحشين» في سورية هم معارضون من أمثال رياض سيف، وربما رياض الترك!
والحال، كيف يمكن ألا تكون المعارضة في سورية ليبرالية؟ ففي ظل نظام تسلطي، ذي ملامح شمولية قوية، لا بد أن يبرز الوجه الليبرالي للاحتجاج الديموقراطي (بينما يخفت الوجه «الاشتراكي»). وفي شروط كهذه تخسر المعارضة قضيتها وهويتها معا إن لم تطور انحيازا واضحا لقضايا الحريات العامة وميلا إلى الحد من سلطة الدولة (وليس بالضرورة من وظائفها) وحساسية فكرية وسلوكية متحررة، ورفضا لمنطق الوصاية السياسي والإيديولوجي والاجتماعي. أما اعتناق مذهبيات جمعوية، قومية أو شيوعية أو دينية، فيضعها في موقع أقرب إلى ما يفترض أنها تعارضه، ويحكم على سياستها بالتهافت.
وهذا ما أخذ يدركه معارضون منذ أكثر من ثلاثة عقود بالتزامن مع تفاقم التسلطية وعدائها الشرس لكل أشكال الاستقلال الاجتماعي النصف الثاني من سبعينات القرن العشرين. فعملوا على إعادة الاعتبار للديموقراطية ضد «الديموقراطية الشعبية»، وأخذت تبرز روح ليبرالية في تفكيرهم السياسي وفي مطالبهم: حريات عامة، دولة القانون، فصل السلطات، دستور جديد… وقبل ذلك، ومنذ بدايات السبعينات، أخذ ياسين الحافظ يهتم بكيفية استيعاب الليبرالية دون المرور بمرحلة ليبرالية، وهو الشاغل الذي كان صاغه وقتها عبد الله العروي.
بيد أن المعارضين السوريين لم يمضوا في أي وقت، ولا حتى في أيامنا هذه، إلى حد وعي ذاتهم كليبراليين أو إظهار الليبرالية كأساس فكري شرعي لاحتجاجهم الديموقراطي. لقد ظلت المعارضة الديموقراطية تنشط ليبراليا دون أن تحوز مفهوما لوصف نشاطها هذا، أي دون أن تطور وعيا متسقا و»مطابقا». وهذا حد من تطور تفكيرها في وقت كانت تهجر فيه عمليا المواقع الشيوعية والقومية الموروثة. ولعل لهذا الشرط ضلعا في فتح الباب أمام النكوص الممانع. فالديموقراطية التي لم تتجاسر على الانفتاح على سفحها الليبرالي لم تلبث أن اندارت نحو سفحها «الاشتراكي»، الجمعوي.
على أن أهم نتائج الافتقار إلى وعي ليبرالي مطابق في أوساط ناشطين ومثقفين سوريين معارضين ومستقلين أن اقتصرت ليبراليتهم على البعد السياسي الذرائعي. فهي قلما تطل على قضايا الدين والتسامح الديني والحريات الدينية من جهة، وقلما يبدي «الليبراليون» السوريون اهتماما بالأبعاد الاجتماعية والأخلاقية لليبرالية. كذلك لا نكاد نصادف لهم أفكارا متماسكة في الشأن الاقتصادي وقضايا التنمية والعدالة الاجتماعية واقتصاد السوق، وأقل منها بعد في شان العلاقات الدولية. من الشرعي لذلك كله أن نتحدث عن «ليبرالية موضوعية»، تفتقر إلى حد كبير إلى الوعي الذاتي.
أصحّ لذلك أن ينتقد «الليبراليون» السوريون المزعومون على قلة ليبراليتهم لا على إمعانهم أو إفراطهم فيها. وقلة الليبرالية هذه هي كل ما هو «جديد» فيها. أما «التوحش» فهو وفير، والحق يقال، وإن كان أوفر في السجل الممانع من أي سجل آخر (وكان بعض «الممانعين الجدد» ضحايا سابقين له). والعجب العجاب أن «الليبراليين الجدد» «المتوحشين» هم ضحاياه اليوم أكثر من غيرهم!
لكننا نغش! فليس هذا هو التوحش الذي تعترض عليه «النزعة الإنسانية الممانعة».
كيف يحصل، إذاً، أن تكتشف «ليبرالية جديدة» حيث ليس ثمة إلا ليبرالية قليلة؟ وإذا كان مدرك «ليبرالية جديدة» لا يقول شيئا ذا بال عن معارضين ما انفكوا يعتبرون التسلطية المحلية هي المشكلة، فما السر في انتشاره وعلو نبرة قائليه؟ الأمر ببساطة أن هذا المدرك يقوم بوظيفة مهمة: تلبية حاجة تعريف الذات للناطقين به، أي تمييز هويتهم وتعبئة معسكرهم. «الليبرالي الجديد» المزعوم مختلف فعلا، بما يتيح لآخر القادمين إلى الصف الممانع أن يرمموا هويتهم المثلومة بالتمايز عنه. ثم أن «الليبرالي الجديد» هذا، رغم «توحشه» المفترض، ضعيف ومقموع، بما يتيح للممانع أن يجدد هويته ضده، دونما خوف من العواقب.
وإنما لذلك يقع أقرب شيء إلى الليبرالية المحدثة في سورية على النقطة العمياء في العين الممانعة. فالبورجوازية الجديدة التي حققت «تراكمها الأولي» في ظل حالة الاستثناء المتمادية منذ جيل ونصف، والمنتفعة اليوم من «تحرير الاقتصاد» مع دوام تقييد مجتمع العمل وحرمانه من تنظيم نفسه والدفاع عن نفسه، أقوى من أن تتيح لممانعين بناء آمنا لهويتهم بالتمايز عنها. وبالنظر إلى الإيديولوجية الممانعة للبورجوازية الجديدة هذه، فإنها أقل اختلافا من أن تتيح للقادمين الجدد هوية متميزة فعلا. إنها خطرة على هويتهم بالضبط بسبب ما تحمله من قرابة إيديولوجية لهم، وبالضبط لقلة خطرها على وجودهم.
وربما تعمى الممانعة عن «الليبرالية الجديدة» الرسمية لسبب آخر: إن «تحرير الاقتصاد» الجاري في سورية لا يحوز صفته الليبرالية المحدثة من تراجع الإنفاق الاجتماعي (تتحدث أرقام رسمية، بالأحرى، عن ارتفاعه)، ولا من «الخصخصة» (إذ لم تجر، ونرجح ألا تجري خصخصة مشاريع عامة في البلاد)، ولا من حاكمية مطلقة للسوق… وهي عناصر أساسية في «وفاق واشنطن» الذي يمثل دليل عمل الليبرالية المحدثة، بل من إلغاء مفهوم الصالح العام وغياب أو ضعف الضوابط الحكومية على المشاريع الجديدة، وبالأخص من تقييد قدرة المجتمع على التنظيم والاحتجاج مقابل ضعف الدولة أمام البورجوازية الجديدة التي نشأت وتغولت في كنفها. النتيجة بالطبع واحدة سواء جرى تفكيك شبكات الحماية الاجتماعية، أو تم تقيد مجتمع العمل (من يعيشون من عملهم في الطبقة الوسطى غير المالكة والعمال…) مع ترك الشبكات القائمة لتهترئ.
و»الجديد» في ليبراليتنا هذه هو أنها تجمع بين مساوئ الاقتصاد الحكومي من احتكار وتدن لسوية السلع والخدمات المقدمة للجمهور العام وبين انتفاع خواص محدودي العدد من «اقتصاد السوق» هذا. «الجديد» أيضا أن الاقتصاد «الليبرالي» هذا غير تنافسي، وأن اقتصادا تنافسيا، أي ليبراليا حقيقة، وما يقتضيه من حرية تداول المعلومات واستقلال السلطة القضائية، هو ما يمكن أن تكون له آثار تحريرية سياسيا وإيجابية تنمويا.
هذا ما يفضل ألا يراه نقاد «الليبرالية الجديدة» الممانعون. يرفضون إصلاحا اقتصاديا لا يسعه إلا أن يكون ليبراليا اليوم بدل أن يقاوموا تقييد مجتمع العمل والتسلطية المتفاقمة في النظام السياسي.
الحياة