هناك من المثقفين من يعتقد أن مصير القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني والقدس وغيرها من القضايا “المصيرية” العربية والإسلامية، هو أهم من حقوق وحريات ومصالح الفرد العربي والمسلم الذي يعيش وسط شعوب تعاني معظمها من الظلم السياسي والاقتصادي ومن انتهاك حقوقها وحرياتها، بسبب سيطرة أنظمة إيديولوجية وحكومات مستبدة عليها.
وهؤلاء المثقفين يعكسون في موقفهم هذا انتماءهم للفكر الديني أو العروبي المؤدلج، الذي يضع الإنسان في مرتبة متأخرة جدا من الاهتمام. ويبرز موقفهم هذا استنادا إلى تفسير يعتقد أن “قضايا الأمة” هي الأساس والأصل الذي يجب الاهتمام به قبل أي شيء آخر، فيما مصير الإنسان الفرد وحقوقه ومصالحه هي بمثابة قضايا ثانوية مقابل القضايا الرئيسية. هذا الفكر أنتج أنظمة شمولية ومؤسسات تابعة لها. كما أنتج ما يسمى بمثقفي الأدلجة، الذين يدافعون بشراسة عن مواقف الأنظمة والحركات الشمولية تجاه “قضايا الأمة”، كدفاعهم عن مواقف النظام الإسلامي في إيران تجاه القضية الفلسطينية وتجاه معاداة دولة إسرائيل وتجاه نصرة حزب الله وحماس وحركة الجهاد الإسلامي ضد إسرائيل، في حين يتجاهلون عن عمد ودون أي إحساس بتأنيب الضمير سلوك النظام في طهران تجاه الإنسان الإيراني، الذي يعاني قهر واستبداد السلطة الدينية. فلم نسمع – ولن نسمع – احتجاج هؤلاء على تدني مستوى الحريات السياسية والمدنية والحقوقية والتي أدت إلى الزج بمئات الطلبة والسياسيين الإيرانيين في السجن، ولم نسمع احتجاجهم على مصادرة الحريات الصحفية والفكرية التي تم بموجبها توقيف عشرات الصحف والمجلات عن العمل وفق سياسة تتماشى مع ضيق الأفق الفكري للمحافظين وتتماشى أيضا مع التفسير الديني الحاض على الاستبداد والمناهض للحريات، كما لم نسمع عن تعاطفهم مع الإنسان الإيراني الذي يعاني اقتصاديا ومعيشيا جراء سياسات الرئيس محمود أحمدي نجاد الاقتصادية هو وأنصاره المحافظين في البرلمان. كل تلك المشكلات التي تهدد مصالح الإنسان الإيراني وتضيّق على حياته الشخصية اليومية وتمس حقوقه وإنسانيته، يجب، بالنسبة لمثقفي الأدلجة، التضحية بها من أجل استمرار السلطة في إيران بسياساتها المناهضة لحقوق الإنسان مادامت تتبنى “قضايا الأمة” وتدافع عنها.
وتعتبر مواقف المثقفين المؤدلجين المناصرين للنظام الديني في إيران شبيهة بمواقف أنصار المخلوع صدام حسين ونظامه البعثي العروبي الفاشي الذين ضحوا بإنسانية الإنسان العربي والمسلم وبحقوقه مقابل نصرة “قضايا الأمة” وعلى رأسها القضية الفلسطينية. وهي قضايا لم تكن سوى وسيلة من أجل استمرار سيطرة تلك الأنظمة الشمولية على سلطات الحكم. فالتضحية بمصير الشعوب المقهورة هي “عنوان عريض” يكتب على صدر الأنظمة المؤدلجة ويدافع عنه المثقفون المؤدلجون مادام ذلك يحقق لتلك الأنظمة الاستمرار في السلطة والسيطرة على كرسي الحكم.
ويعتبر الوصول إلى السلطة عند المؤدلجين الدينيين أو أنصار الإسلام السياسي فرضا دينيا مقدسا، من أجل تطبيق شرع الله في الداخل وتبني “قضايا الأمة” على الصعيد الخارجي. في حين أنه لا يتم إلا لاحقا تحقيق الحد الأدني من احترام حقوق الإنسان والإصغاء إلى مصالح المواطن، وذلك بسبب أن الإسلام السياسي الذي يتبنونه لا يحمل – أولا – مشروعا يهتم بحقوق الإنسان ويدافع عنه. و – ثانيا – إن اهتم به، جراء ضغوط المنظمات الدولية، فإنه لا يمكن أن يعتبر المشروع الرئيسي في إدارة الحكم، لأنه ليس مشروعا دينيا بل مشروع دنيوي غربي لا علاقة له بالدين. ثم – ثالثا – من الخطورة بمكان بالنسبة للنظام السياسي الديني الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان، لأن ذلك سيفتح الباب على مصراعيه أمام المواطن للمطالبة بتحقيق مختلف أشكال الحقوق والحريات السياسية والمدنية مما سيهدد بقاء النظام الديني على رأس السلطة، ومن ثَم ستعرقل تلك النتيجة تنفيذ المشروع الإلهي الديني مما يؤدي إلى عرقلة تنفيذ شرع الله.
إن الهدف الرئيسي للنظام الديني المؤدلج متشابه إلى حد كبير عند الأنظمة العروبية المؤدلجة، لكن الأخيرة تختلف عن الدينية في منطلقاتها، التي تُعتبر غير دينية ومصلحية إذ سعيها ينصب على تفعيل الرؤى العروبية الشمولية ولو أدى ذلك إلى نتيجة متشابهة بين الطرفين وهي سحق الإنسان. لذلك نجد أن موقفي النظام الإسلامي في إيران والبعثي الفاشي في العراق، متشابهان في المبدأ وفي بعض النتائج لكنهما مختلفان في تفاصيل القضايا المتبناة من قبل كل طرف. فالإثنان، بمثقفيهما، يتبنيان “قضايا الأمة” ويتجاهلان مصير الإنسان ومصالحه وحقوقه. ومخطئ من يظن ان اهتمام هذه الأنطمة بالقضية الفلسطينية يعكس اهتماما بالإنسان الفلسطيني، إذ لوكان ذلك صحيحا لكان أولى بها الاهتمام بالإنسان في إيران أو في العراق.
إن المثال الإيراني والعراقي لا يعني أن بقية مجتمعات دول منطقة الشرق الأوسط تعيش في إطار سياسي غير مؤدلج وغير مستبد، أو إنها لا تعاني من استغلال المؤدلجين لأنظمة الحكم لتحقيق مآرب سلطوية، فكثير من تلك الأنظمة تعبّر عن سلوك استبدادي، ساهم من جهة في انتهاك حقوق الإنسان، وأدى من جهة أخرى إلى إبراز الاهتمام بـ”قضايا الأمة”، حيث أصبحت تلك القضايا الشماعة التي علق عليها المؤدلجون والمستبدون تمسكهم بكرسي الحكم.
إن الفكر المؤدلج، الديني والعروبي، يعكس أزمة أخلاقية. بمعنى أن ثقافة الأنظمة السياسية المؤدلجة ومواقف أنصارها لا تعير أي اهتمام بحقوق الإنسان ومصالحه، التي أصبحت العنوان الرئيسي لموضوع الأخلاق في العصر الحديث، بل تهتم بمصيرها وبقائها في السلطة ولو أدى ذلك إلى سحق الإنسان ومحاصرته بالحديد والنار والسيطرة عليه بمختلف صنوف الاستبداد والظلم. لكن، لماذا لم يهتم المؤدلجون بحقوق الإنسان؟ فإن ذلك يعود إلى أسباب عديدة، لعل أهمها هو عدم وجود ثقافة في منومتها الأخلاقية تعير اهتماما بحقوق الإنسان الفرد، بل همها هو “الأمة وقضاياها” مع سحق الحريات العامة.
ssultann@hotmail.com
كاتب كويتي