الحلقة الرابعة
شرط الإذن والتكافؤ
ومن شروط وجوب الجهاد إذن الوالدين، وإذن الدائن بذلك:
وهذا من باب تقديم الأهم عند تزاحم الواجبات فلا يجوز أن يخرج المسلم للجهاد إلا بإذن والديه، كما لا يجوز أن يخرج المسلم المدين للجهاد إلا بإذن الدائن، إلا أن يترك وفاءً أو كفيلاً بدينه، والشهادة في سبيل الله وإن كانت تكفر جميع الذنوب إلا أنها لا تكفر الدين، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (يغفر الله للشهيد كل شيء إلا الدين) رواه مسلم، (إلا شهيد البحر) والله أعلم بالشهيد في سبيله، وأراد رجل أن يخرج في الجهاد فسأله النبي صلى الله عليه وسلم (أحي والداك؟) قال الرجل: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (ففيهما فجاهد) متفق عليه، أي في خدمتهما وبرهما، وفي الديون قال النبي صلى الله عليه وسلم (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه) رواه الترمذي وقال حديث حسن، ومات رجل وعليه دين فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأخيه (إن أخاك محبوس بدينه فاقض عنه) حديث صحيح رواه أحمد وابن ماجة.
ومما يؤسف له أن نرى في هذا الزمان بعض المسلمين يخرج للجهاد ويسافر من بلده إلى غيره للمشاركة في الجهاد أو القيام بعملية استشهادية بدون إذن والديه وبدون علمهما، وأحيانًا بدون إذن دائنيه، وأحيانًا بدون أن يترك نفقة لمن يعولهم وكل هذه ذنوب يجب أن يتنزه المسلم عنها، وقد يموت أو يقتل في جهاده هذا فيموت بذنوب لا يدري أيغفرها الله له أم لا؟ فقد علق الله مغفرته على مشيئته (…ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء…) (النساء:48)، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله (إنما الأعمال بالخواتيم) ونحن لا نرضى بهذه المخالفات الشرعية وننهى عنها جميع المسلمين.
والفقهاء رحمهم الله وإن كانوا قد اتفقوا على أن إذن الوالدين إنما يشترط في الجهاد الكفائي، إلا أن بعض الفقهاء قد قال إن كان خروج المسلم لفرض العين من الجهاد فيه تضييع للوالدين أو أحدهما، لا يخرج لأن غيره يمكن أن يسد محله في الجهاد، وفي خروجه ضياع لوالديه أو هلاكهما، وقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان بن عفان في التخلف عن بدر ليمرض زوجته رضى الله عنهما، والوالد أولى.
وقد ذكر الشافعي رحمه الله في كتابه (الأم): (لا يجوز أن يخرج الرجل للجهاد وهو يخاف على أهله من العدو إذا خرج وتركهم) أ.هـ، وقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم النساء في حصن بالمدينة في غزوة الأحزاب خوفًا عليهم من العدو المحاصر للمدينة، فكيف بمن يجاهد ولا يقوم بتأمين أهله وذريته، بل يتركهم عرضة لإيذاء الأعداء؟ ولا يعترض على هذا القول بحديث (إن الشيطان قد قعد لابن آدم بأطرقه) وهو حديث صحيح رواه أحمد والنسائي، وفيه أنه إذا أراد المسلم الجهاد وسوس له الشيطان ليثبطه بقوله (تقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال) الحديث، فإن هذا استدلال بدليل في غير موضعه، والفرق ظاهر. وذات مرة انتدب عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس للخروج إلى الجهاد فرأى منهم تأخرًا، فقال لهم (اخرجوا وأنا أبو العيال) فخرجوا.
فيا أيها المسلم لا تسمح لأحد من الجُهال ومدمني الشعارات أن يستفزك للدخول في صدام أنت غير مؤهل له وغير قادر عليه باسم الجهاد ويتلو عليك نصوص الوعيد لمن ترك الجهاد، فإن هذا شيء لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة رضي الله عنهم عند عدم القدرة.
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان قبل الهجرة وفي وقت الاستضعاف يطلب النصرة ويقول (من ينصرني حتى أبلغ عن ربي)، وذلك عملاً بما أرشده الله إليه في قوله تعالى (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا) (الإسراء:80)، هذا مع كونه صلى الله عليه وسلم مؤيدًا بالوحي عليه السلام. وكذلك الصحابة رضي الله عنهم من عجز منهم عن التجهز للجهاد ما زاد النبي صلى الله عليه وسلم على أن قال لهم -كما قال تعالى- (وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ) (التوبة:92).
واعلم أن الله سبحانه قد رتب نظام هذه الدنيا على الأخذ بالأسباب لا على خوارق العادات والتي قد تقع ولكنها ليست هي الأصل، والأخذ بالأسباب ينفع ما لم يعارضها القدر.
حفظ المسلمين من مقاصد الشريعة
المقصود من الجهاد إظهار الدين والتمكين لأهله كما قال تعالى (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (الأنفال:39)، ومن أجل هذا يبذل المسلمون أنفسهم، وكان حفظ الدين مقدمًا على حفظ النفس في الضرورات الشرعية الخمس، وإنما تبذل النفوس في الجهاد حين يغلب على الظن النصر وإظهار الدين، أما إذا غلب على الظن هلاك النفوس والإضرار بالمسلمين في ما لا يعود بإظهار الدين من مواجهات مع أعدائه فيجب والحال كذلك المحافظة على المسلمين ولا يجوز تعريضهم هم أو ذراريهم لمهالك يمكن اجتنابها، والأدلة على ذلك كثيرة منها:
1- جواز كتمان الإيمان مثل (مؤمن آل فرعون) وجواز اعتزال الكفار كـ(أصحاب الكهف) في حالة الاستضعاف الشديد، وهذان الخياران ليس فيهما شيء من إظهار الدين للعجز عن ذلك، فكان الأولى المحافظة على نفوس المؤمنين، فأجاز الله كتمان الإيمان والتخفي به والعزلة قال الله تعالى (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ…) (غافر:28)، فشهد الله له بأنه مؤمن بالرغم من كتمانه إيمانه.
وقال تعالى (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ …) (الكهف:16)، وبالرغم من أن هؤلاء اختاروا العزلة إذ لم يمكنهم مواجهة قومهم المخالفين لهم فقد أثنى الله عليهم ووصفهم بأنهم (… فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى) (الكهف:13). فالخيار المناسب هو بحسب الاستطاعة ولا إثم في ذلك.
2- إن الله سبحانه لم يوجب الجهاد ولا الولاء والبراء ولا تغيير المنكر باليد على المسلمين حال ضعفهم بمكة قبل الهجرة، لأن هذه الواجبات الثلاثة وإن كان فيها إظهار للدين فإنها كانت مضرة بهم ويمكن أن تزيد من إيذاء الكفار لهم، وكان المسلمون مستضعفين بمكة وفي حاجة إلى معونة أهاليهم المشركين في المعيشة والدفع عنهم، وحتى تحريم النكاح بين المسلمين والمشركين لم يشرع إلا بعد الهجرة وبعد صلح الحديبية كما في سورة الممتحنة في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ …) (الممتحنة:10)، فحرم الزواج من المشركين.
فلا يجوز القيام بهذه الواجبات الشرعية إذا عادت على المسلمين بالضرر، خاصة إذا كان لا يرجى منها إظهار الدين، وما غلب ضرره على نفعه فالصحيح منعه، والقاعدة (أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح). أما تحريم نكاح المشركين فثابت على كل حال إلا نكاح المسلم للكتابية.
3- إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب الجهاد -بعد تشريعه- على من عجز عن الهجرة من المستضعفين بمكة إبقاءً على نفوسهم، ولم يوجبه كذلك على المهاجرين بالحبشة ولم يعودوا منها إلا عام فتح خبير (عام 7هـ) ولم يكن في جهاد هذين الفريقين مصلحة بل كان يضرهم فسقط عنهم، بل قد حض الله المسلمين على الجهاد لإنقاذ إخوانهم المستضعفين بمكة فقال تعالى (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا) (النساء:75)، فالمستضعف يحتاج إلى من يجاهد لإنقاذه ونصرته لا أن يؤمر هو بالجهاد، وقد عذر الله هؤلاء في قوله تعالى (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) (النساء:98، 99).
4- عدم جواز الدفع بالمسلمين إلى مواجهة غير متكافئة مع أعدائهم إبقاء على المسلمين:
• ومن أجل هذا ورد التخفيف من وجوب ثبات المسلم لعشرة من الكفار إلى وجوب ثباته لاثنين كما في قوله تعالى «الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا…» (الأنفال:66)، وإذا كان مقصود الجهاد مجرد الصدام مع الأعداء لما شرع هذا التخفيف، ولهذا قال ابن عباس رضى الله عنهما «من فر من اثنين فقد فر، ومن فر من ثلاثة فما فر» وعمم بعض العلماء العلة في التخفيف (وهي الضعف) من العدد إلى العدة فقالوا بجواز فرار المسلم من الكافر إذا كان سلاح المسلم أضعف.
• وأجاز الله للمسلمين الفرار (الانحياز) من مواجهة أعدائهم لأجل التحرف للقتال (تغـيير الخطط) أو التحيز إلى فئة (الاستعانة بغيرهم من المسلمين) في قوله تعالى (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (الأنفال:16)، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه من شفقته على المسلمين يقول (أنا فئة لكل مسلم) وكانت جيوشه تقاتل في بلاد فارس والروم وهو بالمدينة، لينحاز إليه من شاء.
وحتى لا يتأثم مسلم من الفرار من مواجهة غير متكافئة مع العدو، وكان عمر رضي الله عنه من حرصه على المسلمين ينهى قادة جيوشه عن التسرع إلى القتال ويقول لهم (مسلم واحد أحب إلي من فتح مدينة من مدائن المشركين)، وقال عمر رضي الله عنه (وما يمنعني أن أؤمر سليطًا بن قيس إلا سرعته إلى القتال، فإن الحرب لا يصلحها إلا الرجل المكيث)، و(المكيث) هو المتأني، وكان (سليط) من أهل الخبرة بالحروب إلا أنه كانت فيه عجلة. نقلاً عن (العقد الفريد) لابن عبد ربه الأندلسي.
• ومن تجنب المواجهة غير المتكافئة مع العدو انحياز خالد بن الوليد رضي الله عنه بالجيش في غزوة (مؤت) وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم صنيعه هذا فتحًا، وقال ابن حجر إن شراح الحديث استشكلوا كيف يكون الانسحاب فتحًا؟ وأن أفضل ما وقف عليه في ذلك هو ما ذكره ابن كثير في شرحه للبخاري رحمهم الله (إن الفتح كان إنقاذ جيش المسلمين من المهلكة أمام الروم) هذا حاصل كلامه من شرح كتاب المغازي بالبخاري، فكما أن النصر على العدو يسمى فتحًا، فكذلك عدم تعريض المسلمين للهلاك يسمى فتحًا أيضًا. فليس الصدام مع العدو هدفًا في ذاته بدون النظر في عواقبه، والانحياز هو الانسحاب في المصطلح المعاصر.
وفي غزوة مؤتة (عام 8هـ) بين المسلمين والروم كان عدد جيش المسلمين ثلاثة آلاف والروم مئتي ألف، ونصب النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمراء على التوالي على المسلمين وهم زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم عبد الله بن رواحة، فقتل الثلاثة جميعا، فاختار المسلمون خالدًا أميرًا عليهم فقرر الانحياز (الانسحاب) واحتال في ذلك لينسحب بأقل الخسائر الممكنة. قال أنس بن مالك رضي الله عنه (نعى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراء مؤتة وعيناه تذرفان فقال (أخذ الراية زيد فقتل، ثم أخذها جعفر فقتل، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقتل، ثم أخذها سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليه) الحديث متفق عليه، فسمى خالدًا سيف الله، وسمى صنيعه فتحًا.
جهاد بلا جدوى
فالمحافظة على المسلمين وعدم الدفع بهم إلى خوض ما لا يعود على الدين بنفع أو ظهور من المواجهات المهلكة واجب، وهو الصواب، وهذا حكم باق إلى آخر الزمان بدليل نهي الله للمسيح عليه السلام ومن معه عن قتال يأجوج ومأجوج، وإذا تأملت في هذا المعنى ونظرت في ما تخوضه الجماعات الجهادية في بعض البلدان من مواجهات لا جدوى منها بل المفسدة فيها غالبة محققة، أدركت خطأ ما هم عليه.
وفي حديث غزوة (مؤتة) دليل على أن اختيار المسلم للخيار الشرعي والقرار المناسب لواقعه وظروفه يسمى فتحًا، وإن كان هذا الخيار هو الانحياز وترك مواجهة العدو كما فعل خالد رضي الله عنه، وإن كان هذا الخيار هو الصلح مع العدو فقد سمى الله صلح الحديبية فتحًا في قوله تعالى (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) (الفتح:1)، وقوله تعالى (… لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ …) (الحديد:10)، وقال ابن مسعود رضي الله عنه (إنكم تعدون الفتح فتح مكة وإنما الفتح هو الحديبية).
وإذا كان الله سبحانه قد شرع الجهاد وأوجبه على المسلمين بعد الهجرة وتوفر شروط نجاح الجهاد، فإن الله سبحانه قد أباح للمسلمين أيضًا عقد الصلح والمعاهدات عند الحاجة إليها. وقام النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كله فحارب وعاهد وصالح وسكت عن قوم بلا صلح ولا عهد كل هذا لتحقيق مصلحة الإسلام والمسلمين. وقد قال تعالى (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الأنفال:61)، فشرع الله ذلك للحاجة، أما النهي عن مسالمة الأعداء كالوارد في قوله تعالى (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ …) (محمد:35)، فهذا النهي مقيد بصفة (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ).
أي في حال علو المسلمين وتمكنهم وقدرتهم على الحرب وغلبة الظن بالظفر لا يجوز مسالمة الأعداء لئلاً يفضي هذا إلى ترك الجهاد واستفحال خطر العدو، وهذا كله -وكما سبق- مع العلو والتمكين لا مع العجز والاستضعاف.
وقد صالح النبي صلى الله عليه وسلم كفار مكة في الحديبية وتنازل للكفار في أمور لم يتحملها بعض الصحابة حتى قال عمر رضي الله عنه (ألسنا على الحق؟… أليسوا على الباطل؟… فلم نعطي الدنية في ديننا)؟ الحديث متفق عليه، وتنازل النبي صلى الله عليه وسلم بالرغم من أنه كانت له دولة مستقلة ومنعة ومعه جيش وبيعة على الموت (بيعة الرضوان) ومع كونه مؤيدًا بالوحي والملائكة عليهم السلام، ومع قوله صلى الله عليه وسلم -قبل ذلك عقب غزوة الأحزاب عام 4هـ- (لا تغزوكم قريش بعد اليوم ولكن تغزوهم).
فكان النبي صلى الله عليه وسلم موفقًا في الحرب والسلم يضع كل منهما في موضعه تشريعًا منه للمسلمين. وهذا الصلح الذي ضاق به بعض الصحابة رضي الله عنهم سماه الله فتحًا – كما سبق- لما ترتب عليه من شيوع الأمن وانتشار دعوة الإسلام. وعلى العكس من ذلك هناك من تراهم فاشلين في الحرب وفي السلم على السواء.
جهاد المرتدين
وحتى مع المرتدين يتصرف المسلمون معهم بحسب قدرتهم ومصلحتهم، فقد خرج مسيلمة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وقدم على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ثم أرسل رسوله (ابن النواحة) إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسكت عنهم، ولم يقاتلهم المسلمون إلا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه. وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وإن كان قد قال (إن كفر الردة أغلظ بالإجماع من الكفر الأصلي) في (مجموع الفتاوى ج28)، وقال أيضًا (إن المرتد لا يهادن ولا يقر على الردة بالجزية كالكافر الأصلي)، إلا أن هذا كله عند قدرة المسلمين وعلوهم وتمكنهم من جهاد المرتدين.
أما مع ضعف حال المسلمين فقد قال محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله وذلك من قبل ابن تيمية بخمسمئة سنة في كتابه (السير الكبير): (يجوز أن يدفع المسلمون للمرتدين مالاً ليكفوا أذاهم عنهم في حال ضعف المسلمين)، وهذه هي الجزية المنعكسة.وقد عاش ابن تيمية في القرن السابع الهجري وتوفي عام 728هـ، والشيباني في القرن الثاني الهجري وتوفي عام 189هـ رحمهما الله.
فالمحافظة على ذات المسلمين وعدم تعريضهم للمهالك من غير طائل مقصد شرعي معتبر ينبغي مراعاته في كل من الحرب أو السلم على السواء وقد تعاضدت على ذلك الأدلة الصحيحة.
الحلقة الخامسة
حكم الخروج على الحاكم
النهي عن الخروج على الحكام في بلاد المسلمين:
تطلق كلمة الحاكم في نصوص الكتاب والسنة على القاضي، كما في قوله تعالى… (وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ…) (البقرة:188)، وكما في الصحيح (إذا حكم الحاكم فاجتهد…)، وكما في كتاب (الطرق الحكمية) لابن القيم، وكتاب (تبصرة الحكام) ابن فرحون. ولكن شاع استخدام هذه الكلمة (الحاكم) في هذا الزمان كمرادف لكلمة (السلطان) وهو الرئيس أو الملك أو الأمير ونحوه.
وقد وقعت في صدر الإسلام حوادث خروج على السلطان بسبب المظالم، وقد نجم عن الخروج مفاسد كثيرة، والذين خرجوا كأهل المدينة في الحرة (61هـ) والحسين بن علي رضي الله عنهما (64هـ) وابن الأشعث (81هـ) وغيرهم أخذوا بعموم أحاديث تغيير المنكر باليد كحديث أبي سعيد مرفوعًا (من رأى منكم منكرًا فليغيره…) وحديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا (فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن…)، وهذا خطأ لأنه إذا جاز تغيير المنكر باليد عند القدرة بين الرعية فإنه لا يجوز مع السلطان للنهي الخاص الوارد في ذلك وهو مقدم على الأمر العام الوارد في الأحاديث السابقة.
ومن النهي الخاص الوارد في المنع من الخروج على السلطان قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر، فإنه من خرج من السلطان شبرًا مات ميتة جاهلية) متفق عليه عن ابن عباس رضي الله عنهما. ولم يرخص النبي صلى الله عليه وسلم في الخروج إلا إذا كفر السلطان لحديث عبادة بن الصامت مرفوعًا، وفيه (وأن لا ننازع الأمر أهله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان) متفق عليه.
وقد جمع البخاري هذا كله في الباب الثاني من كتاب الفتن في صحيحه. وفي كلامه عما حدث في صدر الإسلام من حوادث الخروج على أئمة الجور قال ابن تيمية في كتابه (منهاج السنة النبوية): (إن الخروج على أئمة الجور كان مذهبًا قديمًا لأهل السنة ثم استقر الإجماع على المنع منه) أ.هـ، رحمهم الله ورضي عنهم أجمعين.
كفر السلطان والخروج عليه
فإذا كفر السلطان (إلا أن تروا كفرا بواحا) فقد نقل ابن حجر في هذه المسألة (في شرحه لكتابي الفتن والأحكام بالبخاري) عن شراحه السابقين رحمهم الله قولهم: (إنما تجب مجاهدته على من قدر، ومن تحقق العجز لم يجب عليه القيام في ذلك) أ.هـ، فهناك فرق بين العلم بكفر السلطان وبين وجوب الخروج عليه، فلا يجب عند العجز أو إذا غلبت المفسدة في الخروج. خصوصا إذا كانت المفاسد جسيمة أعظم وخارجة عن المألوف في الجهاد.
وقد تكررت حوادث الخروج على الحكام في بلاد المسلمين خلال العقود الماضية باسم الجهاد في سبيل الله من أجل تحكيم شريعة الإسلام في تلك البلاد، وقد أدت هذه الحوادث إلى مفاسد عظيمة على مستوى الجماعات الإسلامية وعلى مستوى البلاد التي وقعت بها هذه الأحداث والقاعدة الفقهية أن (الضرر لا يُزال بمثله) ومن باب أولى (لا يُزال بأشد منه).
والجهاد ليس هو الخيار الشرعي الوحيد لمواجهة الواقع غير الشرعي وإنما هناك خيارات أخرى كالدعوة والهجرة والعزلة والعفو والصفح والإعراض والصبر على الأذى وكتمان الإيمان، والفقيه هو من يختار الخيار المناسب من هذه لواقع معين، وقد عمل بها كلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكثير من أصحابه رضي الله عنهم بحسب الاستطاعة وظروف الواقع وبما ينفع الدين وأهله ولا يعود عليهما بالضرر أو المفسدة، وقد سبق بيان ذلك، وقد قيل: ليس الفقيه من يميز بين الخير والشر فهذا يدركه كثير من الناس، وإنما الفقيه من يختار أهون الشرين وأخف الضررين.
وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله قاعدة في الموازنة بين المصلحة والمفسدة فقال (فتبين أن السيئة تحتمل في موضعين: دفع ما هو أسوأ منها إذا لم تدفع إلا بها، وتحصيل ما هو أنفع من تركها إذا لم تحصل إلا بها. والحسنة تترك في موضعين: إذا كانت مفوتة لما هو أحسن منها، أو مستلزمه لسيئة تزيد مضرتها على منفعة الحسنة، هذا فيما يتعلق بالموازنات الدينية) أ.هـ.
وفي خرق الخضر عليه السلام للسفينة دليل على احتمال أخف الضررين.
للجهاد مقدمات ومقومات
وسواء كان ترك الحكم بالشريعة كفرًا أو كفرًا دون كفر أو معصية،.. فإننا لا نرى أن الصدام مع السلطات الحاكمة في بلاد المسلمين باسم الجهاد هو الخيار المناسب للسعي لتطبيق الشريعة، فالجهاد لا بد له من مقدمات ومقومات تعتبر من شروط وجوبه فإذا انعدمت سقط الوجوب، ومنها دار الهجرة والنصرة (كالمدينة) أو دار الأمن (كالحبشة بالنسبة للصحابة) أو القاعدة الآمنة (كأبي بصير)، والنفقة اللازمة للجهاد، وتأمين ذراري المسلمين (نسائهم وعيالهم) والتكافؤ في العدد والعدة بين طرفي الصدام، والفئة التي يمكن التحيز إليها، وتميز الصفوف حتى لا تنتهك دماء المعصومين وحرمتهم، كل هذه المقومات مفقودة بما يجعل الجهاد لا يؤدي إلى النتيجة المرجوة من إظهار الدين وتحكيم الشريعة، وهذا هو الواقع فعلاً في معظم البلدان، فلم تفلح في ذلك معظم الجماعات الإسلامية رغم التضحيات الجسيمة التي قدمتها، ولهذا لم يفرض الله سبحانه الجهاد على المسلمين وهم مستضعفون بمكة قبل الهجرة لعدم توفر مقومات نجاحه، وبعض الذين حاولوا الالتفاف على نقص المقومات في عصرنا الحاضر وقعوا في محظورات شرعية، منها:
• قتل معصومين بدعوى التترس في غير موضعه، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله.
• استحلال أموال لا تحل بالسطو والخطف بدعوى تمويل الجهاد، وقد سبق بيان فساد ذلك.
• الغدر ونقض العهد ممن دخل بلاد الكفار بإذنهم فخانهم، وسيأتي بيانه إن شاء الله.
• العجز عن تأمين ذراري المسلمين وقت الصدام بما يعرضهم للتلف والفتن.
• تلقي أموال والاستعانة بأنظمة حكم في دول أخرى ليست بأفضل من بلدانهم لقتال أهل بلدهم بما أوقعهم في فخ العمالة وحروب الوكالة، فيبدأ شأنه مجاهدًا ويصير عميلاً مرتزقًا، ولو شئت أن أقول منهم فلان وفلان لقلت.
• اضطرار البعض إلى عمل لجوء سياسي لدى الدول الأجنبية (بلاد الكفار الأصليين) فيكون بذلك قد دخل تحت حكم الكفار وقوانينهم باختياره، في حين أن القوانين المخالفة للشريعة تجري عليه في بلده بغير اختياره، وقد حذر فقهاء السلف من ذلك وقالوا إن من دخل من المسلمين دار الحرب (دار الكفر) لحاجة لا يجوز له أن يعزم على الإقامة بها لأنه يكون بذلك قد رضي بجريان أحكام الكفار عليه طواعية، وبذلك يرتد عن الإسلام، ذكره ابن قدامه وغيره.
وليس اللجوء السياسي اليوم كالدخول قديمًا في جوار ذي منعة كما دخل النبي صلى الله عليه وسلم في جوار المطعم بن عدي، وكما دخل أبو بكر رضي الله عنه في جوار ابن الدغنه، إذ لم يترتب على الجوار جريان أحكام الكفار عليهم بل مجرد الحماية، ولما أراد ابن الدغنه أن يشترط على أبي بكر رضي الله عنه شروطًا رد عليه جواره، وحديثه بالصحيح.
ومع ذلك فإنني لا أرى أن طالبي اللجوء السياسي بالبلاد الأجنبية اليوم مرتدون، ولا أقول بذلك للفارق بين الحال الآن وما كانت عليه قديمًا من وجود دار الإسلام التي تقبل بهجرة أي مسلم إليها وتؤمنه فهذا متعذر الآن. ولهذا فإن اللجوء السياسي اليوم يشبه الهجرة إلى دار الأمن(كالحبشة في أول الإسلام) أو هو من باب (اختيار أخف الضررين). وقد صرح ابن حزم رحمه الله في (المحلي ج11) أن الإقامة بدار الحرب للمضطر جائزة وليست ردة بشرط ألا يشاركهم في محاربتهم للمسلمين، وذكر في ذلك خبرًا نسبه للزهري (محمد بن شهاب) رحمه الله. هذا حاصل كلامه أ.هـ.
معاندة السنن
وقد كانت هذه أمثلة لبعض المحظورات التي ارتكبوها، وبهذا يفعل المسلم ما لا يحل له شرعًا (كهذه المحظورات) للقيام بما لا يجب عليه شرعًا (من الجهاد العاجز عنه)، وإنما ألجأهم إلى هذا معاندة السنن وتكليفهم أنفسهم بما يعجزون عنه، والتكليف بما لا يطاق لا يجوز شرعًا بإجماع أهل العلم، كما هو موضح في كتب (أصول الفقه).
ولهذا فإننا نرى أن الصدام مع السلطات الحاكمة في بلاد المسلمين لأجل تحكيم الشريعة في مصر وما يشبهها من البلاد لا يجب في ضوء الظروف السابقة سواء كان هذا باسم الجهاد أو باسم تغيير المنكرات باليد، كل هذا لا يجوز ولا يجب، ولا يجوز التعرض لقوات هذه الحكومات (من الجيش والشرطة وقوات الأمن) بالأذى لما في ذلك من المفاسد الكثيرة، وننصح بذلك جميع المسلمين، ونرى أن الاشتغال بالدعوة الإسلامية وتقريب المسلمين من دينهم بما يؤدي إلى تقليل المفاسد الشائعة أجدى نفعًا للإسلام وللمسلمين والذين خالفوا في ذلك ولجأوا إلى الصدام لا هم أقاموا الدين ولا أبقوا على أنفسهم وأهاليهم ولا حافظوا على بلادهم من المفاسد والخراب، وفي القاعدة الفقهية (من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه) أو (التعجل علة الحرمان) ومن عجز عن الدعوة والتغيير باللسان أنكر بقلبه، وقال تعالى (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا…) (البقرة:286)، وسيأتي كلام آخر في هذا الموضوع بالتنبيه الثاني بآخر هذه الوثيقة إن شاء الله.
وبعض من رأى أن يصطدم بالسلطات في بلاد المسلمين وعجز عن ذلك لجأ إلى مسالك جانبية لإزعاج السلطات وذلك بضرب المدنيين أو الأجانب والسياح ببلاد المسلمين، وكل هذا غير جائز شرعا كما سنذكره في البنود التالية إن شاء الله وإنما ألجأهم إلى ذلك تكليفهم أنفسهم بما لم يوجبه الله عليهم فعالجوا الخطأ بخطأ ثان.
وأنبّه هنا على أن تقسيم الناس إلى مدنيين وعسكريين هو تقسيم مُحدث، ولكنا سوف نستعمله لشيوعه لتقريب الفهم في البنود التالية، والمقصود بالمدنيين في بلاد الكفار: غير المقاتلة منهم، والمقصود بالمدنيين في بلاد المسلمين: عامة الناس.
عمليات تنظيم الجهاد في مصر: أول عملية انتحارية… والطفلة شيماء الضحية الأشهر
في 18 أغسطس من عام 1993 أصدر الظواهري تكليفا لعناصر التنظيم بتنفيذ عملية اغتيال تستهدف وزير الداخلية آنذاك حسن الألفي، وهدد من خلال بيانات أرسلها بالفاكس حينئذ لوكالات الأنباء بالمزيد من عمليات العنف الأخرى ضد عدد من كبار المسؤولين المصريين.
ووصفت هذه العملية بأنها أول عملية انتحارية تشهدها مصر في تاريخها الحديث في أغسطس، حيث فجّر القيادي نزيه نصحي راشد وزميله ضياء الدين محمود حافظ دراجة بخارية ملغومة في موكبه أثناء مروره بشارع الشيخ ريحان بميدان التحرير، وهو ما نتج عنه مقتلهما، بينما نجا الوزير بعد إصابته في ذراعه اليمنى، في حين قتل كل من منصور عبد الفتاح منصور وإبراهيم يونس الشرفا ومحمد أحمد قطب، وإصابة بعض المواطنين وإتلاف عدد من السيارات.
عقب الحادث اكتشفت أجهزة الأمن أن تنظيم الجهاد وراء الحادث، بعد الكشف عن شخصية (نزيه نصحي) وتم القبض على 18 متهماً من أعضاء التنظيم، وتم إحالتهم إلى المحكمة العسكرية التي عاقبت خمسة منهم بالإعدام، بينما عوقب باقي المتهمين بالسجن. ومع الضغط على عناصر التنظيم حدث خلل كبير في بنية الجماعة، أدى إلى اعتقال أعداد كبيرة منهم، وفي أكتوبر من عام 1993، اكتشف 800 عضو في التنظيم، على رأسهم مجدي سالم رئيس الجماعة في القاهرة بسبب فشل محاولة سرقة سيارة نقل لاستخدامها في نقل أسلحة عسكرية كان يخطط للاستيلاء عليها، نتيجة تراجع الموارد المالية للجماعة وانقطاع السبل بهم.
من أجل عاطف صدقي
كانت الحصة الأخيرة في مدرسة المقريزي بمصر الجديدة قد انتهت، وبدأ التلاميذ في الخروج من باب المدرسة… عندما استقرت شظايا الانفجار في جسد نحيف يحمل اسم (شيماء)… تلك الطفلة التي راحت ضحية محاولة أعضاء من تنظيم (الجهاد) اغتيال الدكتور عاطف صدقي، رئيس الوزراء الأسبق في 26 سبتمبر 1993.
بعد سلسلة من عمليات تنظيم الجهاد في مصر، جاء الدور على الدكتور عاطف صدقي، رصده أعضاء التنظيم، وكانت تحركاته تحت منظار التنظيم. خط سيره من مجلس الوزراء إلى منزله بشارع الخليفة المأمون بمصر الجديدة كتاب مفتوح لهم.
زرع المتهمون متفجرات وأنابيب غاز داخل سيارة كانت تقف أمام المدرسة، التي يمر من أمامها موكب رئيس الوزراء، وما إن مر الموكب حتى انفجرت السيارة، دون وقوع إصابات في الهدف أو حراسه، فقد أخطأ المتهم في تقدير الموعد وكان الضحايا ممن لا ذنب لهم، حيث لقيت الطفلة (شيماء) مصرعها، متأثرة بجروحها من شظايا الانفجار، وأصيب 14 آخرون من زملائها بالمدرسة والمارة في الشارع.
الجميع عرف بالحادث وظهرت صورة السيارة المفخخة على شاشات التلفزيون، وكان من بين المشاهدين صاحب معرض سيارات، فزع عندما شاهد السيارة، فهي تلك السيارة التي باعها قبل أيام من الحادث لشخصين، أبلغ المشاهد المباحث بأوصافهما، وبعد أيام شاهد أحدهما يستقل (تاكسي)، فتعقبه وأمسك به، ليدخل الحادث في سلك القضاء، ويترك الأحزان والألم لأسرة الطفلة (شيماء).
الحلقة السادسة
موانع قتل السائحين
سابعًا: النهي عن التعرض بالأذى للأجانب والسياح في بلاد المسلمين :
نرى أن الأجانب القادمين والمقيمين في بلاد المسلمين لا يجوز التعرض لهم بقتل أو نهب أو إيذاء سواء قدموا للسياحة أو العمل أو التجارة ونحوها، وذلك لأسباب كثيرة تمنع إيذاءهم،منها:
• المانع الأول: أنهم قد يكون فيهم مسلمون، وقتل المسلم عمدًا بغير حق من كبائر الذنوب ومن السبع الموبقات، وقد قال الله تعالى (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) (النساء:93)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) رواه مسلم، وفي الحديث الصحيح أيضًا قال النبي صلى الله عليه وسلم (لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا) رواه البخاري، وقد قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا…) (النساء:94)، فإذا كان تبين أحوال الناس واجبًا وقت القتال حتى لا يقع المسلم في خطيئة قتل مسلم، فكيف يكون الحال مع الأجانب والسياح في غير وقت القتال، وهم ما جاءوا لقتال؟
دار الإسلام ودار الحرب
وقديمًا كان الناس متميزين: المسلمون في دار الإسلام، والكفار في دار الحرب ومن أسلم منهم هاجر إلى دار الإسلام، وأهل الذمة في دار الإسلام يتميزون في المظهر عن المسلمين، وكل هذا لا وجود له اليوم، والغالب على الناس اليوم هو جهالة الحال وخصوصا مع عدم وجود دار إسلام تقبل بهجرة من أسلم في بلاد الكفار، ومع العجز عن إلزام الكفار بلبس الغيار (التميز في المظهر) بسبب العجز أصلاً عن إقامة الحكم الإسلامي، فأصبح المسلمون منتشرين في معظم بلدان العالم لا يتميزون في المظهر عن غيرهم.
مما يدل على أنه من الخطأ اعتبار جنسية الإنسان (انتسابه لبلد ما) أو لغته أو لون بشرته أو مظهر ثيابه دليلاً على إسلامه أو كفره، أو دليلاً على جواز قتله، فالتميز متعذر عليهم، والتمييز متعسر علينا، والتبين واجب علينا، والمسلم معصوم بإسلامه أينما كان، والشبهة قائمة، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام).
فإذا تعذر التبين وجب الكف عن الجميع للشبهة، ومن هنا توقف النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل تمرة وجدها ملقاة في بعض طرق المدينة للشبهة وهي احتمال أن تكون من تمر الصدقة وهي لا تحل له، فكيف بدماء الناس وأموالهم؟ وفيهم مسلمون مختلطون بغيرهم لا يتميزون، والمسلم محرم الدم والمال على المسلم أينما كان.
والقاعدة الفقهية تنص على أنه (إذا اختلط الحلال أو المباح مع الحرام ولم يتميزا غلب جانب الحرام ويجب تغليب حكمه في المنع). وردت هذه القاعدة بمعناها في (الأشباه والنظائر) للسيوطي، و(الأشباه والنظائر) لابن نجيم، و(المجموع) للنووي وغيرها، والأدلة على صحة هذه القاعدة كثيرة منها: حديث تمرة الصدقة السابق وهو متفق عليه عن أنس، وحديث (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، وحديث النعمان السابق (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) متفق عليه، وحديث عدي بن حاتم (أنه إذا اختلط الكلب المعلم بغيره من الكلاب ولم يتميزوا يحرم أكل الصيد) متفق عليه، لأن صيد الأول حلال وصيد غيره حرام.
كل هذه أدلة على تغليب حكم الحرام في المنع عند اختلاطه بالمباح من دون تميز. ولأن الحرام مفسدة والمباح مصلحة و(درء المفاسد مقدم على جلب المصالح).
أمان شرعي
• المانع الثاني: أن هؤلاء الأجانب قد يقدمون إلى بلاد المسلمين بدعوة أو بعقد عمل من مسلم صاحب عمل أو صاحب شركة سياحة، وهذا أمان شرعي صحيح لا شك فيه، أما تأشيرة السلطات بعد ذلك فلا تغير شيئًا من حكم أمان المسلم لهم، ونقض أمان المسلم بالتعرض لمن دعاهم من الأجانب بالأذى من كبائر الذنوب المفسقة لأن فيه وعيدًا باللعن كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) متفق عليه، ومعنى (ذمة) العهد والعقد ومنه الأمان، ومعنى (أخفر مسلمًا) أي نقض عهده بإيذائه لمن عاهده من غير المسلمين، وفي الصحيح أيضًا قال النبي صلى الله عليه وسلم (من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عامًا) رواه البخاري، ومع جهالة حال هؤلاء الأجانب من جهة ديانتهم ومن جهة الأمان، فالشبهة قائمة والكف عنهم واجب.
قتل “الكفار”
• المانع الثالث: أنه لو فرض أن الأجانب ببلادنا كفار لا عهد لهم، فإن معظمهم ممن لا يجوز للمسلم أن يتعمد قتلهم حتى حين التحام القتال مع الكفار إذا كانوا في معسكر الكفار، فكيف يحل تعمد قتلهم ابتداء وهم منفردون؟ مثل النساء والأطفال والشيوخ والعمال والرهبان، وقد ورد النهي عن قتل هؤلاء في الأحاديث الصحيحة عن ابن عمر وأنس وبريدة بن الحصيب وغيرهم من الصحابة، كما ورد النهي عن ذلك في وصايا الخلفاء الراشدين كأبي بكر وعمر لقادة جيوش المسلمين رضي الله عنهما، فتعمد قتلهم فيه مجافاة صريحة لصحيح الشرع.
ومن ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان) متفق عليه، وعن بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا) رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم (لا تقتلوا ذرية ولا عسيفًا) حديث حسن رواه أحمد وأبو داود، وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقتلوا شيخًا فانيًا ولا طفلاً صغيرًا ولا امرأة) رواه أبو داود، وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تغدروا، ولا تغلّوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع) رواه أحمد.
وعن الأسود بن سريع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقتلوا الذرية في الحرب) فقالوا: يا رسول الله أو ليس هم أولاد المشركين؟ قال: (أو ليس خياركم أولاد المشركين) رواه أحمد. والذرية والوليد هم الأطفال، والعسيف هم العمال والأجراء، وأصحاب الصوامع هم الرهبان غير المقاتلين، فهذه أحاديث صريحة في النهي عن قتل كل هؤلاء عمدًا حتى حال الحرب، وفيها أيضًا النهي عن الغدر بنقض العهود، والنهي عن المثلة (وهي تشويه جثث القتلى) فكيف بالتفجير؟ وهذا كله يجري على موضوع البند التالي (الثامن) إن شاء الله.
المعاملة بالمثل
• المانع الرابع: أن الأصل في التعامل مع الكفار هو المعاملة بالمثل إلا فيما لا يجوز شرعًا، والتعامل بالمثل مبني على قوله تعالى (… َمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:7)، وجعل سبحانه ذلك من خصال التقوى، ولما استشار عمال الثغور عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مقدار ما يفرضونه من العشور (الجمارك) على تجار أهل الحرب إذا قدموا دار الإسلام قال لهم عمر رضي الله عنه (خذوا منهم مثل ما يأخذون منكم إذا دخلتم إليهم) فبني ذلك على قاعدة (المعاملة بالمثل) من كتب (الخراج) لأبي يوسف ويحيى بن آدم و(الأموال) لأبي عبيد بن سلام، واليوم يوجد في بلاد الكفار الأصليين ملايين المسلمين يقيمون ويعملون بأمان.
وإن حدثت خروقات في هذا فليست هي الأصل، وكذلك إذا دخل المسلم بلادهم بأمانهم (تأشيرة) فإنهم يحترمون دمه وماله وإذا اعتدى عليه أحد اهتموا بالأمر فليس هو مهدر الدم والمال عندهم، وهذا هو صلب عقد الأمان وحقيقته (سواء كان اسمه تأشيرة أو فيزا) فيجب معاملتهم بالمثل إذا قدموا إلى بلاد المسلمين بما يعتبرونه موافقة على قدومهم أيا ما كانت الجهة التي سمحت لهم بالقدوم.
ثارات الجاهلية
• المانع الخامس: أنه إذا كانت للمسلم خصومة مع حكومة بلده أو مع حكومة بلد الأجانب وهو عاجز عن النيل من خصمه فلماذا يدفع هؤلاء الثمن ومعظمهم ممن لا يجوز للمسلم أن يتعمد قتلهم ابتداءً وإن تيقن كفرهم كما سبق بيانه؟ وهل هذا المسلك إلا ثارات الجاهلية؟ التي نهى الله عنها في قوله تعالى (…وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى…) (الأنعام:164)، وقال تعالى (…وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى…) (المائدة:8).
وكان الصحابي خبيب بن عدي رضي الله عنه أسيرًا عند كفار مكة (بعد حادث بعث الرجيع) وهو متيقن أنهم سيقتلونه، وجاءه صبي منهم يزحف ومع خبيب الموسي وبوسعه أن يقتل الصبي انتقامًا منهم أو يأخذه رهينة، ومع ذلك لم يؤذ الصبي لأنه لا يجوز له أن يقتله، ولما رأى خبيب الفزع لدى أم الصبي قال لها (أتخشين أن أقتله، ما كنت لأفعل ذلك) فقالت أم الصبي بعد ذلك (والله ما رأيت أسيرًا خيرًا من خبيب) والحديث بطوله رواه البخاري، ولم يرد خبيب أن يختم حياته بذنب، فكيف بمن يقتل وينسف بلا حساب من لا يجوز قتله من الكفار، ومن لا يعلم ديانتهم من الأجانب؟ وكيف بمن يقتل الأجانب ويقتل معهم أهل بلده من المسلمين أو مجهولي الحال بالجملة؟ وقد أمره ربه بالتبين على كل حال.
المعاملة بالحسنى
• المانع السادس: أن هؤلاء الأجانب والسياح في جملتهم ما جاءوا بلاد المسلمين لحرب أو لقتال، فتجري عليهم المعاملة بالحسنى الواردة في قوله تعالى (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8)، هذا هو ما شرعه الله معهم ومع أمثالهم (أن تبروهم) من البر وهو المعاملة الحسنة وفعل الخير معهم، و(تقسطوا إليهم) أي تعدلوا معهم ولا تظلموهم، لا أن تقتلوهم على حين غرة.
وبعد: فهذه ستة موانع يكفي كل منها بمفرده للكف عن الأجانب والسياح وعدم التعرض لهم بسوء أو أذى، فكيف إذا اجتمعت كل هذه الموانع أو بعضها في حقهم؟ وأنا لم أذكر ضمن هذه الموانع تأشيرة السلطات في بلدان المسلمين والتي قد لا يعتبرها البعض مانعًا، وإنما ذكرت غيرها من الموانع.
هذا مع العلم بأن أبا عمر بن عبد البر رحمه الله قد ذكر في كتابه (الاستذكار في ذكر مذاهب علماء الأمصار ج5) أن عامة أهل العلم على أن كل ما فهمه الكافر أنه أمان له من جانب المسلمين فهو أمان معتبر.أ.هـ. والسياحة مشروعة في الجملة ومن المباحات، وكذلك معاملة الكفار والمشركين بالبيع والشراء والإجارة والهدية ونحوها كل هذا جائز وبوب عليه البخاري رحمه الله في كتب البيوع والهبة والمزارعة والإجارة من صحيحه.
أما ما يرتكبه بعض الأجانب أو السياح من المنكرات في بلدان المسلمين فليست عقوبتها القتل وما هم عليه من الكفر أعظم، والكفار يقرون على الكفر والمنكرات (كالخمر والخنزير) في دار الإسلام بعقد الذمة، كما أن المستضعف لا يجب عليه تغيير المنكر باليد كما سبق في البنود السابقة، فكيف بالقتل؟ وقد كان الكفار يرتكبون أفحش المنكرات ويطوفون بالكعبة وهم عرايا تمامًا حتى عام 9هـ ولم يتعرض لهم أحد من المسلمين حتى نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك قبل وفاته بسنة واحدة، وأرسل عليًا رضي الله عنه ينادي فيهم (لا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان) رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
الالتزام بالحكم الشرعي
والخلاصة: أننا نرى أنه لا يجوز التعرض بالأذى من قتل أو نهب أو غيره للأجانب والسياح القادمين والمقيمين في بلاد المسلمين، وندعو جميع المسلمين إلى الالتزام بهذا الحكم الشرعي وعدم مخالفته، كما نرى أنه لا يجوز بحال استحلال قتل إنسان لمجرد انتسابه إلى بلد من البلدان (أي القتل على الجنسية) هذه بدعة لا سابقة لها في سلف الأمة، وليس انتساب إنسان إلى بلد ما دليلاً على إسلامه أو كفره، وإنما المراد من الانتساب إلى البلدان ونحوها مجرد التعريف كما قال تعالى (…وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13)، فجعل الله الانتساب إلى شعب أو قبيلة مجرد وسيلة للتعريف بالشخص، ثم أتبعه بما يؤكد أن الانتساب ليس معيار تفضيل، وإنما هذا بالتقوى والدين، وقد جمع الإسلام بين سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي وبين أبي بكر العربي رضي الله عنه، فالقتل على الجنسية بدعة منكرة لا سابقة لها في سلف الأمة.
وكذلك أيضًا لا يجوز بحال الحكم بإسلام إنسان أو كفره أو استحلال قتله بناءً على لون بشرته أو شعره أو لأنه يتكلم لغة أجنبية أو لأنه يلبس ثيابًا إفرنجية، ليس شيء من هذا دليل كفر أو إسلام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) رواه مسلم.
وفي عصر الصحابة رضي الله عنهم تم فتح معظم بلدان فارس والروم، ولم يقوموا في فتوحاتهم بقتل كل الناس سكان بلاد المشركين، ولم يقاتلوا أو يقتلوا إلا من انتصب لقتالهم منهم، فليس كل كافر يجب أو يجوز قتله، والكفر عقوبته في الآخرة، أما عقوبات الدنيا فهي لدفع العدوان والفساد كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (مجموع الفتاوى ج12) قال (ومما ينبغي أن يعلم في هذا الموضع أن الشريعة قد تأمرنا بإقامة الحد على شخص في الدنيا إما بقتل أو جلد أو غير ذلك، ويكون في الآخرة غير معذب) إلى قوله (وكذلك نعلم أن خلقًا لا يعاقبون في الدنيا مع أنهم كفار في الآخرة مثل أهل الذمة المقرين بالجزية على كفرهم ومثل المنافقين المظهرين الإسلام فإنهم تجري عليهم أحكام الإسلام وهم في الآخرة كافرون كما دل عليه القرآن في آيات متعددة) إلى قوله (وهذا لأن الجزاء في الحقيقة إنما هو في الدار الآخرة التي هي دار الثواب والعقاب، وأما الدنيا فإنما يشرع فيها من العقاب ما يدفع به الظلم والعدوان» أ.هـ.
وقوله (ويكون في الآخرة غير معذب) لأن إقامة الحد الشرعي على مرتكب الكبائر الحدية تكفر ذنبه وتسقط عنه التبعة في الآخرة لقول النبي صلى الله عليه وسلم (فمن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به فهو كفارة له) الحديث متفق عليه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
وطواف المشركين بالكعبة وهم عرايا يتعبدون بذلك تجده في تفسير ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا…) (الأعراف:28)، وفي تفسيره لأول سورة التوبة.
نص الحلقة السابعة من الكتاب:
ثامنا: نهي من دخل بلاد الأجانب بإذنهم عن الغدر بهم «وهي مسألة العمليات الجهادية من داخل دار الحرب»
كان جهاد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم للكفار غزوا من الخارج عند الاستطاعة، بمواجهة جيش المسلمين لجيش الكفار، ولم يرسلوا أحدًا من المسلمين للقيام بعمليات جهادية داخل بلاد فارس أو الروم أو مكة قبل فتحها فيما نعلمه، وما يفعله بعض المسلمين اليوم من القيام بهذه العمليات داخل بلاد الكفار نرى أنه لا يجوز شرعا لسببين:
وجود المسلمين بين الكفار جائز
• السبب الأول: انتشار المسلمين في معظم بلدان العالم في هذا الزمان (كما سبق في البند السابع) يجعل من المحتمل إصابة مسلمين بما يعم إتلافه كالتفجيرات، وقتل المسلم كبيرة من الموبقات والتبين واجب، والشبهة قائمة، فالكف عن ذلك واجب، وقد سبق هذا في البند السابع، وليست دار الحرب اليوم مختصة بالكفار كما كانت الحال قديما، بل المسلمون اليوم في كل هذه البلدان سواء من سكانها الأصليين أو مـن الوافـدين إليـها. ووجــود المسلمين بين الكفار أمر جائز كما قال تعالى: «… فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ…» (النساء:92)، وقال تعالى: «إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَال وَالنِّسَاء وَالْولْدَان لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً» (النساء:98)، وقد يكون المسلمون بين الكفار مجهولين لنا غير متميزين كما قال تعالى: «… وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً» (الفتح:25).. ولا يجوز قتل المسلمين المختلطين بالكفار بدعوى «التترس» لأن قتل الترس المسلم ليس في إجازته نص وإنما هو اجتهاد ولا يجوز إلا للضرورة ضمن القاعدة العامة: «… وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُررْتُمْ إِلَيْهِ…» (الأنعام:119)، ولا ضرورة لذلك في هذه العمليات الحربية داخل بلاد الكفار، لأنها من العمليات الهجومية (جهاد الطلب) الذي لا ضرر على المسلمين من تركه أو تأجيله، ومن أجاز قتل الترس المسلم من الفقهاء إنما أجازه في جهاد الدفع وللضرورة عند الخوف على المسلمين إذا توقفوا عن قتل الترس المسلم قتلهم الكفار وقتلوه ولا يمكن للمسلمين قتال الكفار المهاجمين إلا بقتل من يحتمون به من المسلمين (الترس المسلم) جاز قتله في هذه الحال عملاً بقاعدة «يرتكب أخف الضررين» وليست هذا هي الحال في العمليات داخل بلاد الكفار، فلا يجوز الإقدام عليها لاحتمال سقوط قتلى من المسلمين المخالطين لهم.. وهناك فرق مهم بين هذه العمليات اليوم وبين ما أجازه بعض الفقهاء من قتل الترس المسلم، وهو أن الصورة التي أجازها الفقهاء هي صورة جيش للكفار وضع في مقدمته أسرى من المسلمين ليتحرج جيش المسلمين من قتلهم فيحتمي الكفار بهم كدروع بشرية لأن «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه» رواه مسلم، أما ما يحدث اليوم فهو أن المسلمين المختلطين بالكفار في بلادهم ليسوا أسرى لديهم بل مواطنون مثلهم أو مقيمون لديهم، وليسوا مع جيش في حرب ليحتاطوا لأنفسهم بالفرار من ميدان القتال، بل إنهم يقتلون على حين غرة ومن دون سابق إنذار من جهة المهاجمين. فليست هذه هي الصورة التي أجاز فيها بعض الفقهاء قتل الترس المسلم، ومن أجازه منهم قيد ذلك بأن تكون هناك (ضرورة قطعية كلية) لأنه اجتهاد بإباحة دماء معصومة في مقابلة النص الشرعي المحرم لها، ولا بد لتجاوز النص من تحقق الضرورة والاضطرار المذكور في قوله تعالى «… وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ…» (الأنعام:119) ومعنى «ضرورة» أي عند خوف الهلاك على جيش المسلمين أو دار الإسلام، ومعنى «قطعية» أي مؤكدة ليست مظنونة أو متوهمة، ومعنى «كلية» أي ليست خاصة بفرد أو طائفة من المسلمين بل بمجموعهم، يراجع في هذا كتاب «المستصفى ج1» لأبي حامد الغزالي، وكتاب «الإحكام في أصول الأحكام ج3» للآمدي، وهذا ليس هو الحال في تفجير الطائرات والقطارات المدنية والعمارات في بلاد الكفار والتي يخالط فيها المسلمون غيرهم، والتي لا ضرورة تلجئ إلى القيام بها. ومن أجل تعظيم دم المسلم وحرمته على المسلم. قال الإمام القرطبي رحمه الله: «أجمع العلماء على أن الإكراه لا يبيح لمسلم أن يقتل مسلمًا ولا أن يؤذيه بقطع أو ضرب، فكلاهما مسلم ولا يحل له أن يفدي نفسه بأذى أخيه المسلم وليصبر على ما نزل به» هذا حاصل كلامه في تفسيره لآية الإكراه رقم 106 من سورة النحل، وانظر كيف أباح الإكراه الكفر الظاهر ولم يبح قتل المسلم, كلاهما بإجماع العلماء، لأجل تعظيم حرمة المسلم، ومن هنا منع كثير من أهل العلم قتل الترس المسلم في صف الكفار إلا عند الضرورة التي قيدوها بالخوف المحقق على مجموع المسلمين من الاستئصال، وليس لمجرد الحاجة أو المصلحة، ومن العلماء من تشدد في ذلك كالإمام مالك رحمه الله.
حقيقة عقد الأمان عصمة الدم والمال
• السبب الثاني: أن من دخل بلاد الكفار بأمانهم لا يحل له أن يخونهم في شيء، والتأشيرة اليوم هي إذن دخول وهي بلا شك عقد أمان منهم لمن أذنوا له بدخول بلادهم لعمل أو تجارة أو دراسة أو سياحة ونحوها، لأن حقيقة عقد الأمان عصمة الدم والمال، والمسلم إذا دخل بلاد الكفار اليوم فإنهم يحترمون دمه وماله وإذا اعتدى عليه أحد يهتمون بذلك ويحاكمون من اعتدى عليه ويعوضونه، فليس هو مهدرًا عندهم، فيجب على هذا المسلم الوفاء لهم لقوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ …» (المائدة:1)، حتى قال محمد بن الحسن الشيباني في كتابه «السير الكبير» «إن المسلم إذا زور خطهم ودخل به بلاد الكفار وصدقوه، وجب عليه الوفاء لهم» هذا حاصل كلامه، (وتزوير خطهم) هو ما يسمى اليوم بالتأشيرة المزورة، ومحمد بن الحسن من أصحاب أبي حنيفة ومن تلاميذ الإمام مالك رحمهم الله، والكفار ما أعطوه الأمان وسمحوا له بدخول بلادهم لكي يخونهم بل على أن يؤمنهم فيجب عليه ذلك وإن لم يشترطوه عليه صراحة لأنه مفهوم، وتنص القاعدة الفقهية على أن «المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا» فإن خانهم فقد ارتكب كبيرة يفسق بها للوعيد الوارد في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من ظلم معاهدًا أو ذميًا لم يجد رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا»، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «لكل غادر لواء يوم القيامة، يقال: هذه غدرة فلان» متفق عليه.
ومن خيانتهم والغدر بهم الاعتداء على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وتفجير طائراتهم وقطاراتهم وعمائرهم وفنادقهم ونحو ذلك، ولا يدخل هذا في حديث (الحرب خدعة) متفق عليه، لأن خداع العدو لا يحل إن كان غدرًا، وهذا غدر ونقض لعقد الأمان (التأشيرة) فلا يجوز، وفي الحديث الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم «إنا لا يصلح في ديننا الغدر» الحديث متفق عليه. وجعل النبي صلى الله عليه وسلم من علامات المنافق أنه «إذا عاهد غدر» متفق عليه، وأنه «إذا اؤتمن خان» متفق عليه. وفي هذا قال ابن قدامة رحمه الله في أبواب الجهاد من كتابه «المغني ج9» «لا يجوز للمسلم أن يخون أهل دار الحرب إذا دخل ديارهم بأمان منهم لأن خيانتهم محرمة، ولا يصلح في دين الله الغدر» وقال في موضع آخر «الأمان إذا أعطي أهل الحرب حرم قتلهم ومالهم والتعرض لهم» أ.هـ. وكلامه هذا لا نعلم فيه خلافًا بين العلماء.
الغدر نفاق ومن الكبائر
وبهذا تعلم أن ما يقوم به بعض المسلمين في البلاد الأجنبية اليوم من التفجيرات والقتل وإتلاف الممتلكات العامة والخاصة، والاحتيال للاستيلاء على أموالهم، والاحتيال على شركات التأمين، والهروب من المساكن قبل دفع الإيجارات وتسديد فواتير التلفون وغيره، بحجة أنهم كفار، تعلم أن هذا كله حرام ولا يجوز شرعًا وهو غدر، والغدر نفاق ومن الكبائر ومرتكب الكبيرة إن مات بلا توبة يخشى عليه من عذاب النار يوم القيامة إلا إن شاء الله تعالى أن يغفر له، وهذا من علم الغيب قال تعالى: «إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ..» (النساء:116).
ونحن نرى أن هذا كله حرام وننهى جميع المسلمين عنه، ويجب أن يتنزه المسلم عن هذه المحرمات من الغدر والفتك والخيانة.. وقديمًا أسلم كثير من الكفار بعدما خالطوا المسلمين ورأوا ما هم عليه من مكارم الأخلاق من العدل والإنصاف والوفاء وعفة اليد واللسان، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له» حديث صحيح رواه أحمد وابن حبان عن أنس رضي الله عنه.
«نهانا الله عن العدوان في كل شؤوننا»
وإذا كانت بعض الدول الكافرة تعتدي على بعض بلاد المسلمين وتقتل بلا تمييز، فإن هذا لا يبيح لنا الرد بالمثل، لأن الله سبحانه قد أخبرنا بأن الكفار دأبهم العدوان في قوله تعالى: «لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ» (التوبة:10)، ومـع ذلـك نهانـا سبحانه عن العدوان في كل شؤوننا ومنها حال الجهاد والقتال فقال تعالى «وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ «(البقرة:190)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» رواه الترمذي وأبو دواد وحسنه عن أبي هريرة رضي الله عنه. فالعدوان والخيانة ليسا من الأمور التي تجوز المعاملة فيها بالمثل، بل إن هذه النصوص الصريحة تمنع من ذلك. ومن العدوان المنهي عنه مع الأعداء: قتل من لا يجوز قتله منهم والغدر ونقض العهود وتخريب العمران لغير ضرورة الجهاد، ولهذا فقد سبق القول: إن القاعدة في معاملة أهل الحرب هي المعاملة بالمثل إلا في ما لا يجوز شرعًا، فالمعاملة بالمثل ليست على إطلاقها بلا ضوابط. وقد حذرنا الله من متابعة سبيلهم في العدوان وغيره فقال سبحانه «وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ» (الأنعام:55)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم» قالوا: اليهود والنصارى؟ قال صلى الله عليه وسلم «فمن؟» متفق عليه عن أبي سعيد رضي الله عنه، يحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من متابعتهم في المعاصي مع إخباره لنا أن هذا كائن في هذه الأمة، ويجب أن يتنزه المسلمون عن الحرب اللاأخلاقية وإن فعلها العدو. وإنما نهى الله عن العدوان حتى في حال الجهاد والقتال (مع ما فيه من إتلاف النفوس والأموال) وذلك من أجل إخراج حظ النفس من العمل ليكون خالصًا لوجه الله تعالى: فيكون جهاده لله لا للانتقام الشخصي ولا للسلب والنهب والتفاخر وغيرها من حظوظ النفس المذكورة في حديث أبي موسى رضي الله عنه: الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل للمغنم وليُرى مكانه، فمن في سبيل الله؟، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «من قاتل لتكون كلمة الله هي العـليا فهو في سبيل الله» الحديث متفق عليه. وقيد الله هذا كله بعدم العدوان بقوله تعالى «وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ..» (البقرة:190).
قتل المدنيين في بلاد الكفار
ويرى البعض جواز قتل المدنيين (غير المقاتلين من الكفار) في بلاد الكفار لجواز قتل الترس الكافـر (الدروع البشرية) إذا دعت الحاجة إلى ذلك مستدلاً بحديث الصعب بن جثامة رضي الله عنه وفيه سأل أنهم يُبيتون (أي يقاتلون في الليل) المشركين فيصيبون من ذراريهم (نسائهم وعيالهم) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هم منهم» الحديث متفق عليه، وهذا فهم خطأ، فمن دخل بلادهم بأمانهم لا يجوز له الغدر ولا يجوز له قتل العسكريين ولا المدنيين منهم، وهو لا يمكنه القطع بكفر هؤلاء المدنيين كلهم، ولو فرضنا أن المسلم ليس بينه وبينهم عهد ولا أمان، ولو فرضنا أنه يقطع بكفر المدنيين منهم، فقتل هؤلاء المدنيين في الطائرات والقطارات المدنية وفي العمائر والفنادق ليست هي الصورة المشروعة لجواز قتل الترس الكافر، لأن هذه الأماكن ليست منشآت عسكرية يقتل فيها المدنيون الكفار بالتبعية كما يبيحه التترس، وإنما هذه منشآت مدنية تفجيرها يعني تعمد قتل المدنيين مباشرة، وليس هذا من التترس في شيء، فلا يجوز تعمد قتل هؤلاء، ويكفيك قول الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ..» (المائدة:1)، ويكفيك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنا لا يصلح في ديننا الغدر» فمن دخل بلاد الكفار بإذنهم (تأشيرتهم ولو من المطار) لا يحل له أبدا أن يغدر بهم ولا أن يعتدي عليهم بأي شكل فإن خالف في هذا فقد ارتكب كبيرة يفسق بها. ولا يجوز الاحتجاج في هذا المقام بقوله تعالى: «… وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ..»(التوبة:120)، لأن إغاظة الأعداء وإن كانت مطلوبة إلا أنها مقيدة بعدم الغدر والإثم والعدوان، وقد سبق أن النهي الخاص مقدم على الإذن العام في البند السادس. ويستوي في ذلك حالتا الحرب والسلم، فالمسلم منهي عن الغدر والإثم والعدوان في كل أحواله، بل ينبغي أن يكون المجاهد في سبيل الله من أحرص الناس على البعد عن هذه المعاصي لأن اقترافها من أسباب الخذلان والهزيمة. وقد روى البخاري رحمه الله في كتاب الجهاد من صحيحه عن أبي الدرداء قوله «أيها الناس عمل «صالح» قبل الغزوة، فإنما تقاتلون بأعمالكم» أ.هـ. وعند خروج سعد بن أبي وقاص لغزو بلاد فارس أوصاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: (أما بعد، فإني أوصيك ومن معك بتقوى الله – إلى أن قال – ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا إن عدونا شر منا فلن يُسلط علينا، فرب قوم قد سُلط عليهم من هم شر منهم، كما سلط الله كفار المجوس على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله «فجاسوا خلال الديار وكان وعدًا مفعولاً») أورده ابن عبد ربه الأندلسي في كتاب الحروب في كتابه (العقد الفريد).
وفي آخر هذا البند يلزم التنبيه على أن القول «بأن من دخل بلاد الكفار بإذنهم ولو بتأشيرة مزورة هو عقد أمان شرعي صحيح يجب على المسلم احترامه كما فصلته» ليس هذا قولاجديدا لي، وإنما قد ذكرته من قبل منذ نحو أربعة عشر عامًا في كتابي (الجامع في طلب العلم الشريف) الذي كتبته عام 1413هـ/1993م.
نص الحلقة الثامنة:
بقيت كلمة أخرى وهي أن أهل الدين الذين يبتغون وجه الله لا يغدرون، وأن الغدر من العلامات الفارقة بين أهل الإيمان وبين أهل النفاق «وإذا عاهد غدر». كما أن الغدر من العلامات الفارقة بين طلاب الدين وبين طلاب الدنيا. وعن هذه الخصلة سأل هرقل عن النبي صلى الله عليه وسلم. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية أرسل إلى ملوك الآفاق يدعوهم إلى الإسلام ولما بلغت رسالته على هرقل عظيم الروم -وكان أيضًا من علماء النصارى- طلب من جنوده أن يبحثوا بالشام عن أناس من قوم النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءوه بأبي سفيان ولم يكن قد أسلم بعد وكان في تجارة بالشام. فسأله هرقل عن النبي صلى الله عليه وسلم «هل يغدر» قال أبو سفيان «لا» فقال هرقل «وكذلك الرسل لا تغدر» ضمن أسئلة أخرى حتى قال هرقل «ولقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أعلم أنه منكم» الحديث بطوله متفق عليه. فلا ينبغي لمسلم أن يفرح بأعمال الغدر لأنها من المعايب وليست من المفاخر.
عمليات حربية
وبقيت كلمة أخيرة في هذا البند، وهي للمسلمين المقيمين بالبلاد الأجنبية والذين يُقدم بعضهم على إلحاق الأذى بهذه البلاد وبأهلها. فبالإضافة إلى ما ذكرته في هذا البند من الموانع التي تحول دون تنفيذ عمليات حربية بهذه البلاد، فإنني أقول: إنه ليس من المروءة أن تنزل بقومٍ ولو كانوا كافرين غير معاهدين يأذنون لك في دخول دارهم والإقامة بها ويؤمنونك على نفسك ومالك ويمنحونك فرصة العمل أو التعليم لديهم أو يمنحونك حق اللجوء السياسي مع الحياة الكريمة لديهم ونحو ذلك من أعمال المعروف ثم تغدر بهم تقتيلاً وتخريبًا. لم يكن هذا من خُلق النبي صلى الله عليه وسلم ولا من سيرته، وقد قال الله تعالى «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ…» (الأحزاب:21)، لقد كان خُلق النبي صلى الله عليه وسلم شكر الناس وَرَدّ الجميل لكل من أسدى إليه معروفًا، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في فِكاك أسرى بدر من المشركين «لو كان المُطعم بن عدي حيًا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له» رواه البخاري، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة عمه أبي طالب الذي كان يحميه قد خرج إلى أهل الطائف يدعوهم إلى الإسلام وإلى نصرته فامتنعوا، فلما قفل راجعًا خشي على نفسه من أهل مكة وطلب من المُطعم أن يدخلها في جواره فأجاره، فحفظ له النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعروف، ثم مات المُطعـم كافـرًا قبل غزوة بدر. وبعد الهجرة وتشريع الجهاد خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم في سفر، وفقدوا الماء، فاستوقفوا امرأة مشركة وأخذوا ماء من مزادتها (القربة الكبيرة) وجرى حينئذ من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم في فيضان الماء ما جرى، ثم جمعوا لها من التمر والسويق، وكانوا بعد ذلك يقاتلون القبائل حول قبيلتها ويتركون قبيلتها حفظًا لمعروفها معهم، حتى أسلم قومها طواعية، والحديث بطوله رواه البخاري.
تحريف الكلم
هكذا كانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع من أسدى إليه معروفًا من المشركين. فلا تصدق الذين يحرضونك على خلاف ذلك فإنهم ليسوا من أهل الفقه في الدين، ولا تغتر في استدلالهم بآية أو حديث فإنهم «يحرفون الكلم عن مواضعه» ويستدلون بها على غير وجهها الصحيح، وإنما هم يدعُون إلى الباطل بأدلة من الحق، وقد قال شيخ الإسلام: إن الباطل لا يروج على الناس إلا بخلطه بشيء من الحق، ومن هنا سُميت الشبهة شبهة لأنها باطل يشبه الحق بما داخلها من الحق، هذا حاصل كلامه، وهذا مثل حديث الكهان الذين يخلطون كلمة صادقة بمئة كذبة. فأقول للمقيمين بالبلاد الأجنبية ولجميع المسلمين احذروا هؤلاء الجهَّال واحترسوا من أبطال الإنترنت وزعماء الميكروفونات الذين أدمنوا إصدار البيانات والذين يُلقون بكم إلى المحرقة ثم يهربون حتى عن نسائهم وعيالهم، فقد ألقوا من قبلكم بالكثيرين إلى المحارق والقبور والسجون وبأموال أجهزة مخابرات، والأسماء موجودة وكذلك المبالغ. وأقول لكل مخدوع بهؤلاء:
ستعلمُ حين ينجلي الغُبار… أَفَرسٌ تحت رِجلك أم حمار
هؤلاء الجهلة الجبناء الذين يُشعلون الحرائق ثم يهربون ويتركون غيرهم يحترق بها. أما جهاد الكفار وَرَدّ عدوانهم فطرقه معروفة في علم الفقه، وليس منها الغدر ونقض العهود، ويكفيك قول النبي صلى الله عليه وسلم للمغيرة «إنا لا يصلح في ديننا الغدر»، ولم يقبل منه مال غدرته، والحديث بطوله في البخاري وهو حديث الحديبية.
تاسعًا: النهي عن قتل المدنيين في بلاد المسلمين
الصدام مع السلطات
سبق في البند السادس من هذه الوثيقة أننا نرى أنه لا يجوز الصدام مع السلطات الحاكمة في بلاد المسلمين من أجل تحكيم الشريعة، ولا يجوز التعرض لقوات هذه الحكومات بالأذى للأسباب المذكورة في البند السادس.
وقد عجز البعض عن الصدام مع هذه السلطات فلجأ إلى إزعاجها بارتكاب ما لا يحل له من قتل عامة الناس (المدنيين) لأنهم أهداف سهلة لا حراسة لهم ولا هم مسلحون، وأحيانا يبتلي الله سبحانه عباده بتسهيل المعصية ليختبر صدق إيمانهم وخشيتهم له، كابتلائه المحرم بالحج أو العمرة بتسهيل الصيد وهو منهي عنه كما قال سبحانه «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ…» (المائدة:94، 95)، وكما ابتلى يوسف عليه السلام بتسهيل فعل الفاحشة، وكما ابتلى أصحاب القرية التي كانت حاضرة البحر من اليهود بتسهيل الصيد يوم السبت وقد نهاهم عنه حسب ما ورد بسورة الأعراف، ومن هذا يدرك المسلم أن سهولة فعل شيء ما لا تجيز فعله حتى يعلم حكم الله فيه. ومن هذا الباب قتل المدنيين لأنهم أهداف سهلة. والذي يمنع نفسه من المعصية مع سهولتها وقدرته على ارتكابها هو كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الذين قال الله فيهم «… أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ» (الحجرات:3)، ذكره ابن كثير في تفسيره.
الفسق والمعاصي
ولا شك في أن الفسق والمعاصي لا تخرج فاعلها من الإسلام، كما أن السكوت عن المنكرات أو الكفر ليس دليل الرضا ويبني على ذلك «أن الرضا بالكفر كفر» أو أنه «من لم يكفَّر الكافر فهو كافر» فيكفر جمهور الناس، وهذا غير صحيح لجواز الإنكار بالقلب، ولأن المستضعف لا يجب عليه الإنكار باليد ولا باللسان إن خشي على نفسه، بل له رخصة في التقية عند الخوف، ومن هنا كانت القاعدة الفقهية «لا ينسب إلى ساكت قول» إلا ما استثنى الشارع مثل سكوت الفتاة البكر دليل موافقتها على الزواج، فلا يجوز الحكم على الناس بناءً على سكوتهم ولا على اقترافهم بعض المنكرات. وقد أثبت الله الإيمان لمن يكتم إيمانه ويتخفى بدينه واعتقاده فكيف ينسب للساكت قول أو حكـم؟ قال تعالى «وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ…» (غافر:28)، كما حكم النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان لمن أنكر المنكر بقلبه وإن لم ينكره بلسانه ولا بيده أي أنه ساكت لم ينطق بشيء ولم يُكفِّر الكافر ولا أنكر المنكر فكيف يُسلب عن هذا حكم الإيمان بعدما أثبته له رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. قال النبي صلى الله عليه وسلم «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يســتطع فبـلسانه، فـإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» رواه مسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه ، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا قال النبي صلى الله عليه وسلم «ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن» رواه مسلم أيضًا، وليس لمسلم قول بعد قول النبي صلى الله عليه وسلم، وإنكار القلب يكون بكراهيته للمنكر وباجتنابه كما في الحديث «فمن كره فقد برئ» رواه مسلم.
«مستور الحال»
والناس فيهم «مستور الحال» وهو من كان ظاهره الإسلام ولم يظهر منه ما ينقض إسلامه، فهذا معصوم الدم والمال قطعًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه» رواه مسلم، وتعمد قتله من أعظم الكبائر كما سبق، وقتله فيه حقوق دنيوية وعقوبات أخروية. وتصح الصلاة خلف مستور الحال وتؤكل ذبيحته من دون اشتراط تبين حاله أو اختبار عقيدته. فكل من ظهرت منه شعائر الإسلام ولم يظهر منه ما ينقض إسلامه لا يجوز التوقف في إثبات حكم الإسلام له لقوله تعالى «… وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً…» (النساء:94)، ولحديث أسامة بن زيد في ذلك، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم «من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم» رواه البخاري، فالتوقف في إثبات الإسلام لمن أظهر شعائره فيه مخالفة صريحة لنصوص الكتاب والسنة. وقد قال الله تعالى «..خُذِ الْعَفْوَ …» (الأعراف:199)، و«العفو» هو ما ظهر من أمور الناس ولا يفتش عن بواطنهم، ولهذا ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس» متفق عليه. وإجراء أحكام الناس على ما ظهر منهم من قواعد هذا الدين المتينة كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه «إن ناسًا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرًا أمناه وقربناه وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءًا لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة» رواه البخاري. وإنما يجوز التبين أو يجب في مستور الحال في مواضع منها قوله تعالى «… إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ…» (الممتحنة:10)، ومنها الأمور التي يشترط لها مرتبة أعلى من الإسلام الظاهر وهي مرتبة العدالة في ما يشترط له العدالة: كالشهود وتقليد الولايات والمناصب وفي الزواج لقوله تعالى «…وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ …» (الطلاق:2)، وقوله تعالى «… يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ …» (المائدة:95)، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم «من زوّج ابنته من فاسق فقد قطع رحمها»، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه» حديث حسن رواه الترمذي، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لشاهد «إني لا أعرفك، فأتني بمن يعرفك» ذكره ابن ضويان في «منار السبيل»، والعدالة هي «المحافظة على الفرائض والمداومة عليها مع اجتناب الكبائر وترك ما يخل بالمروءة»، ولها تعريفات أخرى تجدها بأبواب الشهادات بكتب الفقه وجمع بعضها الشوكاني رحمه الله في كتابه «إرشاد الفحول». وتعرف عدالة المسلم بمراقبة أحواله وبسؤال المسلمين العدول عنه كما في قول عمر السابق (فأتني بمن يعرفك) لقوله تعالى «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ…» (البقرة:143)، ولما أثنى المسلمون على ميت قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم «وجبت.. أنتم شهداء الله في الأرض» الحديث متفق عليه. هذا بعض ما يتعلق بمستور الحال.
«مجهول الحال»
والناس فيهم «مجهول الحال» وهو من لم يظهر منه ما يدل على إسلامه أو كفره، وهذا حال كثير من الناس، وهذا من مواضع التبين الواجب، فيجب الكف عنه ولا يتعرض له المسلم بأذى، ولا يجب تبين حاله إلا في المعاملات التي يشترط فيها معرفة الديانة أو العدالة كما سبق في مستور الحال.. وقديمًا كان يحكم لمجهول الحال في دار الإسلام بالإسلام ومن هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم «تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» رواه البخاري، لأنه لا يجوز ابتداء غير المسلم بالسلام، وإنما كان يحكم لمجهول الحال بالإسلام لأسباب منها:
1) التميز في الهدى الظاهر (المظهر) بين المسلمين وبين غيرهم، إذ كان يجري إلزام أهل الذمة بلبس الغيار (الثياب المغايرة للبس المسلمين).
2) إقامة حد الردة على من ينقض إسلامه من المسلمين.
ومع غياب هذين الأمرين لا يمكن القطع بالإسلام لمجهول الحال الذي لم يظهر منه شيء من علامات الإسلام أو الكفر. وذهب البعض إلى إجراء حكم الدار على ساكنيها، ورتب على هذا أن مجهول الحال بدار الكفر كافر، وهذا خطأ إذ قد أجاز الله كتمان الإيمان للمستضعف بدار الكفر، وأكد سبحانه ذلك بقوله تعالى «… وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ…» (الفتح:25). وقد كانت مكة دار كفر حتى فتحها عام 8هـ، وكان يسكنها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قبل الهجرة وبقى فيها المستضعفون بعد الهجرة، وهم مؤمنون ولم يجر على أحد منهم حكم الدار. وكذلك قال ابن تيمية رحمه الله في بلدة «ماردين» أنه يعامل فيها المسلم بما يستحقه والكافر بما يستحقه. ولم يقل أحد من العلماء أن حكم الدار يلحق ساكنيها إلا في مسائل محدودة يتعذر فيها تبين حال الإنسان مثل اللقيط والميت المجهول، وحتى هؤلاء فيهما خلاف، أشار إلى ذلك ابن قدامة في «المغني» وابن القيم في «أحكام أهل الذمة» وابن رجب الحنبلي في «القواعد»، والصحيح أن مجهول الحال لا يقطع له بحكم حتى يتبين حـاله لقـوله تعالى «وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ…» (الإسراء:36)، وقال تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ…» (النساء:94).
التبين درجتان
1) تبين الإسلام: في ما يشترط فيه الإسلام من المعاملات.
2) تبين العدالة: في المعاملات التي تشترط لها العدالة.
وقد سبق هذا في «مستور الحال»، وأعود فأقول إن المدنيين في بلدان المسلمين اليوم هم خليط من أصناف شتى وقد سبق في البند السابع بيان أنه «إذا اختلط المباح بالحرام غلب حكم الحرام».
فكيف يجوز مهاجمة هؤلاء بما يعم إتلافه (التفجيرات) وما الداعي لذلك شرعًا؟ ولو افترضـنا وجـود الداعـي فكـيف يجوز مهاجمة مجهولي الحال بدون تبين وقد قال الله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً» (النساء:94)، وقد ذكر الله سبحانه هذه الآية بعدما ذكر الوعيد لمن قتل مؤمنًا متعمدًا في الآية السابقة عليها، وكرر في هذه الآية الأمر بالتبين لتأكيد وجوبه، وحذر من الإقدام على قتل مجهولي الحال لتحصيل الأغراض الدنيوية، ونبه عباده أنهم كانوا على هذه الصفة من قبل (كذلك كنتم من قبل) ليكون هذا زاجرًا لهم عن التسرع في التعرض للناس وسفك دمائهم. ولا أظن أن التعرض لعامة الناس في بلدان المسلمين اليوم من الجهاد في سبيل الله في شيء مثل ما حدث من تفجير الفنادق والعمارات ووسائل النقل، هذا كله لا يجوز ولو بدعوى جواز قتل الترس المسلم أو الكافر، وقد سبق بحث مسألة التترس في البند الثامن من هذه الوثيقة. فلا يجوز قتل المدنيين في بلاد المسلمين وفيهم المسلم وغير المسلم وفيهم مستور الحال ومجهول الحال، وقتلهم بالجملة في التفجيرات ونحوها متردد بين الحرام القطعي وبين الشبهة وفي الحديث الصحيح «ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام» وإذا اختلط الحرام بالحلال يحرم الكل، ولا يوجد أي مبرر شرعي للتعرض لهم أصلاً وننهي عن ذلك أنفسنا وجميع المسلمين أشد النهي، والمنكرات التي يرتكبها بعض الناس ليست عقوبتها الشرعية القتل والتفجير، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التعرض للناس بلا تمييز، وتوعد فاعل ذلك بأنه ليس من النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الصيغة من علامات الكبائر، فقال صلى الله عليه وسلم «من خرج من أمتي على أمتي يضرب برها وفاجرها، لا يتحاشى مؤمنها، ولا يفي بذي عهدها فليس مني» رواه أحمد ومسلم، وهذه هي العشوائية في أذية الناس.
اختلاف المذهب
أما يكفي للمسلم زاجرا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح «لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما» رواه البخاري.
وأما يكفي للمسلم زاجرا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح «إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وقذف هذا وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار» رواه مسلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم «اجتنبوا السبع الموبقات – وذكر منها – قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق» الحديث متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم «أول ما يقضي بين الناس يوم القيامة في الدماء» متفق عليه.
ولا يجوز التعرض للمنتسبين إلى الإسلام بسبب اختلاف المذهب، فقد ظهرت في زماننا هذا كثير من البدع مثل: القتل على الجنسية، والقتل على المظهر، والقتل على الهوية، والقتل على الأسماء، والقتل على المذهب، ومنه قتل الشيعة، وهم فرقة من المسلمين منذ القرن الأول الهجري، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه «منهاج السنة النبوية» أنه لم يقل أحد من علماء السلف بتكفير الشيعة في الجملة، هذا حاصل كلامه، والمسلم معصوم الدم والمال ,إن خالف في المذهب.
ولا يجوز لمسلم أن يعين على شيء من العدوان، فمن أعان فهو شريك في الإثم قال الله تعالى «… وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ…» (المائدة:2).
وقد ذكر ابن تيمية رحمه الله قاعدة في الموازنة بين المصلحة والمفسدة فقال (فتبين أن السيئة تحتمل في موضعين: دفع ما هو أسوأ منها إذا لم تدفع إلا بها، وتحصيل ما هو أنفع من تركها إذا لم تحصل إلا بها. والحسنة تترك في موضعين: إذا كانت مفوتة لما هو أحسن منها، أو مستلزمه لسيئة تزيد مضرتها على منفعة الحسنة، هذا فيما يتعلق بالموازنات الدينية) أ.هـ.
وفي خرق الخضر عليه السلام للسفينة دليل على احتمال أخف الضررين.
للجهاد مقدمات ومقومات
وسواء كان ترك الحكم بالشريعة كفرًا أو كفرًا دون كفر أو معصية،.. فإننا لا نرى أن الصدام مع السلطات الحاكمة في بلاد المسلمين باسم الجهاد هو الخيار المناسب للسعي لتطبيق الشريعة، فالجهاد لا بد له من مقدمات ومقومات تعتبر من شروط وجوبه فإذا انعدمت سقط الوجوب، ومنها دار الهجرة والنصرة (كالمدينة) أو دار الأمن (كالحبشة بالنسبة للصحابة) أو القاعدة الآمنة (كأبي بصير)، والنفقة اللازمة للجهاد، وتأمين ذراري المسلمين (نسائهم وعيالهم) والتكافؤ في العدد والعدة بين طرفي الصدام، والفئة التي يمكن التحيز إليها، وتميز الصفوف حتى لا تنتهك دماء المعصومين وحرمتهم، كل هذه المقومات مفقودة بما يجعل الجهاد لا يؤدي إلى النتيجة المرجوة من إظهار الدين وتحكيم الشريعة، وهذا هو الواقع فعلاً في معظم البلدان، فلم تفلح في ذلك معظم الجماعات الإسلامية رغم التضحيات الجسيمة التي قدمتها، ولهذا لم يفرض الله سبحانه الجهاد على المسلمين وهم مستضعفون بمكة قبل الهجرة لعدم توفر مقومات نجاحه، وبعض الذين حاولوا الالتفاف على نقص المقومات في عصرنا الحاضر وقعوا في محظورات شرعية، منها:
• قتل معصومين بدعوى التترس في غير موضعه، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله.
• استحلال أموال لا تحل بالسطو والخطف بدعوى تمويل الجهاد، وقد سبق بيان فساد ذلك.
• الغدر ونقض العهد ممن دخل بلاد الكفار بإذنهم فخانهم، وسيأتي بيانه إن شاء الله.
• العجز عن تأمين ذراري المسلمين وقت الصدام بما يعرضهم للتلف والفتن.
• تلقي أموال والاستعانة بأنظمة حكم في دول أخرى ليست بأفضل من بلدانهم لقتال أهل بلدهم بما أوقعهم في فخ العمالة وحروب الوكالة، فيبدأ شأنه مجاهدًا ويصير عميلاً مرتزقًا، ولو شئت أن أقول منهم فلان وفلان لقلت.
• اضطرار البعض إلى عمل لجوء سياسي لدى الدول الأجنبية (بلاد الكفار الأصليين) فيكون بذلك قد دخل تحت حكم الكفار وقوانينهم باختياره، في حين أن القوانين المخالفة للشريعة تجري عليه في بلده بغير اختياره، وقد حذر فقهاء السلف من ذلك وقالوا إن من دخل من المسلمين دار الحرب (دار الكفر) لحاجة لا يجوز له أن يعزم على الإقامة بها لأنه يكون بذلك قد رضي بجريان أحكام الكفار عليه طواعية، وبذلك يرتد عن الإسلام، ذكره ابن قدامه وغيره.
وليس اللجوء السياسي اليوم كالدخول قديمًا في جوار ذي منعة كما دخل النبي صلى الله عليه وسلم في جوار المطعم بن عدي، وكما دخل أبو بكر رضي الله عنه في جوار ابن الدغنه، إذ لم يترتب على الجوار جريان أحكام الكفار عليهم بل مجرد الحماية، ولما أراد ابن الدغنه أن يشترط على أبي بكر رضي الله عنه شروطًا رد عليه جواره، وحديثه بالصحيح.
ومع ذلك فإنني لا أرى أن طالبي اللجوء السياسي بالبلاد الأجنبية اليوم مرتدون، ولا أقول بذلك للفارق بين الحال الآن وما كانت عليه قديمًا من وجود دار الإسلام التي تقبل بهجرة أي مسلم إليها وتؤمنه فهذا متعذر الآن. ولهذا فإن اللجوء السياسي اليوم يشبه الهجرة إلى دار الأمن(كالحبشة في أول الإسلام) أو هو من باب (اختيار أخف الضررين). وقد صرح ابن حزم رحمه الله في (المحلي ج11) أن الإقامة بدار الحرب للمضطر جائزة وليست ردة بشرط ألا يشاركهم في محاربتهم للمسلمين، وذكر في ذلك خبرًا نسبه للزهري (محمد بن شهاب) رحمه الله. هذا حاصل كلامه أ.هـ.
معاندة السنن
وقد كانت هذه أمثلة لبعض المحظورات التي ارتكبوها، وبهذا يفعل المسلم ما لا يحل له شرعًا (كهذه المحظورات) للقيام بما لا يجب عليه شرعًا (من الجهاد العاجز عنه)، وإنما ألجأهم إلى هذا معاندة السنن وتكليفهم أنفسهم بما يعجزون عنه، والتكليف بما لا يطاق لا يجوز شرعًا بإجماع أهل العلم، كما هو موضح في كتب (أصول الفقه).
ولهذا فإننا نرى أن الصدام مع السلطات الحاكمة في بلاد المسلمين لأجل تحكيم الشريعة في مصر وما يشبهها من البلاد لا يجب في ضوء الظروف السابقة سواء كان هذا باسم الجهاد أو باسم تغيير المنكرات باليد، كل هذا لا يجوز ولا يجب، ولا يجوز التعرض لقوات هذه الحكومات (من الجيش والشرطة وقوات الأمن) بالأذى لما في ذلك من المفاسد الكثيرة، وننصح بذلك جميع المسلمين، ونرى أن الاشتغال بالدعوة الإسلامية وتقريب المسلمين من دينهم بما يؤدي إلى تقليل المفاسد الشائعة أجدى نفعًا للإسلام وللمسلمين والذين خالفوا في ذلك ولجأوا إلى الصدام لا هم أقاموا الدين ولا أبقوا على أنفسهم وأهاليهم ولا حافظوا على بلادهم من المفاسد والخراب، وفي القاعدة الفقهية (من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه) أو (التعجل علة الحرمان) ومن عجز عن الدعوة والتغيير باللسان أنكر بقلبه، وقال تعالى (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا…) (البقرة:286)، وسيأتي كلام آخر في هذا الموضوع بالتنبيه الثاني بآخر هذه الوثيقة إن شاء الله.
وبعض من رأى أن يصطدم بالسلطات في بلاد المسلمين وعجز عن ذلك لجأ إلى مسالك جانبية لإزعاج السلطات وذلك بضرب المدنيين أو الأجانب والسياح ببلاد المسلمين، وكل هذا غير جائز شرعا كما سنذكره في البنود التالية إن شاء الله وإنما ألجأهم إلى ذلك تكليفهم أنفسهم بما لم يوجبه الله عليهم فعالجوا الخطأ بخطأ ثان.
وأنبّه هنا على أن تقسيم الناس إلى مدنيين وعسكريين هو تقسيم مُحدث، ولكنا سوف نستعمله لشيوعه لتقريب الفهم في البنود التالية، والمقصود بالمدنيين في بلاد الكفار: غير المقاتلة منهم، والمقصود بالمدنيين في بلاد المسلمين: عامة الناس.
عمليات تنظيم الجهاد في مصر: أول عملية انتحارية… والطفلة شيماء الضحية الأشهر
في 18 أغسطس من عام 1993 أصدر الظواهري تكليفا لعناصر التنظيم بتنفيذ عملية اغتيال تستهدف وزير الداخلية آنذاك حسن الألفي، وهدد من خلال بيانات أرسلها بالفاكس حينئذ لوكالات الأنباء بالمزيد من عمليات العنف الأخرى ضد عدد من كبار المسؤولين المصريين.
ووصفت هذه العملية بأنها أول عملية انتحارية تشهدها مصر في تاريخها الحديث في أغسطس، حيث فجّر القيادي نزيه نصحي راشد وزميله ضياء الدين محمود حافظ دراجة بخارية ملغومة في موكبه أثناء مروره بشارع الشيخ ريحان بميدان التحرير، وهو ما نتج عنه مقتلهما، بينما نجا الوزير بعد إصابته في ذراعه اليمنى، في حين قتل كل من منصور عبد الفتاح منصور وإبراهيم يونس الشرفا ومحمد أحمد قطب، وإصابة بعض المواطنين وإتلاف عدد من السيارات.
عقب الحادث اكتشفت أجهزة الأمن أن تنظيم الجهاد وراء الحادث، بعد الكشف عن شخصية (نزيه نصحي) وتم القبض على 18 متهماً من أعضاء التنظيم، وتم إحالتهم إلى المحكمة العسكرية التي عاقبت خمسة منهم بالإعدام، بينما عوقب باقي المتهمين بالسجن. ومع الضغط على عناصر التنظيم حدث خلل كبير في بنية الجماعة، أدى إلى اعتقال أعداد كبيرة منهم، وفي أكتوبر من عام 1993، اكتشف 800 عضو في التنظيم، على رأسهم مجدي سالم رئيس الجماعة في القاهرة بسبب فشل محاولة سرقة سيارة نقل لاستخدامها في نقل أسلحة عسكرية كان يخطط للاستيلاء عليها، نتيجة تراجع الموارد المالية للجماعة وانقطاع السبل بهم.
من أجل عاطف صدقي
كانت الحصة الأخيرة في مدرسة المقريزي بمصر الجديدة قد انتهت، وبدأ التلاميذ في الخروج من باب المدرسة… عندما استقرت شظايا الانفجار في جسد نحيف يحمل اسم (شيماء)… تلك الطفلة التي راحت ضحية محاولة أعضاء من تنظيم (الجهاد) اغتيال الدكتور عاطف صدقي، رئيس الوزراء الأسبق في 26 سبتمبر 1993.
بعد سلسلة من عمليات تنظيم الجهاد في مصر، جاء الدور على الدكتور عاطف صدقي، رصده أعضاء التنظيم، وكانت تحركاته تحت منظار التنظيم. خط سيره من مجلس الوزراء إلى منزله بشارع الخليفة المأمون بمصر الجديدة كتاب مفتوح لهم.
زرع المتهمون متفجرات وأنابيب غاز داخل سيارة كانت تقف أمام المدرسة، التي يمر من أمامها موكب رئيس الوزراء، وما إن مر الموكب حتى انفجرت السيارة، دون وقوع إصابات في الهدف أو حراسه، فقد أخطأ المتهم في تقدير الموعد وكان الضحايا ممن لا ذنب لهم، حيث لقيت الطفلة (شيماء) مصرعها، متأثرة بجروحها من شظايا الانفجار، وأصيب 14 آخرون من زملائها بالمدرسة والمارة في الشارع.
الجميع عرف بالحادث وظهرت صورة السيارة المفخخة على شاشات التلفزيون، وكان من بين المشاهدين صاحب معرض سيارات، فزع عندما شاهد السيارة، فهي تلك السيارة التي باعها قبل أيام من الحادث لشخصين، أبلغ المشاهد المباحث بأوصافهما، وبعد أيام شاهد أحدهما يستقل (تاكسي)، فتعقبه وأمسك به، ليدخل الحادث في سلك القضاء، ويترك الأحزان والألم لأسرة الطفلة (شيماء).
موانع قتل السائحين
سابعًا: النهي عن التعرض بالأذى للأجانب والسياح في بلاد المسلمين :
نرى أن الأجانب القادمين والمقيمين في بلاد المسلمين لا يجوز التعرض لهم بقتل أو نهب أو إيذاء سواء قدموا للسياحة أو العمل أو التجارة ونحوها، وذلك لأسباب كثيرة تمنع إيذاءهم،منها:
• المانع الأول: أنهم قد يكون فيهم مسلمون، وقتل المسلم عمدًا بغير حق من كبائر الذنوب ومن السبع الموبقات، وقد قال الله تعالى (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) (النساء:93)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه) رواه مسلم، وفي الحديث الصحيح أيضًا قال النبي صلى الله عليه وسلم (لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا) رواه البخاري، وقد قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا…) (النساء:94)، فإذا كان تبين أحوال الناس واجبًا وقت القتال حتى لا يقع المسلم في خطيئة قتل مسلم، فكيف يكون الحال مع الأجانب والسياح في غير وقت القتال، وهم ما جاءوا لقتال؟
دار الإسلام ودار الحرب
وقديمًا كان الناس متميزين: المسلمون في دار الإسلام، والكفار في دار الحرب ومن أسلم منهم هاجر إلى دار الإسلام، وأهل الذمة في دار الإسلام يتميزون في المظهر عن المسلمين، وكل هذا لا وجود له اليوم، والغالب على الناس اليوم هو جهالة الحال وخصوصا مع عدم وجود دار إسلام تقبل بهجرة من أسلم في بلاد الكفار، ومع العجز عن إلزام الكفار بلبس الغيار (التميز في المظهر) بسبب العجز أصلاً عن إقامة الحكم الإسلامي، فأصبح المسلمون منتشرين في معظم بلدان العالم لا يتميزون في المظهر عن غيرهم.
مما يدل على أنه من الخطأ اعتبار جنسية الإنسان (انتسابه لبلد ما) أو لغته أو لون بشرته أو مظهر ثيابه دليلاً على إسلامه أو كفره، أو دليلاً على جواز قتله، فالتميز متعذر عليهم، والتمييز متعسر علينا، والتبين واجب علينا، والمسلم معصوم بإسلامه أينما كان، والشبهة قائمة، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام).
فإذا تعذر التبين وجب الكف عن الجميع للشبهة، ومن هنا توقف النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل تمرة وجدها ملقاة في بعض طرق المدينة للشبهة وهي احتمال أن تكون من تمر الصدقة وهي لا تحل له، فكيف بدماء الناس وأموالهم؟ وفيهم مسلمون مختلطون بغيرهم لا يتميزون، والمسلم محرم الدم والمال على المسلم أينما كان.
والقاعدة الفقهية تنص على أنه (إذا اختلط الحلال أو المباح مع الحرام ولم يتميزا غلب جانب الحرام ويجب تغليب حكمه في المنع). وردت هذه القاعدة بمعناها في (الأشباه والنظائر) للسيوطي، و(الأشباه والنظائر) لابن نجيم، و(المجموع) للنووي وغيرها، والأدلة على صحة هذه القاعدة كثيرة منها: حديث تمرة الصدقة السابق وهو متفق عليه عن أنس، وحديث (دع ما يريبك إلى ما لا يريبك) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح، وحديث النعمان السابق (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) متفق عليه، وحديث عدي بن حاتم (أنه إذا اختلط الكلب المعلم بغيره من الكلاب ولم يتميزوا يحرم أكل الصيد) متفق عليه، لأن صيد الأول حلال وصيد غيره حرام.
كل هذه أدلة على تغليب حكم الحرام في المنع عند اختلاطه بالمباح من دون تميز. ولأن الحرام مفسدة والمباح مصلحة و(درء المفاسد مقدم على جلب المصالح).
أمان شرعي
• المانع الثاني: أن هؤلاء الأجانب قد يقدمون إلى بلاد المسلمين بدعوة أو بعقد عمل من مسلم صاحب عمل أو صاحب شركة سياحة، وهذا أمان شرعي صحيح لا شك فيه، أما تأشيرة السلطات بعد ذلك فلا تغير شيئًا من حكم أمان المسلم لهم، ونقض أمان المسلم بالتعرض لمن دعاهم من الأجانب بالأذى من كبائر الذنوب المفسقة لأن فيه وعيدًا باللعن كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين) متفق عليه، ومعنى (ذمة) العهد والعقد ومنه الأمان، ومعنى (أخفر مسلمًا) أي نقض عهده بإيذائه لمن عاهده من غير المسلمين، وفي الصحيح أيضًا قال النبي صلى الله عليه وسلم (من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عامًا) رواه البخاري، ومع جهالة حال هؤلاء الأجانب من جهة ديانتهم ومن جهة الأمان، فالشبهة قائمة والكف عنهم واجب.
قتل “الكفار”
• المانع الثالث: أنه لو فرض أن الأجانب ببلادنا كفار لا عهد لهم، فإن معظمهم ممن لا يجوز للمسلم أن يتعمد قتلهم حتى حين التحام القتال مع الكفار إذا كانوا في معسكر الكفار، فكيف يحل تعمد قتلهم ابتداء وهم منفردون؟ مثل النساء والأطفال والشيوخ والعمال والرهبان، وقد ورد النهي عن قتل هؤلاء في الأحاديث الصحيحة عن ابن عمر وأنس وبريدة بن الحصيب وغيرهم من الصحابة، كما ورد النهي عن ذلك في وصايا الخلفاء الراشدين كأبي بكر وعمر لقادة جيوش المسلمين رضي الله عنهما، فتعمد قتلهم فيه مجافاة صريحة لصحيح الشرع.
ومن ذلك حديث ابن عمر رضي الله عنهما (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان) متفق عليه، وعن بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا) رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم (لا تقتلوا ذرية ولا عسيفًا) حديث حسن رواه أحمد وأبو داود، وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقتلوا شيخًا فانيًا ولا طفلاً صغيرًا ولا امرأة) رواه أبو داود، وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تغدروا، ولا تغلّوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع) رواه أحمد.
وعن الأسود بن سريع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقتلوا الذرية في الحرب) فقالوا: يا رسول الله أو ليس هم أولاد المشركين؟ قال: (أو ليس خياركم أولاد المشركين) رواه أحمد. والذرية والوليد هم الأطفال، والعسيف هم العمال والأجراء، وأصحاب الصوامع هم الرهبان غير المقاتلين، فهذه أحاديث صريحة في النهي عن قتل كل هؤلاء عمدًا حتى حال الحرب، وفيها أيضًا النهي عن الغدر بنقض العهود، والنهي عن المثلة (وهي تشويه جثث القتلى) فكيف بالتفجير؟ وهذا كله يجري على موضوع البند التالي (الثامن) إن شاء الله.
المعاملة بالمثل
• المانع الرابع: أن الأصل في التعامل مع الكفار هو المعاملة بالمثل إلا فيما لا يجوز شرعًا، والتعامل بالمثل مبني على قوله تعالى (… َمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:7)، وجعل سبحانه ذلك من خصال التقوى، ولما استشار عمال الثغور عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مقدار ما يفرضونه من العشور (الجمارك) على تجار أهل الحرب إذا قدموا دار الإسلام قال لهم عمر رضي الله عنه (خذوا منهم مثل ما يأخذون منكم إذا دخلتم إليهم) فبني ذلك على قاعدة (المعاملة بالمثل) من كتب (الخراج) لأبي يوسف ويحيى بن آدم و(الأموال) لأبي عبيد بن سلام، واليوم يوجد في بلاد الكفار الأصليين ملايين المسلمين يقيمون ويعملون بأمان.
وإن حدثت خروقات في هذا فليست هي الأصل، وكذلك إذا دخل المسلم بلادهم بأمانهم (تأشيرة) فإنهم يحترمون دمه وماله وإذا اعتدى عليه أحد اهتموا بالأمر فليس هو مهدر الدم والمال عندهم، وهذا هو صلب عقد الأمان وحقيقته (سواء كان اسمه تأشيرة أو فيزا) فيجب معاملتهم بالمثل إذا قدموا إلى بلاد المسلمين بما يعتبرونه موافقة على قدومهم أيا ما كانت الجهة التي سمحت لهم بالقدوم.
ثارات الجاهلية
• المانع الخامس: أنه إذا كانت للمسلم خصومة مع حكومة بلده أو مع حكومة بلد الأجانب وهو عاجز عن النيل من خصمه فلماذا يدفع هؤلاء الثمن ومعظمهم ممن لا يجوز للمسلم أن يتعمد قتلهم ابتداءً وإن تيقن كفرهم كما سبق بيانه؟ وهل هذا المسلك إلا ثارات الجاهلية؟ التي نهى الله عنها في قوله تعالى (…وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى…) (الأنعام:164)، وقال تعالى (…وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى…) (المائدة:8).
وكان الصحابي خبيب بن عدي رضي الله عنه أسيرًا عند كفار مكة (بعد حادث بعث الرجيع) وهو متيقن أنهم سيقتلونه، وجاءه صبي منهم يزحف ومع خبيب الموسي وبوسعه أن يقتل الصبي انتقامًا منهم أو يأخذه رهينة، ومع ذلك لم يؤذ الصبي لأنه لا يجوز له أن يقتله، ولما رأى خبيب الفزع لدى أم الصبي قال لها (أتخشين أن أقتله، ما كنت لأفعل ذلك) فقالت أم الصبي بعد ذلك (والله ما رأيت أسيرًا خيرًا من خبيب) والحديث بطوله رواه البخاري، ولم يرد خبيب أن يختم حياته بذنب، فكيف بمن يقتل وينسف بلا حساب من لا يجوز قتله من الكفار، ومن لا يعلم ديانتهم من الأجانب؟ وكيف بمن يقتل الأجانب ويقتل معهم أهل بلده من المسلمين أو مجهولي الحال بالجملة؟ وقد أمره ربه بالتبين على كل حال.
المعاملة بالحسنى
• المانع السادس: أن هؤلاء الأجانب والسياح في جملتهم ما جاءوا بلاد المسلمين لحرب أو لقتال، فتجري عليهم المعاملة بالحسنى الواردة في قوله تعالى (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8)، هذا هو ما شرعه الله معهم ومع أمثالهم (أن تبروهم) من البر وهو المعاملة الحسنة وفعل الخير معهم، و(تقسطوا إليهم) أي تعدلوا معهم ولا تظلموهم، لا أن تقتلوهم على حين غرة.
وبعد: فهذه ستة موانع يكفي كل منها بمفرده للكف عن الأجانب والسياح وعدم التعرض لهم بسوء أو أذى، فكيف إذا اجتمعت كل هذه الموانع أو بعضها في حقهم؟ وأنا لم أذكر ضمن هذه الموانع تأشيرة السلطات في بلدان المسلمين والتي قد لا يعتبرها البعض مانعًا، وإنما ذكرت غيرها من الموانع.
هذا مع العلم بأن أبا عمر بن عبد البر رحمه الله قد ذكر في كتابه (الاستذكار في ذكر مذاهب علماء الأمصار ج5) أن عامة أهل العلم على أن كل ما فهمه الكافر أنه أمان له من جانب المسلمين فهو أمان معتبر.أ.هـ. والسياحة مشروعة في الجملة ومن المباحات، وكذلك معاملة الكفار والمشركين بالبيع والشراء والإجارة والهدية ونحوها كل هذا جائز وبوب عليه البخاري رحمه الله في كتب البيوع والهبة والمزارعة والإجارة من صحيحه.
أما ما يرتكبه بعض الأجانب أو السياح من المنكرات في بلدان المسلمين فليست عقوبتها القتل وما هم عليه من الكفر أعظم، والكفار يقرون على الكفر والمنكرات (كالخمر والخنزير) في دار الإسلام بعقد الذمة، كما أن المستضعف لا يجب عليه تغيير المنكر باليد كما سبق في البنود السابقة، فكيف بالقتل؟ وقد كان الكفار يرتكبون أفحش المنكرات ويطوفون بالكعبة وهم عرايا تمامًا حتى عام 9هـ ولم يتعرض لهم أحد من المسلمين حتى نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك قبل وفاته بسنة واحدة، وأرسل عليًا رضي الله عنه ينادي فيهم (لا يحجن بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان) رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
الالتزام بالحكم الشرعي
والخلاصة: أننا نرى أنه لا يجوز التعرض بالأذى من قتل أو نهب أو غيره للأجانب والسياح القادمين والمقيمين في بلاد المسلمين، وندعو جميع المسلمين إلى الالتزام بهذا الحكم الشرعي وعدم مخالفته، كما نرى أنه لا يجوز بحال استحلال قتل إنسان لمجرد انتسابه إلى بلد من البلدان (أي القتل على الجنسية) هذه بدعة لا سابقة لها في سلف الأمة، وليس انتساب إنسان إلى بلد ما دليلاً على إسلامه أو كفره، وإنما المراد من الانتساب إلى البلدان ونحوها مجرد التعريف كما قال تعالى (…وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13)، فجعل الله الانتساب إلى شعب أو قبيلة مجرد وسيلة للتعريف بالشخص، ثم أتبعه بما يؤكد أن الانتساب ليس معيار تفضيل، وإنما هذا بالتقوى والدين، وقد جمع الإسلام بين سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي وبين أبي بكر العربي رضي الله عنه، فالقتل على الجنسية بدعة منكرة لا سابقة لها في سلف الأمة.
وكذلك أيضًا لا يجوز بحال الحكم بإسلام إنسان أو كفره أو استحلال قتله بناءً على لون بشرته أو شعره أو لأنه يتكلم لغة أجنبية أو لأنه يلبس ثيابًا إفرنجية، ليس شيء من هذا دليل كفر أو إسلام، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) رواه مسلم.
وفي عصر الصحابة رضي الله عنهم تم فتح معظم بلدان فارس والروم، ولم يقوموا في فتوحاتهم بقتل كل الناس سكان بلاد المشركين، ولم يقاتلوا أو يقتلوا إلا من انتصب لقتالهم منهم، فليس كل كافر يجب أو يجوز قتله، والكفر عقوبته في الآخرة، أما عقوبات الدنيا فهي لدفع العدوان والفساد كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (مجموع الفتاوى ج12) قال (ومما ينبغي أن يعلم في هذا الموضع أن الشريعة قد تأمرنا بإقامة الحد على شخص في الدنيا إما بقتل أو جلد أو غير ذلك، ويكون في الآخرة غير معذب) إلى قوله (وكذلك نعلم أن خلقًا لا يعاقبون في الدنيا مع أنهم كفار في الآخرة مثل أهل الذمة المقرين بالجزية على كفرهم ومثل المنافقين المظهرين الإسلام فإنهم تجري عليهم أحكام الإسلام وهم في الآخرة كافرون كما دل عليه القرآن في آيات متعددة) إلى قوله (وهذا لأن الجزاء في الحقيقة إنما هو في الدار الآخرة التي هي دار الثواب والعقاب، وأما الدنيا فإنما يشرع فيها من العقاب ما يدفع به الظلم والعدوان» أ.هـ.
وقوله (ويكون في الآخرة غير معذب) لأن إقامة الحد الشرعي على مرتكب الكبائر الحدية تكفر ذنبه وتسقط عنه التبعة في الآخرة لقول النبي صلى الله عليه وسلم (فمن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به فهو كفارة له) الحديث متفق عليه عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
وطواف المشركين بالكعبة وهم عرايا يتعبدون بذلك تجده في تفسير ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا…) (الأعراف:28)، وفي تفسيره لأول سورة التوبة.
*
نص الحلقة السابعة من الكتاب:
ثامنا: نهي من دخل بلاد الأجانب بإذنهم عن الغدر بهم «وهي مسألة العمليات الجهادية من داخل دار الحرب»
كان جهاد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم للكفار غزوا من الخارج عند الاستطاعة، بمواجهة جيش المسلمين لجيش الكفار، ولم يرسلوا أحدًا من المسلمين للقيام بعمليات جهادية داخل بلاد فارس أو الروم أو مكة قبل فتحها فيما نعلمه، وما يفعله بعض المسلمين اليوم من القيام بهذه العمليات داخل بلاد الكفار نرى أنه لا يجوز شرعا لسببين:
وجود المسلمين بين الكفار جائز
• السبب الأول: انتشار المسلمين في معظم بلدان العالم في هذا الزمان (كما سبق في البند السابع) يجعل من المحتمل إصابة مسلمين بما يعم إتلافه كالتفجيرات، وقتل المسلم كبيرة من الموبقات والتبين واجب، والشبهة قائمة، فالكف عن ذلك واجب، وقد سبق هذا في البند السابع، وليست دار الحرب اليوم مختصة بالكفار كما كانت الحال قديما، بل المسلمون اليوم في كل هذه البلدان سواء من سكانها الأصليين أو مـن الوافـدين إليـها. ووجــود المسلمين بين الكفار أمر جائز كما قال تعالى: «… فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ…» (النساء:92)، وقال تعالى: «إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَال وَالنِّسَاء وَالْولْدَان لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً» (النساء:98)، وقد يكون المسلمون بين الكفار مجهولين لنا غير متميزين كما قال تعالى: «… وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً» (الفتح:25).. ولا يجوز قتل المسلمين المختلطين بالكفار بدعوى «التترس» لأن قتل الترس المسلم ليس في إجازته نص وإنما هو اجتهاد ولا يجوز إلا للضرورة ضمن القاعدة العامة: «… وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُررْتُمْ إِلَيْهِ…» (الأنعام:119)، ولا ضرورة لذلك في هذه العمليات الحربية داخل بلاد الكفار، لأنها من العمليات الهجومية (جهاد الطلب) الذي لا ضرر على المسلمين من تركه أو تأجيله، ومن أجاز قتل الترس المسلم من الفقهاء إنما أجازه في جهاد الدفع وللضرورة عند الخوف على المسلمين إذا توقفوا عن قتل الترس المسلم قتلهم الكفار وقتلوه ولا يمكن للمسلمين قتال الكفار المهاجمين إلا بقتل من يحتمون به من المسلمين (الترس المسلم) جاز قتله في هذه الحال عملاً بقاعدة «يرتكب أخف الضررين» وليست هذا هي الحال في العمليات داخل بلاد الكفار، فلا يجوز الإقدام عليها لاحتمال سقوط قتلى من المسلمين المخالطين لهم.. وهناك فرق مهم بين هذه العمليات اليوم وبين ما أجازه بعض الفقهاء من قتل الترس المسلم، وهو أن الصورة التي أجازها الفقهاء هي صورة جيش للكفار وضع في مقدمته أسرى من المسلمين ليتحرج جيش المسلمين من قتلهم فيحتمي الكفار بهم كدروع بشرية لأن «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه» رواه مسلم، أما ما يحدث اليوم فهو أن المسلمين المختلطين بالكفار في بلادهم ليسوا أسرى لديهم بل مواطنون مثلهم أو مقيمون لديهم، وليسوا مع جيش في حرب ليحتاطوا لأنفسهم بالفرار من ميدان القتال، بل إنهم يقتلون على حين غرة ومن دون سابق إنذار من جهة المهاجمين. فليست هذه هي الصورة التي أجاز فيها بعض الفقهاء قتل الترس المسلم، ومن أجازه منهم قيد ذلك بأن تكون هناك (ضرورة قطعية كلية) لأنه اجتهاد بإباحة دماء معصومة في مقابلة النص الشرعي المحرم لها، ولا بد لتجاوز النص من تحقق الضرورة والاضطرار المذكور في قوله تعالى «… وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ…» (الأنعام:119) ومعنى «ضرورة» أي عند خوف الهلاك على جيش المسلمين أو دار الإسلام، ومعنى «قطعية» أي مؤكدة ليست مظنونة أو متوهمة، ومعنى «كلية» أي ليست خاصة بفرد أو طائفة من المسلمين بل بمجموعهم، يراجع في هذا كتاب «المستصفى ج1» لأبي حامد الغزالي، وكتاب «الإحكام في أصول الأحكام ج3» للآمدي، وهذا ليس هو الحال في تفجير الطائرات والقطارات المدنية والعمارات في بلاد الكفار والتي يخالط فيها المسلمون غيرهم، والتي لا ضرورة تلجئ إلى القيام بها. ومن أجل تعظيم دم المسلم وحرمته على المسلم. قال الإمام القرطبي رحمه الله: «أجمع العلماء على أن الإكراه لا يبيح لمسلم أن يقتل مسلمًا ولا أن يؤذيه بقطع أو ضرب، فكلاهما مسلم ولا يحل له أن يفدي نفسه بأذى أخيه المسلم وليصبر على ما نزل به» هذا حاصل كلامه في تفسيره لآية الإكراه رقم 106 من سورة النحل، وانظر كيف أباح الإكراه الكفر الظاهر ولم يبح قتل المسلم, كلاهما بإجماع العلماء، لأجل تعظيم حرمة المسلم، ومن هنا منع كثير من أهل العلم قتل الترس المسلم في صف الكفار إلا عند الضرورة التي قيدوها بالخوف المحقق على مجموع المسلمين من الاستئصال، وليس لمجرد الحاجة أو المصلحة، ومن العلماء من تشدد في ذلك كالإمام مالك رحمه الله.
حقيقة عقد الأمان عصمة الدم والمال
• السبب الثاني: أن من دخل بلاد الكفار بأمانهم لا يحل له أن يخونهم في شيء، والتأشيرة اليوم هي إذن دخول وهي بلا شك عقد أمان منهم لمن أذنوا له بدخول بلادهم لعمل أو تجارة أو دراسة أو سياحة ونحوها، لأن حقيقة عقد الأمان عصمة الدم والمال، والمسلم إذا دخل بلاد الكفار اليوم فإنهم يحترمون دمه وماله وإذا اعتدى عليه أحد يهتمون بذلك ويحاكمون من اعتدى عليه ويعوضونه، فليس هو مهدرًا عندهم، فيجب على هذا المسلم الوفاء لهم لقوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ …» (المائدة:1)، حتى قال محمد بن الحسن الشيباني في كتابه «السير الكبير» «إن المسلم إذا زور خطهم ودخل به بلاد الكفار وصدقوه، وجب عليه الوفاء لهم» هذا حاصل كلامه، (وتزوير خطهم) هو ما يسمى اليوم بالتأشيرة المزورة، ومحمد بن الحسن من أصحاب أبي حنيفة ومن تلاميذ الإمام مالك رحمهم الله، والكفار ما أعطوه الأمان وسمحوا له بدخول بلادهم لكي يخونهم بل على أن يؤمنهم فيجب عليه ذلك وإن لم يشترطوه عليه صراحة لأنه مفهوم، وتنص القاعدة الفقهية على أن «المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا» فإن خانهم فقد ارتكب كبيرة يفسق بها للوعيد الوارد في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من ظلم معاهدًا أو ذميًا لم يجد رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا»، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «لكل غادر لواء يوم القيامة، يقال: هذه غدرة فلان» متفق عليه.
ومن خيانتهم والغدر بهم الاعتداء على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وتفجير طائراتهم وقطاراتهم وعمائرهم وفنادقهم ونحو ذلك، ولا يدخل هذا في حديث (الحرب خدعة) متفق عليه، لأن خداع العدو لا يحل إن كان غدرًا، وهذا غدر ونقض لعقد الأمان (التأشيرة) فلا يجوز، وفي الحديث الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم «إنا لا يصلح في ديننا الغدر» الحديث متفق عليه. وجعل النبي صلى الله عليه وسلم من علامات المنافق أنه «إذا عاهد غدر» متفق عليه، وأنه «إذا اؤتمن خان» متفق عليه. وفي هذا قال ابن قدامة رحمه الله في أبواب الجهاد من كتابه «المغني ج9» «لا يجوز للمسلم أن يخون أهل دار الحرب إذا دخل ديارهم بأمان منهم لأن خيانتهم محرمة، ولا يصلح في دين الله الغدر» وقال في موضع آخر «الأمان إذا أعطي أهل الحرب حرم قتلهم ومالهم والتعرض لهم» أ.هـ. وكلامه هذا لا نعلم فيه خلافًا بين العلماء.
الغدر نفاق ومن الكبائر
وبهذا تعلم أن ما يقوم به بعض المسلمين في البلاد الأجنبية اليوم من التفجيرات والقتل وإتلاف الممتلكات العامة والخاصة، والاحتيال للاستيلاء على أموالهم، والاحتيال على شركات التأمين، والهروب من المساكن قبل دفع الإيجارات وتسديد فواتير التلفون وغيره، بحجة أنهم كفار، تعلم أن هذا كله حرام ولا يجوز شرعًا وهو غدر، والغدر نفاق ومن الكبائر ومرتكب الكبيرة إن مات بلا توبة يخشى عليه من عذاب النار يوم القيامة إلا إن شاء الله تعالى أن يغفر له، وهذا من علم الغيب قال تعالى: «إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ..» (النساء:116).
ونحن نرى أن هذا كله حرام وننهى جميع المسلمين عنه، ويجب أن يتنزه المسلم عن هذه المحرمات من الغدر والفتك والخيانة.. وقديمًا أسلم كثير من الكفار بعدما خالطوا المسلمين ورأوا ما هم عليه من مكارم الأخلاق من العدل والإنصاف والوفاء وعفة اليد واللسان، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له» حديث صحيح رواه أحمد وابن حبان عن أنس رضي الله عنه.
«نهانا الله عن العدوان في كل شؤوننا»
وإذا كانت بعض الدول الكافرة تعتدي على بعض بلاد المسلمين وتقتل بلا تمييز، فإن هذا لا يبيح لنا الرد بالمثل، لأن الله سبحانه قد أخبرنا بأن الكفار دأبهم العدوان في قوله تعالى: «لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ» (التوبة:10)، ومـع ذلـك نهانـا سبحانه عن العدوان في كل شؤوننا ومنها حال الجهاد والقتال فقال تعالى «وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ «(البقرة:190)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك» رواه الترمذي وأبو دواد وحسنه عن أبي هريرة رضي الله عنه. فالعدوان والخيانة ليسا من الأمور التي تجوز المعاملة فيها بالمثل، بل إن هذه النصوص الصريحة تمنع من ذلك. ومن العدوان المنهي عنه مع الأعداء: قتل من لا يجوز قتله منهم والغدر ونقض العهود وتخريب العمران لغير ضرورة الجهاد، ولهذا فقد سبق القول: إن القاعدة في معاملة أهل الحرب هي المعاملة بالمثل إلا في ما لا يجوز شرعًا، فالمعاملة بالمثل ليست على إطلاقها بلا ضوابط. وقد حذرنا الله من متابعة سبيلهم في العدوان وغيره فقال سبحانه «وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ» (الأنعام:55)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموهم» قالوا: اليهود والنصارى؟ قال صلى الله عليه وسلم «فمن؟» متفق عليه عن أبي سعيد رضي الله عنه، يحذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من متابعتهم في المعاصي مع إخباره لنا أن هذا كائن في هذه الأمة، ويجب أن يتنزه المسلمون عن الحرب اللاأخلاقية وإن فعلها العدو. وإنما نهى الله عن العدوان حتى في حال الجهاد والقتال (مع ما فيه من إتلاف النفوس والأموال) وذلك من أجل إخراج حظ النفس من العمل ليكون خالصًا لوجه الله تعالى: فيكون جهاده لله لا للانتقام الشخصي ولا للسلب والنهب والتفاخر وغيرها من حظوظ النفس المذكورة في حديث أبي موسى رضي الله عنه: الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل للمغنم وليُرى مكانه، فمن في سبيل الله؟، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «من قاتل لتكون كلمة الله هي العـليا فهو في سبيل الله» الحديث متفق عليه. وقيد الله هذا كله بعدم العدوان بقوله تعالى «وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ..» (البقرة:190).
قتل المدنيين في بلاد الكفار
ويرى البعض جواز قتل المدنيين (غير المقاتلين من الكفار) في بلاد الكفار لجواز قتل الترس الكافـر (الدروع البشرية) إذا دعت الحاجة إلى ذلك مستدلاً بحديث الصعب بن جثامة رضي الله عنه وفيه سأل أنهم يُبيتون (أي يقاتلون في الليل) المشركين فيصيبون من ذراريهم (نسائهم وعيالهم) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هم منهم» الحديث متفق عليه، وهذا فهم خطأ، فمن دخل بلادهم بأمانهم لا يجوز له الغدر ولا يجوز له قتل العسكريين ولا المدنيين منهم، وهو لا يمكنه القطع بكفر هؤلاء المدنيين كلهم، ولو فرضنا أن المسلم ليس بينه وبينهم عهد ولا أمان، ولو فرضنا أنه يقطع بكفر المدنيين منهم، فقتل هؤلاء المدنيين في الطائرات والقطارات المدنية وفي العمائر والفنادق ليست هي الصورة المشروعة لجواز قتل الترس الكافر، لأن هذه الأماكن ليست منشآت عسكرية يقتل فيها المدنيون الكفار بالتبعية كما يبيحه التترس، وإنما هذه منشآت مدنية تفجيرها يعني تعمد قتل المدنيين مباشرة، وليس هذا من التترس في شيء، فلا يجوز تعمد قتل هؤلاء، ويكفيك قول الله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ..» (المائدة:1)، ويكفيك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنا لا يصلح في ديننا الغدر» فمن دخل بلاد الكفار بإذنهم (تأشيرتهم ولو من المطار) لا يحل له أبدا أن يغدر بهم ولا أن يعتدي عليهم بأي شكل فإن خالف في هذا فقد ارتكب كبيرة يفسق بها. ولا يجوز الاحتجاج في هذا المقام بقوله تعالى: «… وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ..»(التوبة:120)، لأن إغاظة الأعداء وإن كانت مطلوبة إلا أنها مقيدة بعدم الغدر والإثم والعدوان، وقد سبق أن النهي الخاص مقدم على الإذن العام في البند السادس. ويستوي في ذلك حالتا الحرب والسلم، فالمسلم منهي عن الغدر والإثم والعدوان في كل أحواله، بل ينبغي أن يكون المجاهد في سبيل الله من أحرص الناس على البعد عن هذه المعاصي لأن اقترافها من أسباب الخذلان والهزيمة. وقد روى البخاري رحمه الله في كتاب الجهاد من صحيحه عن أبي الدرداء قوله «أيها الناس عمل «صالح» قبل الغزوة، فإنما تقاتلون بأعمالكم» أ.هـ. وعند خروج سعد بن أبي وقاص لغزو بلاد فارس أوصاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: (أما بعد، فإني أوصيك ومن معك بتقوى الله – إلى أن قال – ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا إن عدونا شر منا فلن يُسلط علينا، فرب قوم قد سُلط عليهم من هم شر منهم، كما سلط الله كفار المجوس على بني إسرائيل لما عملوا بمساخط الله «فجاسوا خلال الديار وكان وعدًا مفعولاً») أورده ابن عبد ربه الأندلسي في كتاب الحروب في كتابه (العقد الفريد).
وفي آخر هذا البند يلزم التنبيه على أن القول «بأن من دخل بلاد الكفار بإذنهم ولو بتأشيرة مزورة هو عقد أمان شرعي صحيح يجب على المسلم احترامه كما فصلته» ليس هذا قولاجديدا لي، وإنما قد ذكرته من قبل منذ نحو أربعة عشر عامًا في كتابي (الجامع في طلب العلم الشريف) الذي كتبته عام 1413هـ/1993م.
*
نص الحلقة الثامنة:
بقيت كلمة أخرى وهي أن أهل الدين الذين يبتغون وجه الله لا يغدرون، وأن الغدر من العلامات الفارقة بين أهل الإيمان وبين أهل النفاق «وإذا عاهد غدر». كما أن الغدر من العلامات الفارقة بين طلاب الدين وبين طلاب الدنيا. وعن هذه الخصلة سأل هرقل عن النبي صلى الله عليه وسلم. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية أرسل إلى ملوك الآفاق يدعوهم إلى الإسلام ولما بلغت رسالته على هرقل عظيم الروم -وكان أيضًا من علماء النصارى- طلب من جنوده أن يبحثوا بالشام عن أناس من قوم النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءوه بأبي سفيان ولم يكن قد أسلم بعد وكان في تجارة بالشام. فسأله هرقل عن النبي صلى الله عليه وسلم «هل يغدر» قال أبو سفيان «لا» فقال هرقل «وكذلك الرسل لا تغدر» ضمن أسئلة أخرى حتى قال هرقل «ولقد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أعلم أنه منكم» الحديث بطوله متفق عليه. فلا ينبغي لمسلم أن يفرح بأعمال الغدر لأنها من المعايب وليست من المفاخر.
عمليات حربية
وبقيت كلمة أخيرة في هذا البند، وهي للمسلمين المقيمين بالبلاد الأجنبية والذين يُقدم بعضهم على إلحاق الأذى بهذه البلاد وبأهلها. فبالإضافة إلى ما ذكرته في هذا البند من الموانع التي تحول دون تنفيذ عمليات حربية بهذه البلاد، فإنني أقول: إنه ليس من المروءة أن تنزل بقومٍ ولو كانوا كافرين غير معاهدين يأذنون لك في دخول دارهم والإقامة بها ويؤمنونك على نفسك ومالك ويمنحونك فرصة العمل أو التعليم لديهم أو يمنحونك حق اللجوء السياسي مع الحياة الكريمة لديهم ونحو ذلك من أعمال المعروف ثم تغدر بهم تقتيلاً وتخريبًا. لم يكن هذا من خُلق النبي صلى الله عليه وسلم ولا من سيرته، وقد قال الله تعالى «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ…» (الأحزاب:21)، لقد كان خُلق النبي صلى الله عليه وسلم شكر الناس وَرَدّ الجميل لكل من أسدى إليه معروفًا، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في فِكاك أسرى بدر من المشركين «لو كان المُطعم بن عدي حيًا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له» رواه البخاري، وكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاة عمه أبي طالب الذي كان يحميه قد خرج إلى أهل الطائف يدعوهم إلى الإسلام وإلى نصرته فامتنعوا، فلما قفل راجعًا خشي على نفسه من أهل مكة وطلب من المُطعم أن يدخلها في جواره فأجاره، فحفظ له النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعروف، ثم مات المُطعـم كافـرًا قبل غزوة بدر. وبعد الهجرة وتشريع الجهاد خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم في سفر، وفقدوا الماء، فاستوقفوا امرأة مشركة وأخذوا ماء من مزادتها (القربة الكبيرة) وجرى حينئذ من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم في فيضان الماء ما جرى، ثم جمعوا لها من التمر والسويق، وكانوا بعد ذلك يقاتلون القبائل حول قبيلتها ويتركون قبيلتها حفظًا لمعروفها معهم، حتى أسلم قومها طواعية، والحديث بطوله رواه البخاري.
تحريف الكلم
هكذا كانت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع من أسدى إليه معروفًا من المشركين. فلا تصدق الذين يحرضونك على خلاف ذلك فإنهم ليسوا من أهل الفقه في الدين، ولا تغتر في استدلالهم بآية أو حديث فإنهم «يحرفون الكلم عن مواضعه» ويستدلون بها على غير وجهها الصحيح، وإنما هم يدعُون إلى الباطل بأدلة من الحق، وقد قال شيخ الإسلام: إن الباطل لا يروج على الناس إلا بخلطه بشيء من الحق، ومن هنا سُميت الشبهة شبهة لأنها باطل يشبه الحق بما داخلها من الحق، هذا حاصل كلامه، وهذا مثل حديث الكهان الذين يخلطون كلمة صادقة بمئة كذبة. فأقول للمقيمين بالبلاد الأجنبية ولجميع المسلمين احذروا هؤلاء الجهَّال واحترسوا من أبطال الإنترنت وزعماء الميكروفونات الذين أدمنوا إصدار البيانات والذين يُلقون بكم إلى المحرقة ثم يهربون حتى عن نسائهم وعيالهم، فقد ألقوا من قبلكم بالكثيرين إلى المحارق والقبور والسجون وبأموال أجهزة مخابرات، والأسماء موجودة وكذلك المبالغ. وأقول لكل مخدوع بهؤلاء:
ستعلمُ حين ينجلي الغُبار… أَفَرسٌ تحت رِجلك أم حمار
هؤلاء الجهلة الجبناء الذين يُشعلون الحرائق ثم يهربون ويتركون غيرهم يحترق بها. أما جهاد الكفار وَرَدّ عدوانهم فطرقه معروفة في علم الفقه، وليس منها الغدر ونقض العهود، ويكفيك قول النبي صلى الله عليه وسلم للمغيرة «إنا لا يصلح في ديننا الغدر»، ولم يقبل منه مال غدرته، والحديث بطوله في البخاري وهو حديث الحديبية.
تاسعًا: النهي عن قتل المدنيين في بلاد المسلمين
الصدام مع السلطات
سبق في البند السادس من هذه الوثيقة أننا نرى أنه لا يجوز الصدام مع السلطات الحاكمة في بلاد المسلمين من أجل تحكيم الشريعة، ولا يجوز التعرض لقوات هذه الحكومات بالأذى للأسباب المذكورة في البند السادس.
وقد عجز البعض عن الصدام مع هذه السلطات فلجأ إلى إزعاجها بارتكاب ما لا يحل له من قتل عامة الناس (المدنيين) لأنهم أهداف سهلة لا حراسة لهم ولا هم مسلحون، وأحيانا يبتلي الله سبحانه عباده بتسهيل المعصية ليختبر صدق إيمانهم وخشيتهم له، كابتلائه المحرم بالحج أو العمرة بتسهيل الصيد وهو منهي عنه كما قال سبحانه «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ…» (المائدة:94، 95)، وكما ابتلى يوسف عليه السلام بتسهيل فعل الفاحشة، وكما ابتلى أصحاب القرية التي كانت حاضرة البحر من اليهود بتسهيل الصيد يوم السبت وقد نهاهم عنه حسب ما ورد بسورة الأعراف، ومن هذا يدرك المسلم أن سهولة فعل شيء ما لا تجيز فعله حتى يعلم حكم الله فيه. ومن هذا الباب قتل المدنيين لأنهم أهداف سهلة. والذي يمنع نفسه من المعصية مع سهولتها وقدرته على ارتكابها هو كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الذين قال الله فيهم «… أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ» (الحجرات:3)، ذكره ابن كثير في تفسيره.
الفسق والمعاصي
ولا شك في أن الفسق والمعاصي لا تخرج فاعلها من الإسلام، كما أن السكوت عن المنكرات أو الكفر ليس دليل الرضا ويبني على ذلك «أن الرضا بالكفر كفر» أو أنه «من لم يكفَّر الكافر فهو كافر» فيكفر جمهور الناس، وهذا غير صحيح لجواز الإنكار بالقلب، ولأن المستضعف لا يجب عليه الإنكار باليد ولا باللسان إن خشي على نفسه، بل له رخصة في التقية عند الخوف، ومن هنا كانت القاعدة الفقهية «لا ينسب إلى ساكت قول» إلا ما استثنى الشارع مثل سكوت الفتاة البكر دليل موافقتها على الزواج، فلا يجوز الحكم على الناس بناءً على سكوتهم ولا على اقترافهم بعض المنكرات. وقد أثبت الله الإيمان لمن يكتم إيمانه ويتخفى بدينه واعتقاده فكيف ينسب للساكت قول أو حكـم؟ قال تعالى «وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ…» (غافر:28)، كما حكم النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان لمن أنكر المنكر بقلبه وإن لم ينكره بلسانه ولا بيده أي أنه ساكت لم ينطق بشيء ولم يُكفِّر الكافر ولا أنكر المنكر فكيف يُسلب عن هذا حكم الإيمان بعدما أثبته له رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. قال النبي صلى الله عليه وسلم «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يســتطع فبـلسانه، فـإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» رواه مسلم عن أبي سعيد رضي الله عنه ، وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا قال النبي صلى الله عليه وسلم «ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن» رواه مسلم أيضًا، وليس لمسلم قول بعد قول النبي صلى الله عليه وسلم، وإنكار القلب يكون بكراهيته للمنكر وباجتنابه كما في الحديث «فمن كره فقد برئ» رواه مسلم.
«مستور الحال»
والناس فيهم «مستور الحال» وهو من كان ظاهره الإسلام ولم يظهر منه ما ينقض إسلامه، فهذا معصوم الدم والمال قطعًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم «كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه» رواه مسلم، وتعمد قتله من أعظم الكبائر كما سبق، وقتله فيه حقوق دنيوية وعقوبات أخروية. وتصح الصلاة خلف مستور الحال وتؤكل ذبيحته من دون اشتراط تبين حاله أو اختبار عقيدته. فكل من ظهرت منه شعائر الإسلام ولم يظهر منه ما ينقض إسلامه لا يجوز التوقف في إثبات حكم الإسلام له لقوله تعالى «… وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً…» (النساء:94)، ولحديث أسامة بن زيد في ذلك، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم «من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم» رواه البخاري، فالتوقف في إثبات الإسلام لمن أظهر شعائره فيه مخالفة صريحة لنصوص الكتاب والسنة. وقد قال الله تعالى «..خُذِ الْعَفْوَ …» (الأعراف:199)، و«العفو» هو ما ظهر من أمور الناس ولا يفتش عن بواطنهم، ولهذا ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس» متفق عليه. وإجراء أحكام الناس على ما ظهر منهم من قواعد هذا الدين المتينة كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه «إن ناسًا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرًا أمناه وقربناه وليس لنا من سريرته شيء، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سوءًا لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة» رواه البخاري. وإنما يجوز التبين أو يجب في مستور الحال في مواضع منها قوله تعالى «… إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ…» (الممتحنة:10)، ومنها الأمور التي يشترط لها مرتبة أعلى من الإسلام الظاهر وهي مرتبة العدالة في ما يشترط له العدالة: كالشهود وتقليد الولايات والمناصب وفي الزواج لقوله تعالى «…وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ …» (الطلاق:2)، وقوله تعالى «… يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ …» (المائدة:95)، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم «من زوّج ابنته من فاسق فقد قطع رحمها»، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه» حديث حسن رواه الترمذي، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لشاهد «إني لا أعرفك، فأتني بمن يعرفك» ذكره ابن ضويان في «منار السبيل»، والعدالة هي «المحافظة على الفرائض والمداومة عليها مع اجتناب الكبائر وترك ما يخل بالمروءة»، ولها تعريفات أخرى تجدها بأبواب الشهادات بكتب الفقه وجمع بعضها الشوكاني رحمه الله في كتابه «إرشاد الفحول». وتعرف عدالة المسلم بمراقبة أحواله وبسؤال المسلمين العدول عنه كما في قول عمر السابق (فأتني بمن يعرفك) لقوله تعالى «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ…» (البقرة:143)، ولما أثنى المسلمون على ميت قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم «وجبت.. أنتم شهداء الله في الأرض» الحديث متفق عليه. هذا بعض ما يتعلق بمستور الحال.
«مجهول الحال»
والناس فيهم «مجهول الحال» وهو من لم يظهر منه ما يدل على إسلامه أو كفره، وهذا حال كثير من الناس، وهذا من مواضع التبين الواجب، فيجب الكف عنه ولا يتعرض له المسلم بأذى، ولا يجب تبين حاله إلا في المعاملات التي يشترط فيها معرفة الديانة أو العدالة كما سبق في مستور الحال.. وقديمًا كان يحكم لمجهول الحال في دار الإسلام بالإسلام ومن هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم «تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» رواه البخاري، لأنه لا يجوز ابتداء غير المسلم بالسلام، وإنما كان يحكم لمجهول الحال بالإسلام لأسباب منها:
1) التميز في الهدى الظاهر (المظهر) بين المسلمين وبين غيرهم، إذ كان يجري إلزام أهل الذمة بلبس الغيار (الثياب المغايرة للبس المسلمين).
2) إقامة حد الردة على من ينقض إسلامه من المسلمين.
ومع غياب هذين الأمرين لا يمكن القطع بالإسلام لمجهول الحال الذي لم يظهر منه شيء من علامات الإسلام أو الكفر. وذهب البعض إلى إجراء حكم الدار على ساكنيها، ورتب على هذا أن مجهول الحال بدار الكفر كافر، وهذا خطأ إذ قد أجاز الله كتمان الإيمان للمستضعف بدار الكفر، وأكد سبحانه ذلك بقوله تعالى «… وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَؤُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ…» (الفتح:25). وقد كانت مكة دار كفر حتى فتحها عام 8هـ، وكان يسكنها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قبل الهجرة وبقى فيها المستضعفون بعد الهجرة، وهم مؤمنون ولم يجر على أحد منهم حكم الدار. وكذلك قال ابن تيمية رحمه الله في بلدة «ماردين» أنه يعامل فيها المسلم بما يستحقه والكافر بما يستحقه. ولم يقل أحد من العلماء أن حكم الدار يلحق ساكنيها إلا في مسائل محدودة يتعذر فيها تبين حال الإنسان مثل اللقيط والميت المجهول، وحتى هؤلاء فيهما خلاف، أشار إلى ذلك ابن قدامة في «المغني» وابن القيم في «أحكام أهل الذمة» وابن رجب الحنبلي في «القواعد»، والصحيح أن مجهول الحال لا يقطع له بحكم حتى يتبين حـاله لقـوله تعالى «وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ…» (الإسراء:36)، وقال تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ…» (النساء:94).
التبين درجتان
1) تبين الإسلام: في ما يشترط فيه الإسلام من المعاملات.
2) تبين العدالة: في المعاملات التي تشترط لها العدالة.
وقد سبق هذا في «مستور الحال»، وأعود فأقول إن المدنيين في بلدان المسلمين اليوم هم خليط من أصناف شتى وقد سبق في البند السابع بيان أنه «إذا اختلط المباح بالحرام غلب حكم الحرام».
فكيف يجوز مهاجمة هؤلاء بما يعم إتلافه (التفجيرات) وما الداعي لذلك شرعًا؟ ولو افترضـنا وجـود الداعـي فكـيف يجوز مهاجمة مجهولي الحال بدون تبين وقد قال الله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً» (النساء:94)، وقد ذكر الله سبحانه هذه الآية بعدما ذكر الوعيد لمن قتل مؤمنًا متعمدًا في الآية السابقة عليها، وكرر في هذه الآية الأمر بالتبين لتأكيد وجوبه، وحذر من الإقدام على قتل مجهولي الحال لتحصيل الأغراض الدنيوية، ونبه عباده أنهم كانوا على هذه الصفة من قبل (كذلك كنتم من قبل) ليكون هذا زاجرًا لهم عن التسرع في التعرض للناس وسفك دمائهم. ولا أظن أن التعرض لعامة الناس في بلدان المسلمين اليوم من الجهاد في سبيل الله في شيء مثل ما حدث من تفجير الفنادق والعمارات ووسائل النقل، هذا كله لا يجوز ولو بدعوى جواز قتل الترس المسلم أو الكافر، وقد سبق بحث مسألة التترس في البند الثامن من هذه الوثيقة. فلا يجوز قتل المدنيين في بلاد المسلمين وفيهم المسلم وغير المسلم وفيهم مستور الحال ومجهول الحال، وقتلهم بالجملة في التفجيرات ونحوها متردد بين الحرام القطعي وبين الشبهة وفي الحديث الصحيح «ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام» وإذا اختلط الحرام بالحلال يحرم الكل، ولا يوجد أي مبرر شرعي للتعرض لهم أصلاً وننهي عن ذلك أنفسنا وجميع المسلمين أشد النهي، والمنكرات التي يرتكبها بعض الناس ليست عقوبتها الشرعية القتل والتفجير، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التعرض للناس بلا تمييز، وتوعد فاعل ذلك بأنه ليس من النبي صلى الله عليه وسلم وهذه الصيغة من علامات الكبائر، فقال صلى الله عليه وسلم «من خرج من أمتي على أمتي يضرب برها وفاجرها، لا يتحاشى مؤمنها، ولا يفي بذي عهدها فليس مني» رواه أحمد ومسلم، وهذه هي العشوائية في أذية الناس.
اختلاف المذهب
أما يكفي للمسلم زاجرا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح «لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما» رواه البخاري.
وأما يكفي للمسلم زاجرا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح «إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وقذف هذا وضرب هذا، فيعطي هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار» رواه مسلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم «اجتنبوا السبع الموبقات – وذكر منها – قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق» الحديث متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم «أول ما يقضي بين الناس يوم القيامة في الدماء» متفق عليه.
ولا يجوز التعرض للمنتسبين إلى الإسلام بسبب اختلاف المذهب، فقد ظهرت في زماننا هذا كثير من البدع مثل: القتل على الجنسية، والقتل على المظهر، والقتل على الهوية، والقتل على الأسماء، والقتل على المذهب، ومنه قتل الشيعة، وهم فرقة من المسلمين منذ القرن الأول الهجري، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه «منهاج السنة النبوية» أنه لم يقل أحد من علماء السلف بتكفير الشيعة في الجملة، هذا حاصل كلامه، والمسلم معصوم الدم والمال ,إن خالف في المذهب.
ولا يجوز لمسلم أن يعين على شيء من العدوان، فمن أعان فهو شريك في الإثم قال الله تعالى «… وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ…» (المائدة:2).
نص الحلقة التاسعة من الكتاب:
تنبيه على ما ورد في البنود السابع والثامن والتاسع:
عدم جواز الفرح أو التفاخر بالمعاصي:
قد تبين من البنود السابقة أن ضرب الأجانب والسياح في بلادنا وأن العمليات القتالية داخل دار الحرب (بلاد الأجانب)، وكذلك قتل المدنيين بالصور التي شاعت في السنوات الأخيرة، من المعاصي المحرمة التي اشتملت على سفك الدماء وإتلاف الأموال المحرمة كما اشتملت على الغدر والعدوان، وكل هذه من كبائر الذنوب التي لا يجوز لمسلم أن يفرح أو يفتخر بها لقول النبي صلى الله عليه وسلم «من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن» حديث صحيح رواه الطبراني في الكبير عن أبي موسى رضي الله عنه. وقد حملت الرغبة في التشفي من أعداء الإسلام بعض المسلمين على الفرح والسرور بهذه المعاصي المذكورة، وهذا من الجهل بالدين ومن نقص الإيمان، لأن من سرته السيئة فليس بمؤمن. ليس هذا فحسب بل ان من رضي بهذه المعاصي كان عليه مثل ذنب فاعلها لقول النبي صلى الله عليه وسلم «إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها» حديث حسن رواه أبو داود.
التفاخر بالمعاصي
كما لا ينبغي التفاخر بهذه المعاصي وأعمال الغدر لأن هذا من المجاهرة بالمعاصي التي تبعد فاعلها عن دائرة عفو الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «كل أمتي معافى إلا المجاهرين» متفق عليه، فهذه المعاصي ينبغي الاستغفار منها ولأهلها، لا الفرح أو التفاخر بها فلا فخر بأعمال الغدر ولا فخر بغزوات الغدر وإن ظنها الجُهال بطولات.
عاشراً: من ضوابط التكفير في الشريعة
من المناسب التنبيه على هذه المسألة بعد الكلام في مستور الحال ومجهول الحال في البند السابق، خصوصا قد كثر الاتهام بالتكفير في هذا الزمان. فأقول وبالله تعالى التوفيق:
التكفير، بضوابطه الشرعية، حكم شرعي ليس بدعة ولا فكراً ولا تهمة، ورد في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ينبغي الاستخفاف به لأن الاستخفاف بالأحكام الشرعية كفر، كما قال تعالى «… قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ…» (التوبة: 65، 66). وبعيدا عن التقسيمات البشرية على أساس البلدان أو الأجناس أو الألوان أو اللغات، فإن الله سبحانه لم يقسم خلقه إلا إلى قسمين كما قال تعالى «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» (التغابن:2). وكثير من الأحكام الشرعية في الدنيا كما أن جميع أحكام الآخرة من الوعد والوعيد مبنية على هذا التقسيم الإلهي للخلق إلى مؤمن وكافر، والكفار قسمان:
1) الكافر الأصلي: وهـو من لم يكن مسـلماً من قبل، كالمذكورين في قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ» (البينة:6).
2) المرتد: وهو من ثبت له حكم الإسلام من قبل فنقض إسلامه بكفر، ويسمى كفره بالكفر الطارئ. وهذا جائز الحدوث كما قال تعالى «لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ …» (التوبة:66)، وقال تعالى «يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ …» (التوبة: 74)، وقال تعالى «…وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» (البقرة:217).
أحكام الكفار والمرتدين
وأحكام الكفار الأصليين مذكورة في أبواب الجهاد من كتب الفقه، كما أن أحكام المرتدين مذكورة في أبواب الردة من كتب الفقه، ولا يخلو كتاب من كتب الفقه من ذلك مهما كان مختصرا، والردة ليست تاريخا مضى وانتهى بمقتل مسيلمة وتوبة سجاح، وإنما هي جائزة الوقوع في أي زمان حتى ان العلماء قد ذكروها ضمن نواقض الوضوء والصلاة والصيام وغيرها من الأعمال، فيجب على كل مسلم أن يتعلم ما نواقض الإسلام؟ إذ إن الكفر والردة يفسدان دين المسلم وكل عباداته وإن كان يؤديها كما قال تعالى «… لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ» (الزمر:65). والتوبة واجبة وجائزة من هذا كله كما قال تعالى «قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ…» (الأنفال:38)، أما قول الله تعالى: «إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ…» (النساء:116)، فهذا فيمن مات كافرا بلا توبة صحيحة في الدنيا.
فالإسلام والإيمان ليس من الصفات الثابتة الأبدية للإنسان كلون بشرته، وإنما هي من المتغيرات إن لم يحافظ المسلم عليها ذهبت كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: (الإيمان كثوب أحدكم يلبسه تارة وينزعه تارة) رواه ابن أبي شيبة في كتابه (الإيمان)، وكذلك شبه الله الدين بالثوب في قوله تعالى «… وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ …» (الأعراف:26)، وكذلك أيضا شبهه رسول الله في قوله صلى الله عليه وسلم «رأيت الناس وعليهم قمص- إلى أن قالوا- فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين» الحديث في البخاري… ومن هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم «بادروا بالأعمال الصالحة، فتنا كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا» رواه مسلم.
ضوابط التكفير
وإذا كان التكفير حكما شرعيا فإن له ضوابط يجب الالتزام بها حتى لا يتهم أحد بالكفر بغير حق، وحتى لا يتصدى لذلك من ليست لديه الأهلية الشرعية، ومما أذكره في ذلك بإيجاز:
1) النظر في فعل المكلف: والمكلف هو البالغ العاقل، فلا اعتبار لما يصدر عن الصبي، ومنه القاعدة الفقهية (عمد الصبي خطأ) ولا اعتبار لما يصدر عن المجنون أو المعتوه، ولحديث (رفع القلم عن ثلاث)، وفعل المكلف (من قول أو عمل) الذي يوقعه في الكفر قد يكون صريح الدلالة على الكفر (وهو ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً) أو محتمل الدلالة على الكفر، ولا تكفير بمحتمل الدلالة إلا بعد تبين قصد فاعله، وهذا كالصريح والكناية من ألفاظ الطلاق والقذف وغيرها. وقد بوب البخاري رحمه الله لهذه المسألة في كتاب الصلاة من صحيحه في باب (من صلى إلى قبر أو تنور أو شيء مما عبد من دون الله فأراد الله)، كما بوب لها القاضي عياض رحمه الله في كتابه (الشفا في بيان حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم في باب (ما جاء في إكفار المتأولين)، فلا يجوز إلزام أحد بلوازم عمله (قوله أو فعله) لأن لازم مذهب الإنسان ليس بمذهب إلا أن يلتزمه صراحة كما حققه ابن تيمية في (مجموع الفتاوى ج 20).
2) النظر في النص القاضي بكفر من فعل هذا الفعل: هل النص صريح في الكفر الأكبر أم محتمل؟. وذلك لأن نصوص الشريعة ذكرت نوعين من الكفر: كفر أكبر يخرج فاعله من الإسلام، وكفر أصغر لا يخرج فاعله من الإسلام، وإنما هي معاصي من كبائر الذنوب سُميت بالكفر من باب التغليظ والزجر عنها.
الكفر الأكبر
ومن ذلك نصوص في نفي الإيمان ليست قطعية في الكفر، فقد يراد بها الكفر الأكبر كما في قوله تعالى في سورة الشعراء «… وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ(8)»، وقد يراد بها الكبائر غير المكفرة كما في أحاديث (والله لا يؤمن…) و(ولا يؤمن أحدكم…) و(ليس منا…) و(ولا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن…) و(ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر…) ونحوها. فكلمة (لا يؤمن) لا تساوي (يكفر) بالضرورة.
ومنها نصوص الوعيد بالنار والعذاب لمن ارتكب أفعالاً معينة لا تعني الكفر بالضرورة، بل قد تعنيه وتعني الكبائر، فقد ذكر الله الشرك والقتل العمد والزنا في سورة الفرقان ثم قال «… وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69) إِلَّا مَن تَابَ…» (الفرقان:68-70)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «يا معشر النساء تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار» متفق عليه. فالوعيد بعذاب النار ليس مرادفا للكفر، بل سيدخل النار أقوام مسلمون بذنوب كبيرة ثم يخرجون منها ويأذن الله لهم بدخول الجنة بما معهم من إيمان صحيح، قال النبي صلى الله عليه وسلم «ليصيبن أقواما من أمتي سفع من جهنم بذنوب أصابوها» رواه البخاري، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من إيمان» الحديث رواه البخاري. وهؤلاء هم عصاة المؤمنين الفساق أصحاب الكبائر الذين ماتوا بلا توبة وليست لهم حسنات موازنة ولم يشأ الله أن يغفر لهم يوم القيامة كما قال تعالى «… وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ…» (النساء:116). أما الكفار فلن يخرجوا من النار أبدا إن ماتوا على الكفر قال الله تعالى «وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ
النَّارِ» (غافر:6)، وقد استدل الخوارج بهذه الآية ونحوها على أن كل من دخل النار فهو كافر، ولهذا كفّروا أصحاب الكبائر المتوعدين بالنار، وليس هذا بصحيح كما سبق بيانه، وفي الأحاديث السابقة رد عليهم، وكذلك الآية الأخيرة، فإن صاحب الشيء يلازمه ولا ينفك عنه وكذلك الكفار هم (أصحاب النار) أما عصاة المؤمنين فدخولهم النار مؤقت ثم يخرجون منها بفضل الله فليسوا هم من (أصحاب النار) وللخوارج استدلالات أخرى فاسدة مذكورة بكتب العقائد بسبب فساد فهمهم للنصوص فصدق فيهم قول النبي صلى الله عليه وسلم «حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الدين» والأحاديث فيهم متفق عليها بل متواترة، ومعنى (حدثاء الأسنان) أي صغار السن، و(سفهاء الأحلام) أي ضعاف العقول، و(لا يجاوز حناجرهم) أي يقرؤون القرآن بغير فهم ولا تدبر يرددونه بحناجرهم ولا يتجاوزها إلى القلوب التي هي محل الفهم، ومن هنا أساءوا الاستدلال بالقرآن والسنة، وهذا مع شدة اجتهادهم في العبادة كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكما وصفهم ابن عباس رضي الله عنهما لما ناظرهم، وخبره معهم ذكره الشاطبي رحمه الله في كتابه (الاعتصام).
التفريق بين الكفر والكبائر
هذا والذنوب التي ورد فيها نفي الإيمان أو وعيد، يتم التفريق بين الكفر وبين الكبائر منها بجمعها مع النصوص الأخرى الواردة في نفس الذنب، هل سلبت فاعله الإيمان بالكلية أم لا؟
ومنها النصوص التي وصفت بعض الأعمال بالكفر، لا تقتضي بالضرورة أنه كفر أكبر مناقص للإسلام. لأن هناك فرقا بين ورود الكفر بصيغة الاسم وبين وروده بصيغة الفعل (وهذا معروف في علم المعاني من علوم البلاغة). كما أن هناك فرقا بين ورود الكفر بصيغة الاسم النكرة وبين وروده بصيغة الاسم المعرفة (وهذا أيضا معروف في علم المعاني، وأشار إليه ابن تيمية في كتابه «اقتضاء الصراط المستقيم»). وهناك فرق بين نصوص الكفر الواردة في القرآن وبين تلك الواردة في السنة (أشار إليه ابن القيم في كتابه «عدة الصابرين»).
3) النظر في حال المكلف: إذا فعل المكلف فعلاً صريح الدلالة على الكفر فإن هناك شروطا وموانع يجب النظر فيها قبل القطع بكفره، فقد لا يكفر بسبب الخطأ أو النسيان أو الإكراه أو الجهل المعتبر ونحوها، وقد يكفر الشخص وتثبت ردته ثم يقوم مانع يحول دون معاقبته، كأن يكون رسولاً من المرتدين، كاللذين أرسلهما مسيلمة الكذاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهما «لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما» رواه أبو داود، ومنه قال ابن القيم في (زاد المعاد) (ومضت السنة أن الرسول لا يقتل ولو كان مرتدا) أ.هـ، وذلك حتى لا تنقطع فرصة المراسلة وما فيها من المصالح.
4) النظر في الاستتابة: بعد القطع بكفر هذا المكلف وانتفاء الأعذار في حقه، فإن له حقا في الاستتابة أي عرض التوبة عليه وكشف أي شبهة لديه والقاعدة (ادرأوا الحدود بالشبهات)، قال النبي صلى الله عليه وسلم «ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة» رواه الترمذي بإسناد فيه ضعف، وذكر الشوكاني في (نيل الأوطار) أنه قد صح موقوفا عن ابن مسعود رضي الله عنه قال (ادرأوا الحدود بالشبهات، ادفعوا القتل عن المسلمين ما استطعتم) ولأبي داود بإسناد صحيح مرفوعا (تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب).
5) النظر في القدرة على معاقبته: وهذه لا تكون إلا مع التمكين لقوله تعالى «الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ…» (الحج:41)، أما المستضعفون فلا يجب عليهم شيء من ذلك. فهناك فرق بين التكفير وبين إنزال العقوبة.
6) النظر في المصلحة والمفسدة المترتبة على معاقبته بعد تحقق القدرة على ذلك: فقد امتنع النبي صلى الله عليه وسلم عن معاقبة عبد الله بن أُبَيّ للمفسدة المترتبة على ذلك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه» متفق عليه، خصوصا مع إظهاره الإسلام وخفاء كفره، ورغم علم النبي صلى الله عليه وسلم بكفره فإنه لم يقتله بعلمه فقط من دون إقامة البينة الشرعية كمـا ذكره ابن حزم في (المحلي ج11)، وقد وفد مسليمة الكذاب على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وأعرض عنه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم «لا تقطع الأيدي في الغزو» نظرا إلى المفسدة المحتملة بأن يهرب السارق ويلحق بدار الحرب. فلا بد من النظر في العواقب حتى مع القدرة.