لا بأس من أن نعيد بين الحين والآخر ما سبق وأوضحناه، من أننا حين نقول العروبة لا نعني العرب أفراداً وشعوباً، وإنما نعني تلك الإيديولوجية التي بدأ بها القوميون العرب، وطورها حزب البعث العفلقي، ثم جاء جمال عبد الناصر بنسخة سميت بالناصرية، لتأخذ على يد البعث الصدامي والأسدي صورتها الأخيرة، ولا نعلم كم سيمتد بنا الوقت، ونحن نستنشق غبارها الأسود، ونتجرع مياهها الآسنة!!
قد يندهش البعض حين يجد أن صناديد البعث الأسدي وأزلامهم من المنتحلين صفة الكتاب والمفكرين في مختلف وسائل الإعلام، يسارعون بفتح نيران الرفض والشجب والتنديد على أي بادرة للحديث عن السلام في المنطقة، ويراهم يجهدون أنفسهم أيما جهد في اختراع أو استخراع (على حد تندر أولاد البلد المصريين) المبررات لهذا الرفض المسبق، لأمر لم تتبين معالمه بعد، فبمجرد الإعلان عن نية عقد مؤتمر دولي للسلام في نوفمبر القادم، ودون أن نشم على ظهور أيدينا (كما يقولون)، لنعرف ما سيتمخض عنه المؤتمر، خرج صناديد وأشاوس العروبة من جحورهم وقصورهم ومن أينما تمترسوا، ليجأروا بالرفض القومجي والتنديد البطولي والشجب العنتري، ولا يملك المراقبون الذين لا يعرفون العروبة والعروبجية حق المعرفة إلا أن يحوقلوا، ويديروا أبصارهم بين الأرض والسماء، بحثاً عن مهرب إن لم يكن عن حل.
لا ننتوي هنا أن نستعرض العوامل الموضوعية والأساسية، التي تدفع ببهلوانات السيرك هؤلاء إلى الإصرار على مواقفهم الكوميدية المقززة، فكلها عوامل واضحة للعيان، ولا تحتاج لتحليل وتدليل، فهي لا تخرج عن ثلاثة: الارتزاق والحفاظ على الكراسي، بالإضافة إلى استدرار تأييد وتعاطف الدهماء، المتواجدين لحسن (سوء) الحظ بوفرة، بامتداد البوادي العربية.
مقاربتنا هذه تذهب إلى افتراض لا يخلو من وجاهة، هو وجود قدر ولو يسير من الإخلاص وحسن النية لدى هؤلاء الرافضين للسلام دائماً وأبداً، ورغم التناقض الواضح بين رفض السلام الذي تنشده الشعوب (كل الشعوب)، وبين ما نفترضه فيهم من إخلاص وحسن نية، إلا أن الأمر فعلاً جدير بالبحث، فهولاء الذين رضعوا لبن العروبة منذ المهد، وتشكلوا ثقافياً وسيكولوجياً وفق طبيعتها ورؤاها، لهم علينا حق تقدير ظروفهم أو مأساتهم.
فأيديولوجيا العروبة القائمة على فكرة الوحدة العربية، كان من الممكن أن تكون رؤية لمستقبل أفضل لشعوب المنطقة، لو قامت على أساس الارتكاز على نقاط التوافق وإمكانيات التعاون والتكامل بين شعوب المنطقة، لتتشكل قوة اقتصادية وسياسية وبشرية، أقدر على التعامل والتعاون والتكامل أيضاً مع سائر دول العالم، وهذا بالتحديد ما يقوم عليه الاتحاد الأوروبي، وحقق نجاحات بكل المقاييس، رغم اختلاف اللغات والتاريخ القديم والحديث للاقتتال والدماء بين ما يضمه الآن من شعوب وكيانات سياسية.
النقطة المركزية أن أي تجمع من كيانات متعددة يلزمه قوة تجميع، تتغلب على النزوع الطبيعي للاستقلال والتفرد، وهي مماثلة للقوة اللازمة لتماسك نواة الذرة، بمكوناتها المتماثلة والنازعة للتنافر، فلكي تحتفظ بعدد من الأفراد لوقت طويل معاً في غرفة واحدة، هناك ثلاثة طرق للتغلب على نزوعهم الطبيعي للاستقلال والانفلات:
الطريقة الأولى هي التركيز على ما يمكن أن يستفيد كل فرد منهم من التواجد مع الآخرين، فإن نجح التوفيق والتوافق سيظلون معاً لأنهم يستفيدون من ذلك، أي يرغبون في ذلك، أي يحبون ذلك، وهذا ما حدث مع الاتحاد الأوروبي كما أسلفنا، وما تسعى إليه تركيا الإسلامية إليه بكل ما تملك من جهد، أما إذا لم تتوفر لهذا التوافق مقوماته الموضوعية الأولية، أو إذا تم إهمالها بدواعي الجهل أو التجاهل، يتبقى لتحقيق الوحدة واحد من الطريقين الآخرين.
الطريقة الثانية هي إجبار الأفراد على البقاء معاً بالقوة والقهر، وهذا ما حدث عبر التاريخ منذ إمبراطورية الإسكندر الأكبر والإمبراطورية الرومانية ثم دولة الخلافة الأموية والعباسية والإمبراطورية العثمانية، ثم الإمبراطورية البريطانية التي لا تغرب عنها الشمس، وأخيراً الاتحاد السوفيتي بجمهورياته التي ما أن خفت عنها يد القهر في عهد جورباتشوف، حتى تفككت وذهب كل في طريقه، ومثلها تجمع حلف وارسو، الذي كان على العكس تماماً من حلف الناتو، الذي تسعى المزيد من الدول للالتحاق به، لتأسيسه على الرغبة الناتجة عن الاستفادة وليس على القهر، وهذا أيضاً ما حاوله صدام حسين مع الكويت، وتحاوله سوريا الأسد الآن مع لبنان.
بين الطريقة الأولى والثانية، أي بين الترغيب والإجبار، هنالك طريق ثالث يقوم على التخويف، ففي مثالنا إذا أقنعت مجموعة الأفراد داخل الغرفة أن عدواً مشتركاً يتربص يهم بالخارج، فسوف يبقون معاً بقدر ما يقتنعون بهذا العداء ويتبنونه، وسوف يبقون معاً طالماً سيطر عليهم تصور بقاء عدوهم المفترض رابضاً في انتظارهم بالخارج، فإذا ما حدث أن انصرف العدو عنهم إلى حال سبيله، أو اكتشفوا فجأة أو تدريجياً، أن العدو المشترك ليس غير أسطورة روجها من يريدون إحكام السيطرة عليهم ليس أكثر، ثم نجحوا – وهذا هو الأهم والأصعب- في التخلص من ميراث الخوف والتوجس والعداء بداخلهم، فسوف ينفضون، ليذهب كل في طريقه، سعياً لتحقيق مصالحه، ولن يبقى بين هؤلاء بعد ذلك من علاقات، إلا ما تمليه مصالحهم الحقيقية والفعلية، دون ما حاجة إلى أيديولوجيا وشعارات وهتافات ومعارك مصيرية!!
الطريق الثالث هو ما اختاره دعاة الوحدة الناصريين والبعثيين، بالتأكيد لأنه الأسهل، فالطريقة الثانية تحتاج لقوة عسكرية لم تتوفر لأحدهم، وإن كانوا قد جربوها قدر استطاعتهم، ومازال البعث الأسدي يحاول اللعب بورقتها في لبنان (في حين لا نرصد له أي مجهود يذكر، لتحرير الجولان من الاحتلال الإسرائيلي)، والطريقة الأولى المتمثلة في تعظيم المصالح الموضوعية المشتركة تحتاج إلى جهد وعلم وصبر طويل، وكلها مقومات لا تتوفر لدعاة العروبة الأشاوس، الذين اقتصرت جهودهم على النضال عبر الميكروفونات، وعلمهم كان استغراقاً في الجهل والجهالة، أما صبرهم فكان نافداً، فهم يرومون الزعامة فوراً وبلا إبطاء!!
هكذا تأسست فكرة العروبة على العداء لعدو، فإذا ما ذهب العداء أو العدو أو كلاهما، فلن تكون هناك عروبة ولا شعارات ولا ميكروفونات، ولن يكون هناك مجال لأم معارك أو أم القيح!!
نفس هذا يقال على أيديولوجيا الأصولية الدينية، فالعمود الفقري لخطابها هو العداء للآخر الكافر المتربص بنا، والذي لا ينفك يحيك لنا المؤامرات، مستهدفاً ثرواتنا ومقدرات حياتنا وهويتنا وديننا!!
لهذا من الطبيعي ما نراه الآن من تحالف لمعاداة السلام، بين إيران وحزب الله وحماس كممثلين لأيديولوجية أصولية دينية من جانب، وبين سوريا والمنظمات اليسارية والقومية الدائرة في فلكها من جانب آخر، فرغم التضاد الأيديولوجي بين الفريقين، إلا أن ما يوحدهما هو الحفاظ على العداء والعدو كما هو، لكي يبقى خيط العقد الذي يجمع حباته، فما السلام سوى الشفرة التي تنذر بقطع خيط العداء وانفراط حباته، عندها ستهتز عروش وتنهار قصور، وتنحل عصابات ليس لها من مورد رزق غير المتاجرة بشعارات العروبة وبيع الناس أوهامها!!
يحق لهم إذن أن يدافعوا عن قضيتهم المحورية، قضية المحافظة على العداء العربي/ الإسرائيلي، والعداء العربي/ الغربي، فإذا كانوا صدقاً يقولون أن “إسرائيل هي قضية العرب المحورية”، فإن هناك من يقول أن “إسرائيل عدو إذا لم نجده لاخترعناه”، ففي نهاية هذه القضية نهاية العداء، وما يعنيه من نهاية العروبة والعروبجية، ونهاية الجهاد والجهادجية!!
kghobrial@yahoo.com
الإسكندرية
إيلاف
العروبة ومأزق السلام
المقال به وجهة نظر لكن استخدام الكثير من الألفاظ البذيئة للهجوم على الفكر المخالف يجعل القارىء يتعاطف معه