ساد ـ في السنوات الأواخر من عهد الملك الراحل الحسن الثاني ـ تعبير “الملك يسود ولا يحكم” الذي تحول إلى مطلب سياسي شق الطبقة السياسية بين مؤيد ومعارض، خاصة بداية التسعينيات من القرن العشرين وما شهدته من محاكمات شغلت الرأي العام الوطني (محاكمة نوبير الأموي عن الاتحاد الاشتراكي والكونفدرالية الديمقراطية للشغل، ومحاكمة إدريس لغنيمي عن حزب الاستقلال والاتحاد العام للشغالين بالمغرب).
طبعا كان الحسن الثاني، بفعل التنازع على المشروعية، أشد حرصا وتكريسا لهيمنة الملكية على الحياة السياسية والعمل على إضعاف الأحزاب وتهميشها. لكن، وبعد اعتلاء الملك محمد السادس عرش المغرب، شرع في التأسيس للمفهوم الجديد للسلطة وإطلاق إشارات تؤرخ لما بات يعرف في الأدبيات السياسية بالعهد الجديد. وتميزت بداياته بإعلان الملك تبنيه لقيم الحداثة والديمقراطية والتصدي لكل القوى المناهضة للمشروع المجتمعي الحداثي كما جاء في خطاب 29 ماي 2003 (أقول إن الإرهاب لن ينال منا وسيظل المغرب وفيا لالتزاماته الدولية، مواصلا، بقيادتنا، مسيرة إنجاز مشروعنا المجتمعي الديمقراطي الحداثي، بإيمان وثبات وإصرار وسيجد خديمه الأول في مقدمة المتصدين لكل من يريد الرجوع به إلى الوراء، وفي طليعة السائرين به إلى الأمام، لكسب معركتنا الحقيقية ضد التخلف والجهل والانغلاق).
ودون سرد الإجراءات التي اتخذها الملك لتكريس النهج التحديثي، تكفي الإشارة إلى الخلاصة التي انتهى إليها تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة، الذي أقر أن المغرب عرف (انبعاث إرادة الانخراط في هذا المسار من داخل النظام نفسه، الذي قرر إحداث قطائع إيجابية في اتجاه التحديث والدمقرطة ووضع حد لاستعمال العنف في تدبير الخلافات السياسية). وبالفعل أسس المغرب لتجربة رائدة على المستوى العربي والإقليمي في التعامل مع ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. وإذا كانت إستراتيجية الراحل الحسن الثاني تقوم على ضبط المجال السياسي عبر إضعاف الأحزاب وتقوية الملكية، الأمر الذي أدى إلى تبديد الجهود في الصراع السياسي والتنازع حول المشروعية على حساب التنمية المستدامة، فإن الملك محمد السادس يدرك أن تحقيق الديمقراطية الحقيقية يتوقف على وجود أحزاب قوية تخوض التنافس فيما بينها على مستوى المشاريع المجتمعية. إذ جاء في الخطاب الملكي ليوم 20/8/2007 التوجيه التالي (باعتبار الأحزاب فاعلا أساسيا في كسب رهان أي اقتراع، فإنني أتوجه إليها بالقول: إنه لا ديمقراطية حقة بدون أحزاب قوية، أحزاب فاعلة متحملة لمسئوليتها في جعل الانتخابات تنافسا شريفا بين مشاريع مجتمعية).
ومعنى هذا أن المغرب قطع مع مرحلة الصراع بين القصر والأحزاب ليدخل عهد التوافق السياسي بينهما بهدف تجميع الجهود وحسن استثمارها. لهذا تتجه رغبة الملك إلى التأسيس لملكية فاعلة، مواطنة ومؤمنة بالديمقراطية التشاركية. أي ملكية تستند إلى كل المؤسسات السياسية والمدنية وكل الطاقات الحيوية التي يزخر بها المجتمع. وهذه الملكية الفاعلة والمواطنة لا يستقيم إطارها إلا بفصل السلط وتقاسم المسئوليات وإشاعة الإحساس بالواجب بين الفاعلين والمواطنين. وفي هذا الإطار سيكون من الموضوعية والإنصاف استحضار الإشارات والتوجيهات الملكية، إما بغرض حث الأحزاب والحكومة على التعامل بجدية مع الفاسدين (يتعين على الجميع التصدي، بروح المواطنة وقوة القانون، للعابثين بالانتخابات والمتاجرين بالأصوات لإفسادها بالمال الحرام والغش والتدليس والتزوير)، أو بهدف التعبير عن عدم ارتياحه لأداء السلطات العمومية والمنتخبة التي انتقدها في خطاب العرش 2003 بالتالي(وقد اكتفيت، لحد الآن، بتوجيه السلطات العمومية والمنتخبة، كل في نطاق اختصاصه، لينهضوا بمهامهم كاملة عن قرب، لأنه لا يمكن لملك البلاد، أن يقوم بعمل الوزير أو العامل أو رئيس جماعة محلية، ولأني حريص على ممارسة كل سلطة لصلاحياتها بروح المسئولية والفعالية. ونهوضا بالأمانة العظمى، فإني لن أسمح بالتهاون في القيام بالشأن العام). ومن ثم يمكن التأكيد مع الأستاذ الوقور الدكتور عبد الهادي بوطالب على أن (خطب الملك التوجيهية [أصبحت] منارة وهديا، مما يمكن القول معه إن الملكية في عهد جلالته دخلت الثورة البناءة بدون إعلان ولا صخب ولا تهريج)(الأحداث المغربية 24/9/07). وإذا كانت قوة الملكية تستدعي قوة المؤسسات السياسية والحزبية والقطع مع أساليب الهيمنة والاستبداد، فإن قوة الأحزاب من قوة الملك، على اعتبار، كما قال الأستاذ المحترم محمد العربي المساري (أن هذا العامل هو الذي مكننا من الإقدام على إصلاحات جوهرية وعديدة في جو توافقي)(الأحداث المغربية 20/9/2007. إذن لا خلاف على رغبة الملك وإرادته في التغيير الهادئ والمتدرج الذي يشمل مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والحقوقية في أفق تعميق أثره وتوسيع مداه بانخراط كل الأطراف المعنية التي ما فتئ جلالته يحثها على الاضطلاع بمسئولياتها في دعم أوراش الإصلاح، مثلما هو الحال مع هيئة العلماء التي خاطبها الملك بالتالي (وإذ نـؤكـد عـزمـنـا عـلـى الـمـضـي قـدمـا فـي إصـلاح الـشـأن الـديـنـي، الـذي قـطـع خـطـوات هـامـة، باعـتـبـاره أحـد أركـان مشـروعـنـا المـجـتـمـعـي،فـإنـنـا نـدعـوكـم وكـافـة العـلـمـاء المـسـتـنـيـريـن، رجـالا ونـسـاء عـلـى حـد سـواء، إلـى الـنـهـوض بـالـمـسـؤولـيـات الـجـسـيـمـة الـمـلـقـاة عـلـى عاتـقـكـم، والانـخـراط فـي حـركـة الإصـلاح الـشـامـل الـذي نـقـوده). طبعا الإصلاح ليس عملية تقنية أو مجرد إجراء إداري ، بل هو صيرورة ومنظومة متكاملة تستلزم من جهة، تأهيل العنصر البشري لينخرط في عملية الإصلاح ويستوعب عناصرها الإيجابية، ومن جهة ثانية إرادة سياسية لدى الفاعلين الرئيسيين ـ الملك والأحزاب ـ لوضع نقلة نوعية في اتجاه الارتقاء بالمجتمع وتحسين الأداء الحكومي بما يقطع مع تجارب الفساد ويؤسس لثقافة المحاسبة والمساءلة والعقاب والحكامة الجيدة. وبالنظر، من زاوية الكونية، إلى التجربة الديمقراطية في المغرب، سندرك أنها تخطو في الاتجاه السليم. الأمر الذي يدعو إلى تعزيز المكتسبات والعمل على توسيع مداها لتشمل القضايا التي لازالت تشكل عقبات أمام إنضاج الممارسة الديمقراطية، وفي مقدمتها صلاحيات البرلمان واختصاصات الحكومة وسلطات الوزير الأول. وحتى يتم الارتقاء بالتجربة الديمقراطية، فإن الأمر يقتضي دسترة التوجيهات الملكية وأجرأتها، خاصة فيما يتعلق بالفصل الحقيقي بين السلط وتطبيق المحاسبة السياسية للبرامج الحكومية ومشاريعها المجتمعية. ومن شأن هذه الدسترة أن تستجيب للمطالب التي ترفعها الطبقة السياسية فيما يتعلق باختصاص المؤسسات الدستورية وصلاحياتها. ذلك أن تحمل المسئولية يستدعي حرية الاختيار وإرادة التنفيذ.
لكن هل الأحزاب السياسية مؤهلة لاستيعاب التغيير ومجاراة خطواته؟
للحديث بقية.