الاستعداد الناقص للديموقراطية
في الوقت الذي يزداد الحديث عن الديموقراطية وشروط تطبيقها، ويرى البعض بأنها فكرة مستوردة غير صالحة لكل بيئات، وهي ربما تصلح للبعض وقد يستحيل تطبيقها في الأمكنة والأزمنة، يعيدنا حسن ظاظا وهو صحافي وكاتب كردي سوري وهو من مؤسسي مركز (حريات) للدفاع عن الصحافة والصحفيين في سوريا في كتابه هذا (التطور التاريخي للديموقراطية)، والذي قسّم الى خمسة فصول قراءة عن نشوء الديموقراطية بدءاً من الإغريق والرومان الى انتصارها في أوروبا الشرقية ويغنينا عن التجربة الديموقراطية المباشرة المنتشرة في بلدان كسويسرا، كما على أساس ان الديموقراطية هي أفضل ضمان لحقوق الأقليات والأكثريات وهي تتيح للجميع الفسحة للتعبير عن رأيهم بحرية.
«مفهوم الديمقراطية وأركانها» هو العنوان الذي حمله الفصل الأول حيث ركز المؤلف على جذور الديموقراطية وأساسها على أن الديموقراطية التي ظهرت لأول مرة في الوجود عند الإغريق وكان يطلق عليها باليونانية لفظ (Demokratia) وهو مأخوذ من كلمتين ( ديموس) بمعنى الشعب والأخرى (كراسيا) بمعنى حكم.. أي حكم الشعب، لكن بحسب ظاظا (مؤلف الكتاب) أن هذا المفهوم يختلف من دولة الى دولة ومن مفكر الى مفكر آخر، فكلمة الديموقراطية لم تكن توحي الى الذهن في عهد بروتاغوراس وأفلاطون المعنى نفسه الذي أوحته في عهد جون لوك وجان جاك روسو، كما ان هذا المعنى يختلف كلياً عما يقصده بالديموقراطية مفكر العهد الأخير أمثال هارولد لاسكي وكارل ماركس وجون ديوي. الديموقراطية بمفهومها الحالي فكرة مثالية نبيلة تتسامى بالإنسانية الى مراقي العزة والكرامة، لأنها تتقمص فكرة الحرية والمساواة والعدل الاجتماعي. إذ يرى (ظاظا) أن الديموقراطية من الناحية السياسية هي نظام في الحكم ويجعل كل فرد بصورة مباشرة أو غير مباشرة يساهم في تصريف شؤون الدولة، وسن القوانين ووضع الشرائع.. يساهم فيها بذاته أو بواسطة ممثله الذي ينوب عنه. أما من الناحية الاجتماعية، فقضية الديموقراطية في صميها قضية اجتماعية أخلاقية قبل كل شيء، لأنها تفترض ان كل فرد من حقه الطبيعي ـ بصفته عضواً في جماعة ـ أن ينشد السعادة وأن كل نظام في الحكم ينكر على الفرد ذلك الحق.. أن هو النظام غير صالح وغير مشروع. ومن الناحية الاقتصادية يرى ظاظا أن الديموقراطيات الحقيقية هي حريات اقتصادية تقترن بالحريات السياسية ومعناها إذن أن كل إنسان يحمل مصيره بيديه ويكون الحكم في مستقبله، وهذه الفكرة كامنة في الوعي الإنساني، وطالما أثارت الثورات وانبعثت الحركات، ولم ينل منها الفشل المتوالي، ولم تثن عزمها النكبات ولو تحسنت العلاقة بين حاجة المجتمع وطريقة احتكار موارده واستغلال خيراته. ويختتم ظاظا فقرة الديموقراطية من الناحية الاقتصادية بكلمة المصلح الأميركي اريك جونسون: «ليكن مسعانا ان تبدأ ديموقراطيتنا من القاعدة وأن تكون وفاء لديون الطبقات العاملة علينا، وليكن هدفها المجيد أن تحرر المجتمع حالياً ومستقبلاً من الأغلال الاقتصادية مع تحريره من الأغلال السياسية، ولتكن رأسماليتنا بعد اليوم ديموقراطية تتيح للعامل نصيباً من الإنتاج لا أجراً على الإنتاج.. ولنعمل على ان يتكافأ الإنتاج والتوزيع تكافؤاً ينفي عن كواهلنا السخرة ويمنع عن بطوننا الجوع، ويرفع عن مجتمعنا الاضطراب ويحسم عن إنسانيتنا الهوان.
العصور القديمة
أما الفصل الثاني «الديموقراطية في العصور القديمة» فيحاول فيه المؤلف إعطاء لمحة عن الديموقراطية عند اليونان والرومان والفراعنة وعند إقطاعية القرون الوسطى والملكية المطلقة. فعند اليونان كانت الأمة اليونانية في العصور القديمة هي الأولى التي أطلقت الفكر من عقاله ومنحته الحرية التامة، لأن يصول ويجول في أجواء المعرفة دون حسيب ورقيب، ففي هذه البيئة ظهرت طريقة البحث العلمي، تلك الطريقة التي ازدهرت في العصور الحديثة مما سبب هذا التقدم الذي نشاهده الآن في كل من ميادين العلم والفلسفة والحياة الاجتماعية والسياسية. لقد ظهرت أسس العلوم الاجتماعية في عهد الإغريق القدماء، وطبق في اليونان نوع من الديموقراطية برغم من نواقصها العديدة، فأثينا هي السباقة في كل مضامير التقدم العقلي والاجتماعي، وكانت تمثل الديموقراطية وحكم الأكثرية الشعبية في بلاد اليونان، مقابل اسبارطة العسكرية التي كانت تمثل حكم الأقلية المستبدة الاوليغاركية. ولقد برهنت أثينا عند تطبيقها النظام الديموقراطي على أن الدولة التي أسس نظامها على مبدأ المساواة إنما هي حقاً دولة الأحرار. أما عند الرومان، فعمت الفلسفة الرواقية في العهد الروماني، فظهرت آثارها على القوانين وعلى آراء بعض المفكرين أمثال شيشرون، وسينا، وغايوس، الذين نادوا بالمساواة لجميع الناس ودعوا الى شرعة القانون الطبيعي الذي يمنح حق التكافؤ للمواطنين كافة. وعند الفراعنة فيقول المؤلف: قد يكون غريباً «أن نبحث عن الديموقراطية نشأت لدى الفراعنة، وهذه آثارهم التي ظل الناس عصوراً متطاولة يقفون بين الدهشة والتساؤل أمامها، تشهد على حكم استبدادي لم ير العالم مثله على مر العصور.. حكم كانت السياط تحت لفح الشمس، وكانت ملايين البشر مرغمة على تأدية السخرة لفرعون مصر. والأرض كانت مقسمة بين فرعون والإقطاعيين والكهنة. لكن وحسب المستشرق الفرنسي «دي ساي» إن أول حركة قامت في الدنيا ضد الاستبداد السياسي وضد الحكم الفردي المطلق كانت في مصر أيام الفراعنة، وكان لشعب مصر أثناء حركته هذه صلاة يدعوها في المعابد: «أيتها الآلهة.. أن فرعون يذلنا.. ويضربنا.. والأرض التي يقول إنكم وهبتموها له ترهقنا أيتها الآلهة.. أعطونا راحة.. وأعطونا أرضاً.. إن ظهورنا قد انحنت.. فأقيموها..». أما الديموقراطية لدى إقطاعية القرون الوسطى، ولدى الملكية المطلقة، فلم تكن بيئة صالحة لتطبيق مبادئ الديموقراطية، فلقد كان الخمود الفكري مستولياً على العقول، وكانت الفلسفة المدرسية هي السائدة في هذا العهد وكان شعارها: «الفلسفة وليدة علم الإلهيات والعقل أساس الإيمان».
وفي الفصل الثالث «نشوء الديموقراطية في انكلترا وتطورها في القرن التاسع عشر» يحاول المؤلف الربط بين النهضة الأوربية والديموقراطية، فالحديث عن الديموقراطية في إنكلترا هو الحديث عن بداية البدايات في نهضة أوربا، ففي يوم الذي صدر البيان التاريخي أو ما يسمى بالوثيقة العظمى وهو الذي كان نتاج الصراع بين الملك جون والطبقة الارستقراطية التي أيّدتها مختلف طبقات الأمة شعر الشعب الإنكليزي بوجوده لأول مرة، بالرغم ان هذه الوثيقة لم تشمل تنظيماً لأصول الحكم إلا أنها تضمنت اعتبار الشعب مصدر السلطات واعتبرت الملك تحت تصرف القانون.
فمؤسسات الديموقراطية لها عمر طويل في إنكلترا. البرلمان تمتد جذورها (في إنكلترا) الى القرن الرابع عشر، ولقد أثبت هذا النظام البرلماني أنه أكثر إيصالاً إلى الاستقرار من النظم الاستبدادية، فإنكلترا صاحبة انجح تجربة دستورية. يقول بروفيسور تريفليان في محاضرته عن نظام الحزبين في تاريخ إنكلترا: «كانت إنكلترا أول دولة كبيرة أظهرت ان الإدارة الحسنة والفعاليات الوطيدة يمكن أن تمشي جنباً الى جنب مع الحرية». والحق ان هذا لم يأت من الفراغ بل هناك حركة أهلية وشعبية قوية ظهرت وهي تقاوم المؤسسات الدينية والكنسية، واستطاعت هذه الحركات ان تحدث انقلاباً جذرياً في البنيان النظام في إنكلترا وسائر أوروبا، وكان من نتيجة هذا الصدام الديني السياسي إن اندلعت نيران الثورة الأهلية التي دارت رحاها أربع سنوات، والتي لاقى«لاود» – رئيس أساقفة كنتريوي وأعدم بعدها الملك تشارلز الأول بتهمة الخيانة العظمى في عام 1649م، وفيما بعد اتخذ البرلمان قراراً تاريخياً، نقتبس من بعض نصوصه:
1ـ إن الشعب مصدر السلطات.
2ـ إن ممثلي الشعب المختارين من قبل الشعب هم الذين يملكون زمام السلطة.
3ـ إن كل ما يتخذه مجلس العموم من قرارات له قوة القانون كما لو أقرته الأمة بأسرها.
4ـ إن الحكم الفردي المطلق بواسطة ملك أو غيره مرهق لكاهل الأمة.
أما في الفصلين الرابع والخامس يتعرج المؤلف للحديث عن أزمة الديموقراطية في القرن العشرين وعن مستقبل الديموقراطية. في هذا المجال يسأل المؤلف عن الأسباب التي أدت إلى تدهور الديموقراطية؟ ويرى المؤلف بأن هناك أسباباً عامة مهدت السبيل وأسباباً خاصة متصلة بماضي حياة الأمم وسالف تقاليدها.. كلها أدت إلى ظهور نظريات سياسية جديدة تناقض المبدأ الديموقراطي وتعود بالحرية الفردية إلى عصورها الأولى. ويعزو المؤلف أسباب الأزمة الى نقطتين، النقطة الأولى: الاستعداد الناقص للديموقراطية، بمعنى، أولاً: إن الدول التي اعتنقت المبدأ الديموقراطي بعد الحرب الأولى دون أن تكون متمتعة بدرجة من التطور والثقافة والرقي تؤهلها للعيش مع الديموقراطية. ثانياً: وهناك الدول التي لم تكن لديها تقاليدها الديموقراطية الموروثة وحتى منها الدول العريقة في الحضارة والثقافة والنضوج الفكري كألمانيا، فقد فشلت تجربة الديموقراطية فيها، لأنها لم تكن مبنية على أساس راسخ. ثالثاً: كان دخول الديموقراطية إلى بعض الدول الأوربية الصغيرة مفاجئاً وليس لديها أي فكرة عنه، لأن البرلمانية لم تكن معروفة فيها من قبل ولم يكن للشعب عهد بحق التصويت العام، بل كانت الأمية السياسية مسيطرة على الجماهير. والنقطة الثانية: فيعزو المؤلف أسباب الأزمة الى ظهور الديكتاتوريات الحديثة مثل: الديكتاتورية الروسية، والديكتاتورية الإيطالية والديكتاتورية الألمانية.
وبرأي المؤلف أن الديموقراطية في المستقبل سوف تتجه الى هذه الاتجاهات الثلاثة:
1ـ سوف تعمل على تعزيز سلطان الدولة دون القضاء على حرية الفرد، وتحاول تأمين التوازن بين السلطات الثلاث.
2ـ سوف تتعقب الديموقراطية أخطاءها السابقة فتصلحها، ولا سيما ما يتعلق بقوانين الانتخاب والصحافة والأحزاب فيتنزه الانتخاب ويسلم من المؤثرات الخارجية التي تلثم حريته ونزاهته، وتنظم الصحافة وتبعدها عن المشاركة في الفساد والرشوة.
3ـ سوف تعزز الديموقراطية مناداة نشر الحريات الأساسية ومبادئ حقوق الإنسان، وستوجه العناية خاصة إلى المشاكل الاقتصادية.
بقي القول إن الكتاب الذي قمنا بعرضه هو من الكتب القيّمة التي تتحدث عن الديموقراطية وعن حقوق الفرد والجماعة وهذا الكتاب دون شك هو محل الغنى للمكتبة العربية وللمكتبة الفكر الحر في العالم العربي، وكما أن ومهما تحدثنا إيجابياً عن الكتاب إلا أنه لا بد وأن صادف المؤلف عدد من الهفوات والأخطاء.
faruqmistefa@hotmail.com
* سوريا
التطور التاريخي للديموقراطية» لحسن ظاظا الديمقراطية إشكالية إي أنها لا تزال غامضة وملتبسة وغير واضحة وغير معترف بها، وإذا ظننا أننا اقتربنا منها نكشف أننا ابتعدنا عنها إنها كذلك وينبغي أن تكون كذلك فهي خلق جديد في حياة البشر على أساس العلم أي على أساس آيات الآفاق والأنفس. لقد وصل البشر إلى الديمقراطية عبر تطور وبعد أن خاضوا ظلمات ودفعوا أثماناً باهظة ليس عجيباً أن تكون موضع اتهام ونبذ وتجاهل لما أقول (إذا ظننا أننا اقتربنا منها نكتشف أننا ابتعدنا عنها). وهناك نماذج كثيرة في كل بلد عربي تدل على ذلك، مثلاً، في السودان البلد الذي يمكن أن يعتبر أقرب… قراءة المزيد ..
التطور التاريخي للديموقراطية» لحسن ظاظا مقال رائع وشكرا .المشروع النبوي أوسع من أي دولة علمانية! ـ من يؤمن بالإكراه ليس مؤمناً؟. ـ من حق كلّ إنسان إعلان عقيدته ـ المسلمون الآن في غيبوبة! ـ بدل العلمانية نريد العلم!. ـ العلماني لا يقرأ القرآن تاريخياً والمتدين غارق لا يعرف ماذا يحدث في العالم! ـ لا أحد يستطيع أن يخبّىء الحق على مدار التاريخ! ـ المشروع النبوي أوسع من أي دولة علمانية! ـ المجتمع النبوي يحمي كل الذين لا يلجؤون إلى القتل والتهجير. ـ المشروع الإسلامي يتحقق عندما تعمّ الديموقراطية العالم. وتصير الأمم المتحدة ديموقراطية. وتنتهي حالة الإكراه في الأفكار: أحدث الانقلاب… قراءة المزيد ..