من السائد في الثقافة التبريرية للفكر السياسي العربي التقليدي ونعني بدايةً (القومي والماركسي منه) المتمسك بموروثات ومقدسات وخطوط حمر لا يجوز المساس بها.. التبرير الشائع عند معظم المثقفين والمفكرين المتبنين هذا النوع من الفكر وهو نزاهة الفكرة وأخلاقيتها المطلقة في مقابل الحامل الاجتماعي الذي شوه النظرية عبر تطبيقه الخاطئ لها، وهي مفارقة غريبة عند من يتبنى فكراً تغييرياً علمانياً كما يفترض أن يكون، فينزلق إلى ما يشبه الفكر الديني السلفي الملتزم بالنص ولا شيء سواه، مع الفارق الشكلي وهو غياب اللحية والعمامة ليحل محلها البسطار خاصة عندما يصل هؤلاء (التقدميون) إلى السلطة، فيبدأ الإقصاء والفعل التخويني والاتهام بالتآمر على الأهداف النبيلة على طريق تحقيق (الأهداف القومية والاشتراكية التي يطمح لها كل عربي من المحيط إلى الخليج أو كل بروليتاري في العالم) كما علمتنا التجارب الكارثية لوصول اليسار الشعبوي والقوميين التقليديين إلى السلطة.
تاريخياً:
تبرز ويلات أي فكر ينحصر في سجن الإيديولوجيا والعقيدة في دوغما الخطاب الثقافي الذي يؤسس لممارسة ميدانية على أرض الواقع، وهو حتى لو ادعى التجديد والنقد فإنه لن يتعدى كونه نقداً لممارسات وآراء دون أن يغوص عميقاً في هذا الفكر والبذور الموجودة في كتب مفكريه وأدبيات هذا الحزب أو ذاك، فيظل أسير قدسية النص الذي وضعه الآباء الروحيون لدرجة يصعب التمييز موضوعياً ولناحية التعامل مع النص بين كتابات وأفكار ماركس وأنجلز ولينين وميشيل عفلق وأنطون سعادة وجمال عبدالناصر و… من جهة، وبين أي نص إلهي يقف عنده المؤمن البسيط في حالة روحية تلغي دور العقل من جهة أخرى, و قد يصل الأمر في حالات من التطرف إلى الاستعداد للدفاع عن الفكرة بالعنف والتصفية السياسية والفكرية وحتى الجسدية أيضاً.
نسأل بعض المتحذلقين ممن يصنفون كنخب ثقافية والذين نراهم يومياً على شاشات الفضائيات ونقرأهم على صفحات الصحف خاصة التي تتبنى هذا النوع من الفكر:
ما معنى أن تكون النظرية صحيحة وكاملة بالمطلق (وهذه مفارقة أيضاً عند أنصار الدياليكتيك) وأن يكون منظروها وواضعوها منذ عقود وربما قرون أحياناً يتمتعون ببعد النظر والرؤية الثاقبة التي لا تخيب, بينما يكون الحامل الاجتماعي لهذه الفكرة هو المسؤول عن أي خلل في التطبيق والممارسة (ونحن طبعاً لا نعفي هذا الحامل الاجتماعي من كارثية تطبيق فكر أحادي قسري إقصائي على أرض الواقع) ولنا في ذلك أمثلة كثيرة من التاريخ:
فهل يمكننا أن نقبل مثلاً فكرة تقول أن ممارسات القمع التي استخدمت طيلة الفترة السوفييتية ودول المعسكر الاشتراكي يتحمل مسؤوليتها جنرالات الحزب الشيوعي السوفييتي فقط، بينما يعفى واضعوا فكرة ديكتاتورية البروليتاريا وتصفية اليمين الانتهازي من مسؤوليتهم الغير مباشرة عن معتقلات الغولاغ وإبادة الملايين في الاتحاد السوفياتي وبناء الكولخوزات والسوفخوزات على جثث وجماجم البشر,وهل صدام حسين وفيديل كاسترو وكيم إيل سونغ وبول بوت وأمثالهم إلا نتاج ثقافة وفكر كان يدرّس ولا يزال دراسة أكاديمية في مناهج بعض الدول العربية ودول العالم المحكومة بأنظمة عقائدية.
راهناً:
لنخرج من هذا السرد التاريخي لنضرب مثلين حيين وباختصار على التماهي بين الفكرة والممارسة حيث حماس في فلسطين وحزب ولاية الفقيه في لبنان.
فبالنسبة لحزب الله يمكننا أن نسمع ونتابع تصريحات وبيانات وخطابات لأمينه العام وبعض قياديي الحزب عن المقاومة والجهاد وفلسطين، وإن كان في الفترة الأخيرة قد أعطى لنفسه هالة سياسية في كلامه عن الاستحقاقات النيابية وحكومة الوحدة الوطنية, فإن إيديولوجياه المستمدة من مرجعيات نصية ورموز ذات كاريزما طاغية لدى شريحة شعبية لا يستهان بها في لبنان والمجتمعات العربية والإسلامية ونعني المرشد الأعلى في طهران تغلّب الطابع العقائدي الجامد عنده على ما سواه، إلا إذا كان جاهزاً لتقديم تنازلات بنيوية فيه على مستوى الفكر والبرنامج السياسي والعلاقة مع الآخر، فيصبح لدينا عندها رجال دين مستنيرون أمثال علي الأمين و هاني فحص وغيرهم ممن هم أقرب إلى ثقافة الديمقراطية والنهضة والتنوير منها إلى النص وحرفيته التي يعتمدها الجهاديون مهما تنوعت أسماؤهم وتنظيماتهم الإسلامية .. وهذه التنازلات والخطاب التجديدي هي ما لا تشير إليها الوقائع السياسية اليومية وما يستحيل على أي تيار سياسي أو فكري أن يقبل به ما دام متقوقعاً داخل صدفة الإيديولوجيا المنغلقة التي لم تتجاوز بعد المجالس الحسينية وحدود العام العاشر الهجري، وكم تمنينا لو استمعنا في الخطابي السياسي لحزب الله لكلمات من أمثال (الدولة الديمقراطية الحديثة _ العلمانية _ النهضة والخروج من الانحطاط في هذا المشرق العربي _ الحرية الاجتماعية _ ثقافة الحياة في مواجهة ثقافة الموت).
طبعاً حماس ليست أفضل كثيراً من توأمها في لبنان و وهي التي انقلبت على الفلسطينيين من جهة، وعلى نفسها وعلى الديمقراطية التي أوصلتها للسلطة من جهة أخرى، ويبدو أن العنف الثوري هذه المرة انقلب وبالاً على الفلسطينيين وعلَمهم ومنزل خليل الوزير وكوفية أبو عمار وكل ماله علاقة بتاريخ ومستقبل دولة لم تولد بعد، وهنا تعود إشكالية مفهوم الدولة عند حماس لتطرح من جديد كما عند حزب الله وعند كل من يؤمن بالعمل الميليشيوي الانقلابي على حساب العمل السلمي المدني الديمقراطي الذي لا تستوعبه أفكار ومرجعيات وأدبيات هؤلاء.
ما يمكن قوله أن هذه السمات اتسم بها الفكر العربي بكافة تياراته عبر عقود وقرون من الزمن، وتوقف الزمن عند حد معين، وسيطر المقدس والخط الأحمر الذي يستوجب تجاوزه تبعات كثيرة أقلها التخوين وآخرها التصفية كما حدث مع كثيرين من المثقفين النقديين ممن شكلوا خامة رائعة وإرهاصاً لفكر نقدي ديمقراطي حقيقي، وما تعرض له نصر حامد أبو زيد وسيد محمود القمني ومحمد شحرور وطه حسين وعلي عبد الرزاق من النفي والتخوين لا يختلف إلا بالأسلوب عما تعرض له مهدي عامل وحسين مروة وسمير قصير وغيرهم.
طبعاً ليس من السهل كسر هذا الصنم الذي يقيد الفكر ويلغي العقل ويكرس استبداداً متنوع المشارب والأسماء، ورغم أن العصر الذي نعيش فيه بكافة تحولاته الثقافية والسياسية ورياح التغيير التي تهب علينا تنبئ بمستقبل تسود فيه مفاهيم الحرية والديمقراطية على حساب الموروثات البائدة التي تحدثنا عنها، (وبعصر بلا مقدسات يعيد اصطفاف القوى والبشر) بحسب تعبير د. حازم نهار، فإن ولادة الجديد لن تكون يسيرة، وإلى هذا المدى الذي لا يبدو قريباً سيبقى المد و السيطرة لرواد المدارس السلفية بكافة تياراتها وإن اختلفت التسميات وسيبقى الخطاب النهضوي التجديدي الديمقراطي المنفتح على تجارب بلدان العالم الديمقراطي وثقافة مجتمعاته يعاني صعوبات جمة في مجتمعات صادرها الملتحون والمتعممون والجنرالات قبل أن يسلموها للاحتلال على طبق من خالص الفضة.
annahar.writer@gmail.com
* كاتب سوري