ياسر عرفات دخل المعترك الفلسطيني من خلفية “إخوانية”، وكان يملك الحسّ “الإنتهازي” الذي تتمتّع به كثير من الحركات الإخوانية. ولكنه، حتى في أيام سطوته، حرص على الدم الفلسطيني واعتبره “خطاً أحمر”. امتنع عرفات عن تصفية خصومه ومنافسيه في الساحة الفلسطينية، حتى الماركسيين منهم (الجبهة الشعبية، والجبهة الديمقراطية وحتى “الجبهة الثورية”!,,) ، رغم كل ما نعتوه به من أوصاف ونعوت. وحتى حينما قامت “فتح” بتصفية تنظيمي “الصاعقة” و”القيادة العامة” السوريين (تحت قشرة فلسطينية شفّافة)، في مطلع الحرب الأهلية في لبنان، فإنه حرص على إنقاذ حياة أحمد جبريل الذي كان وقع أسيراً في أيدي الفتحاويين، وأطلق سراحه في اليوم نفسه ليعود إلى سوريا ويستمر في عمليات التهريب وتبييض الأموال وتنفيذ مخططات المخابرات السورية إلى يومنا هذا.
هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فقد عمل عرفات (بسيّئاته وحسناته) لانتزاع إستقلالية القرار الفلسطيني من الدول العربية التي كان همّها “إستعمال” الفلسطينيين. وكانت هذه نقطة خلافه الأساسية مع النظام السوري، ليس في عهد حافظ الأسد فحسب، بل وحتى في العهد البعثي السابق له (عهد صلاح جديد). إستقلال القرار الفلسطيني كان أيضاً “خطّاً أحمر” في نظر أبو عمّار. كما كانت أحد نقاط خلافه مع النظام الليبي، وغيره.
ما تقوم به حركة “حماس” اليوم في قطاع غزة (آخر الأخبار تتحدث عن إحتلال “مقر الرئاسة” الفلسطينية في غزّة) يخرق هذه الخطوط الحمراء في النضال الفلسطيني. وخصوصاً حينما تعلن حركة “حماس” الإيرانية (والخليجية) التمويل أن تصفية قوات “فتح” في القطاع هي “عملية تحرير ثانية لغزّة”. أي أن مقاتلي “فتح” هم في مرتبة “جيش الدفاع الإسرائيلي” الذي انسحب من غزّة قبل سنتين.
هذا التشبيه يعني إسقاط “الحَرَم” على إراقة الدماء الفلسطينية في إقتتال داخلي، بل ويعني أن “المدنيين الفلسطينيين” الموالين لـ”فتح” باتوا عرضة للإنتقام والتصفية! ألا تصرّ “حماس” على عدم التمييز بين العسكريين والمدنيين في إسرائيل؟ فلماذا تميّز، إذاً، بين “المسلّح الفتحاوي” والمدني الفلسطيني المؤيّد لـ”فتح”، طالما أن تحرير غزة من “فتح” يعادل تحريرها السابق بفعل الإنسحاب الإٍسرائيلي؟ (ينقل مراسل “الفيغارو” في مقال منشور في “الشفّاف”، مشاهد إطلاق مقاتلي “حماس” النار على مظاهرة سلمية تطالب بوقف الإقتتال، وردّ فعل الجمهور الذي بدأ يرّدد “شيعة، شيعة”. وهذا المشهد، من جانبيه، هو من أحطّ ما وصل إليه النضال الفلسطيني في تاريخه المديد).
والأخطر أن يقوم فريق فلسطيني، ولأول مرة في تاريخ شعب فلسطين، بـ”تقسيم” ما تبقّى من الأرض الفلسطينية. فالسيّد إسماعيل هنيّة، ورئيسه خالد مشعل المقيم في دمشق، يعلمان أن أقصى ما تطمح له “حماس”، الآن، هو السيطرة على قطاع غزّة مقابل سيطرة “فتح” ومنظمة التحرير على منطقة الحكم الذاتي في الضفة الغربية. أي “تقسيم” الشعب الفلسطيني “في الداخل” إلى قسمين. وإلى “دويلتين” و”سلطتين”. وهذا مطلب إسرائيلي قديم.
بعد إسقاط “الحَرَم” على إراقة الدم الفلسطيني في إقتتال داخلي، ماذا يبقى من “الخط الأحمر” العرفاتي الآخر، وهو الحفاط على إستقلالية القرار الفلسطيني؟ عملياً، لا شيء. “غزّة حماس” الجائعة، والعاطلة عن العمل، ستتحوّل إلى ورقة إيرانية أو إيرانية – سورية في أفضل الأحوال. أي أن شعب غزّة سيصبح “ورقة” في مفاوضات الملفّ النووي الإيراني، وفي المناورات السورية-الإسرائيلية. إلا إذا كان السيّد خالد مشعل يملك أوهاماً حول قدرته على اتخاذ مواقف “مستقلة” من مكان إقامته، سواء في “دمشق الأسد” أو في “قطر الجزيرة”!
هذا حتى لا نسأل عما إذا كان السيدان خالد مشعل واسماعيل هنيّة يملكان أوهاماً حول قدرات “حماس” العسكرية للتصدّي لعمليات التوغّل العسكري التي قد يقوم بها الجيش الإسرائيلي في “حماستان” التي ستفقد أي تعاطف عربي ودولي، باستثناء ما يمنّ به عليها النظامان الإيراني والسوري وقناة “الجزيرة”.
*
ياسر عرفات “الإخواني” كان يدرك، بغريزته السياسية، أن الفلسطينيين أحد أفضل شعوب المنطقة تعليماً، وأنهم “شعب صعب”، يتوزّع بين إيديولوجيات وتيّارات كثيرة. لذلك، لم يسعَ عرفات إلى فرض إيديولوجيته الإخوانية على الفلسطينيين. كان عرفات يريد أن يكون “قائد الشعب الفلسطيني”، بإسلامييه وماركسييه وقومييه، وحتى بعشائره وانتماءاته المناطقية. بالعكس، تعمل “حماس” الأصولية والشمولية على إعادة قولبة الشعب الفلسطيني، وتراثه الثقافي وحتى الفولكلوري، في هجين “إخواني-إيراني”، أو “طالباني-خميني”. وهذا سيكون وبالاً على الشعب الفلسطيني.
*
أخيراً، نفترض أن “حزب الله” يشعر أنه يشارك “حماس” في انتصارها (هل بدأ “توزيع البقلاوة” في مناطق حزب الله؟)، وهذا طبيعي. فالإيدلوجية الشمولية متشابهة والتمويل واحد، ولو أن حزب الله أكثر إنسجاماً من زاوية “طائفية-إيديولوجية”. كما أنه “أرقى” تنظيماً، بالمعنى “الفاشي” للتنظيم.
إذا كانت “حماس” قد رَهَنَت إستقلالية القرار الفلسطيني للمصالح الإيرانية والسورية، فهي لا تختلف كثيراً عن الحزب الإلهي في لبنان، الذي أعلن أمينه العام، في مهرجان شهير بصالة “الأونيسكو” في بيروت، “البيعة” لمرشد النظام الإيراني، آية الله خامنئي. وهو نفس الحزب الذي يحتلّ وسط بيروت منذ أشهر لحماية نظام الأسد من المحكمة الدولية التي قد توجّه له أصابع الإتهام في حفنة صغيرة من الجرائم التي ارتكبها منذ 37 عاماً (المحكمة الدولية لن تحاسب النظام السوري على جرائم حماه، أو سجن تدمر، أو على عشرات الألوف من السوريين الذين “اختفوا” في السجون السورية..).
إذا كان “تقسيم فلسطين” وإقامة “دولة حماس” في غزّة إنتصاراً يعادل تحرير غزّة من الإحتلال الإسرائيلي، فهل تمثّل “دولة الأمر الواقع” التي يقيمها “حزب الله” في ضاحية بيروت وفي أقسام من الجنوب والبقاع إنتصاراً لـ”الحزب” على الدولة اللبنانية “العميلة” كما يصفها هذا “الحزب” ورعاته الإيرانيون والسوريون؟
حزب الله يعلن، دائماً، أنه ضد “الحرب الأهلية” في لبنان. هذا مطمئن. ، هل إراقة الدم اللبناني في إقتتال داخلي “حَرَم” يرفض الحزب إنتهاكه في أي حال من الأحوال؟ هذا ما يبقى رهن المستقبل. لكن من الواضح أن “الحزب” الذي يعتبر نفسه “إمتداداً” للجمهورية الإسلامية و”حليفاً” للجمهورية البعثية، ليس في وارد الإكتراث بــ”استقلالية القرار اللبناني”. في السياق نفسه، فالمواطنون الشيعة في لبنان هم أيضاً من أفضل اللبنانيين تعليما،ً وهم أيضاً جماعة “صعبة” يصعب تذويبها في بوتقة واحدة، وخصوصاً إذا كانت بوتقة “أصولية”. مع ذلك، يطمح حزب الله إلى فرض نمط حياةٍ (وموت) على “المواطنين اللبنانيين” الشيعة هو على نقيض رغد الحياة اللبناني، وعلى نقيض التجربة الديمقراطية اللبنانية.
من هذه الناحية، يمكن القول أن حالة حزب الله أسوأ من حالة “حماس” الفلسطينية. فحتّى الآن، لم نسمع أن السيّد إسماعيل هنيّة، أو السيّد خالد مشعل، اتخذ لنفسه صفة “الإمام” أو صفة “الفقيه”! ولم تتحدّث “حماس”، حتى الآن، عن “تكليف شرعي” للمواطنين الفلسطينيين بالإقتراع لمن يعيّنه لهم “ولي الأمر” الإيراني!
webmaster@metransparent.com