تحتفظ التجربة اليابانيّة بعد الحرب العالميّة الثانية بخصوصيّة غير عاديّة تقيم فيها شجاعة غير عاديّة بدورها. فالبلد الذي ضُرب بقنبلتين نوويّتين أميركيّتين، ووضع له الجنرال ماك أرثر دستوراً يزعزع مقوّمات حياته التقليديّة ويعتدي على أليفها، اعترف بأنه مهزوم، وبأن المهزوم ينبغي أن يقرّ بهزيمته من دون مواربة أو تأتأة، وأن يدفع أكلاف مسؤوليّته عنها. غير أن نُخب اليابان ذهبت خطوة أبعد، فدعت الى «معانقة» الهزيمة، قاصدةً عيشها على نحو حميم والتصالح معها، ومن ثمّ التعلّم من الطرف المحتلّ الذي ألحق الهزيمة بالأمّة اليابانيّة. ذاك أن من ينتصر في حرب ما لا بدّ أنه يملك من أسباب القوّة، دون أن يملك بالضرورة من أسباب العدل، ما يمكن تعلّمه منه. أما الذي ينهزم في حرب مديدة ومعقّدة كالحرب العالميّة الثانية، فلا بدّ أن أموراً كثيرة يعوزه تعلّمها.
ما من شكّ في أن الدروس التي تعلّمها اليابانيّون من هزيمتهم، والتي خرجوا بعدها عملاقاً اقتصاديّاً على صعيد كونيّ، تختلف جذريّاً عن تلك التي تعلّمها من هزائمهم العرب. فلا حروب 1948 و1967 و1973 و1982 كانت كافية لإقرارنا الصريح والقاطع بأننا مهزومون، ولا المسار الذي آل في خاتمته الى دمار العراق وعيش لبنان على حدّ السيف وانبعاث الوعي الأصوليّ – الإرهابيّ واستسهال سفك الدم وشيوعه وتردّي حريّات المرأة وأوضاع الاقتصاد والتعليم والمؤسّسات عموماً بدا كافياً لانتزاع هذا الإقرار منا.
والنهايات المريرة التي نرسو عليها الآن ما هي، في وجه أساسيّ من وجوهها، إلاّ حصيلة إصرارنا على مطّ مرحلةٍ انتهت، ورفضنا الاعتراف بأن المواجهات الكبرى تُختَتم بنهايات مثلما تُفتَتح، هي إياها، ببدايات. وثمة من يقول، معارضاً وجهة النظر هذه، إن العرب أقرّوا بهزائمهم واستسلموا، بدليل المواقف السلميّة التي تبنّاها الرئيس ياسر عرفات، ومن بعده الرئيس محمود عبّاس، من غير أن تجد استجابة إيجابيّة في الطرف المقابل. ويقال أيضاً، في سياق مشابه، إن أكثريّة العراقيّين كانت مؤيّدة للحرب الأميركيّة لدى حصولها، ما يعني قيام استعداد خصب للتفاهم مع «الغرب» والولايات المتّحدة تحديداً. وفي آراء كتلك صواب مؤكّد. ذاك ان الاستجابات الإسرائيليّة والأميركيّة لم تكن في غالبها من النوع الذي يساعد على تطوير مواقف تسوويّة عربيّة، بل ان الكثير منها، بجلافته أو طمعه أو غبائه، عزّز من المواقف العربيّة بعض أشدّها تصلّباً ورفضيّة. مع هذا، يُستحسن عدم الاكتفاء بالحجج السياسويّة الضيّقة على النحو الذي يحجب رؤية الوقائع الأعمق والمجاري الأعند في الحياة العربيّة وفي صلبها المجتمعيّ. ذاك ان الوضع القائم اليوم عربيّاً، أقلّه مشرقيّاً، تعبير عن عسر ثقافيّ وحضاريّ لا نفعل إلا تقزيمه حين نقرأه أو نتعقّله تبعاً لمواقف السياسيّين وحدهم. فليس صدفة، مثلاً، أن المزاج الثقافيّ العربيّ بقي في تيّاراته الأعرض رافضاً كلّ اتّجاه سلميّ وتطبيعيّ «مع العدوّ الصهيونيّ». وليس صدفة، أيضاً، أن كلّ تأزّم يطرأ على مسارات العلاقة بـ»الآخر»، نعالجه باشتداد ساعد الحركات الأصوليّة وتعاظم قوّتها. كذلك ليس من الصدف أن مصر، على رغم مرور قرابة عقود ثلاثة على صلحها مع إسرائيل، تمسّكت بـ»سلام بارد» لم تتزحزح عنه قيد أنملة، أما لبنان فتمسّك بـ»المقاومة» على رغم الانسحاب الإسرائيليّ الى ما وراء الحدود الدوليّة، فيما لا يزال مشكوكاً فيه تمام الشكّ ما إذا كانت سورية تؤثر استعادة الجولان والتخلّي عن الدور الامبراطوريّ في المشرق، ولو مورس كاريكاتوريّاً، أم إذا كانت تبغي العكس.
ويُستدلّ، فوق هذا، على نوازع التصلّب الذي يضرب شراييننا في ذاك الاستعداد «الجماهيريّ» و»النخبويّ» الواسع للتسامح مع أنظمة استبداد راسخ لمجرّد زعمها، وهو مجرّد زعم، أنها تتصدّى لـ»الامبرياليّة والصهيونيّة»، أو التسامح الآخر الذي تُبديه الفئات الحديثة الواسعة نسبيّاً حيال ظاهرات تخلّف وتأخّر وظلاميّة لا يرقى شكّ إليها، لمجرّد أن الظاهرات تلك صادرة عن بيئة «مقاوِمة»، أو السكوت على مداخلات إقليميّة، كتلك الإيرانيّة، معروفٌ أن انعكاسها الوحيد على أوضاعنا عسكريّ بحت لا تخالطه منفعة، اقتصاديّةً كانت أم غير ذلك، أو الميل المبالغ فيه الى توكيد «انتصارات» هي دوماً الى الهزائم أقرب. فهذا التطلّب المزمن، وإن بلغ أوجه في حرب الصيف الماضي، ينمّ بفصاحة ما بعدها فصاحة عن مزاج عام لا يرى إلاّ الحروب سلعة تُصرف في أسواق سياساتنا الشعبيّة والشعبويّة. أما الحجّة العراقيّة فتندرج في السياسويّ هي الأخرى، وإن قدّمت عنه صيغة أكثر تعقيداً ومداورة من تلك المتّصلة بالنزاع العربيّ – الإسرائيليّ. ذاك أن الأكثريّة العراقيّة التي أيّدت الحرب (وهي حرب لا تستحقّ أن تؤيَّد) وقفت في وجه أكثريّة عربيّة ناوأت الحرب (لأسباب غير الأسباب التي تحمل على مناوأتها). ثم ان تأييد الحرب، على ما تبدّى لاحقاً، لم ينفصل عن وعي ثأريّ مشوب بالاستقالة من المسؤوليّة الذاتيّة: فالمطلوب من الولايات المتّحدة، عند مؤيّدي حربها، إطاحة صدّام حسين و»اجتثاث» البعث وكفى المؤمنين القتال. أما صوغ عراق جديد، على ما زعمت واشنطن، فقد واجهته معارضةٌ حادّة وراديكاليّة قبل أن يتعرّض ذاك الزعم لامتحان فعليّ. وأخيراً، ما لبثت عراقيّة ما بعد صدّام، في مناخ من التفتّت الإقليميّ المرفق بصعود الهويّات الصغرى، أن تفرّعت عراقيّات أهليّة عدّة تنتج كلّها، وكلّ منها بطريقتها، وعياً مضادّاً للحداثة ولـ»الغرب».
ومرّة أخرى، لا بدّ من التشديد على أن القسوة الأميركيّة – الإسرائيليّة، وبعض نُصبها مخيّم جنين وقانا وأبو غريب وغوانتانامو، توفّر المبرّرات للذين يريدون استئناف القتال والممانعة، كما توفّر مبرّرات مشابهة للذين يريدون أن يحكموا بالعسف، ولأصحاب «بيروقراطيّات» المصالح الحربيّة الصغرى، ماليّة كانت أم ثقافيّة أم تصدّراً ووجاهة سياسيّين. غير أنه لا بدّ من التشديد، في المقابل، على أننا مهزومون، وكلما سارعنا، نُخباً ومجتمعات، الى إعلان الحقيقة تلك ساهمنا في وقف ما ينزل بنا من آلام ومهانات وتفسّخ. أما توسيع نطاق تلك المبرّرات للقول إن الحقبة التي نعيش، بتخلّفها وبؤسها، ما هي إلا نتاج السياسات الأميركيّة والإسرائيليّة، فسبب أدعى الى الجهر بهزيمتنا، والأسرع الأفضل. ذاك أن هذه الحقبة ينبغي أن تنتهي، وهي لن تنتهي علينا سمناً وعسلاً بطبيعة الحال، إلا أن انتهاءها السريع يوقف التدهور عند حدّ، وقد يفتح الباب لإعادة تأسيس أكثر تواضعاً وأشدّ مطابقة لواقع الحال.
وغالب الظنّ ان الخروج من الهزيمة المتمادية والمتنامية هذه أوّله الاعتراف بها بوصفها كذلك. وهو ما لا تستجيبه إطلاقاً أجندة الديموقراطيّة التي تفترض ضمناً أن مجتمعاتنا وثقافاتنا ينبغي أن تُكافأ بإزاحة الطغيان السياسيّ عن كاهلها، بينما المسألة الفعليّة تتّصل بتلك المجتمعات والثقافات قبل اتّصالها بالأنظمة.
كاتب ومعلّق لبناني*
(الحياة)
إنهاء الحقبة الراهنة حتى لو كان الثمن الاستسلام!
الفكرة الأساسية للمقال رائعة وشجاعة، لكننا نلمح بين طيات السطور أن الكاتب أيضاً مازال غير قادر على الإقرار بأبعاد الهزيمة حتى أعماقها، فعندما يقول مثلاً: الاستجابات الإسرائيليّة والأميركيّة لم تكن في غالبها من النوع الذي يساعد على تطوير مواقف تسوويّة عربيّة
فإنه يعجز عن الاعتراف بأن هذه الاستجابات هي نتيجة اضطرارية لردود أفعالنا المعاندة والمشينة.
إنهاء الحقبة الراهنة حتى لو كان الثمن الاستسلام!
هذه هي مشكلة العرب والمسلمين..لو اعترفوا انهم متخلفين ويعيشون على قارعة الحضارة العالمية لكان هناك امل في تقدمهم.