تعتبر “القضية الكردية” في العراق إحدى المعضلات القومية التي فشل السياسيون العراقيون والعرب في التعامل معها حضارياً منذ إلحاق منطقة كردستان بالدولة العراقية عام 1923.
وفي كل أزمة كبيرة تصيب العراق تعود القضية الكردية إلى البروز كمشكلة ملحقة بتلك الأزمة، ولا تهدأ آثارها إلا باستخدام العنف المبالغ فيه ضد سكان المنطقة الأكراد. ولقد شهدنا أكثر أنواع العنف وحشية في ثمانينات القرن الماضي عندما استخدم صدام حسين الغازات السامة لإبادة سكان مدينة (حلبجة) وما حولها أثناء الحرب مع إيران.
إلا أن غازات صدام حسين لم تكن الأولى التي يتعرض لها الأكراد في شمال العراق، فقد استخدمت بريطانيا في 1921 الغازات ضد المقاتلين الأكراد الذين كانوا يطالبون بعدم ضم أرضهم وسكانها إلى الدولة العربية الجديدة (العراق) التي كان الشريف فيصل الأول يسعى لتأسيسها وحكمها.
ويعتبر الأكراد الموزعة أراضيهم التاريخية على العراق وإيران وتركيا من أصل (ميدي) إذ ينحدرون من سلالات جاءت من وسط آسيا منذ حوالي 2550 سنة قبل الميلاد، ويتحدث أبناؤهم لغة خاصة بهم تنحدر هي الأخرى من اللغات الهندو – أوربية القديمة، والأكراد آريون مثل لغتهم والكثير من عاداتهم، لا تربطهم بالعرب أية صلة عرقية، أو طبيعية، لأن أراضيهم جبلية وعرة، شديدة البرودة، لكنهم أعطوا للعرب العديدة من القادة العسكريين والكتّاب والمفكرين والشعراء. ويقول مؤرخوهم إن الإسلام وصل كردستان قبل وصول جيوش سعد بن أبي وقاص، وعلى يد رجل اسمه (جايان الكردي) وابنه ميمون الذي روى عن أبيه بعض الأحاديث قبل سنة 18 الهجرية. وهي السنة التي وصل فيها الغزو العربي إلى حلوان وتكريت، ثم زحف على كرستان عندما أمر عمر بن الخطاب بفتح الجزيرة، أي الموصل وما حولها، وما يأتي بعدها.
ولأن كردستان تقع بين تركيا وإيران، كانت أرضها ساحة للصراعات العسكرية بين الطرفين، حتى سقوط الدولة العثمانية 1921، وإعلان الجمهورية التركية الحديثة على يد كمال أتاتورك عام 1923. إلا أن نهاية هذه الصراعات لم تجلب الهدوء إلى سكان كردستان، إذ طمع أتاتورك بضم كردستان العراق، التي كان يطلق عليها (كردستان الجنوبية) إلى كردستان الشمالية وإلحاقهما بتركيا، ومن هنا بدأ الأكراد صراعاً جديداً مع الإنكليز عندما انتدبت بريطانيا لإدارة المنطقة حتى جنوب ولاية البصرة، وصراعاً آخر مع الشريف فيصل الذي كان وقتها يفاوض لندن على تشكيل دولة العراق الحديثة على ولايتي بغداد والبصرة، ويطمع بضم الموصل وكردستان إليهما. وهذا هو موضع البحث الذي نتناوله في هذا العرض.
يحمل البحث عنوان ” كردستان العراق – الجذور التاريخية لمشروع الفيدرالية” أعده الباحث سعد اسكندر، وصدر عن مكتب النشر التابع لـ(معهد الدراسات الإستراتيجية-العراق) قبل شهر. والمعهد المذكور هو مركز للبحث، والتدريب، والنشر في نفس الوقت، يديره مجموعة من الأكاديميين العراقيين، سجل خلال سنة ونصف السنة من عمله نشاطاً ملحوظاً في إعداد البحوث والدراسات الطويلة ونشرها في كتب بلغت الـ 25 كتاباً خلال هذه الفترة القصيرة، ويعتمد في منهجه على العلمية والموضوعية الرفيعة فيما يعد وينشر. والكتاب الذي نعرض له يتميز بنفس المستوى العملي حيث لا تعثر على أية رغبة من الباحث للانحياز، فهو يقدم تاريخ تلك الفترة (1918-1923) من خلال وثائق الحكومة البريطانية، خاصة الرسائل المتبادلة بين الموظفين الإنكليز العاملين في بغداد وكردستان مع مرؤوسيهم في لندن، ليؤكد في النهاية أن أولئك الموظفين عملوا ضد إرادة وخطط الحكومة البريطانية فيما يتعلق بمصير كردستان وشعبها، ونجحوا في النهاية في حرمان الأكراد من الحق في تقرير مصيرهم كما وعدت بها حكومة العمال آنذاك، وضد تقديرات وزير المستعمرات ونستون تشرشل، الذي كانت له وجهة نظر استراتيجية صحيحة فيما يتعلق بشروط وعوامل الاستقرار الذي يمكن تحقيقهما للعراق والمنطقة، من خلال تأسيس دولة في كردستان يديرها ويحكمها سكانها، بدل ضمها إلى الدولة العراقية الجديدة، مما يهدد بصراعات إقليمية وقومية يمكن تجنبها من الأساس.
كانت الحرب العالمية الأولى قد أنهكت الإمبراطورية البريطانية مادياً وبشرياً، وعندما تولت مسؤولية الانتداب على المناطق التي انسحبت منها الجيوش العثمانية في مصر والعراق وفلسطين وكردستان والساحل الغربي للخليج العربي، وجدت حكومة العمال في لندن نفسها عاجزة عن الإنفاق على جيشها وموظفيها في تلك المناطق، لذلك وضعت خطة لإقامة حكومات محلية تسمح لها بسحب جنودها بعد تثبيت مصالح لها في المناطق التي تنسحب منها عسكرياً وإدارياً.
ما يعنينا في بحث سعد اسكندر هي الأحداث والتطورات التي شهدتها منطقة كردستان في تلك الفترة. ففي الوقت الذي كان فيه أتاتورك يسعى لضم كردستان الجنوبية إلى دولته الحديثة بعد أن فقدت الإمبراطورية العثمانية جميع مستعمراتها، كان الشريف فيصل بن الحسين، الذي وعدته لندن بإقامة دولة له على ولايتي بغداد والبصرة يعمل، بما عرف عنه من حنكة سياسية، لتكون لدولته حدوداً أكبر من الولايتين المذكورتين، وذلك بإلحاق محافظة الموصل ومنطقة كردستان. بينما كان الأكراد يطالبون بإقامة دولة قومية مستقلة على أرضهم.
في نفس الفترة نشب نزاع مواز في وجهات النظر على الجانب البريطاني بين الموظفين الميدانيين الإنكليز في مناطق الانتداب وبين وزير المستعمرات آنذاك ونستون تشرشل. وجاء النزاع الإنكليزي على خلفيتي وجهات نظر مثلها من جانب الموظفين السير برسي كوكس المندوب البريطاني السامي الأول في بغداد المكلف بتشكيل الدولة العراقية، تدعمه في ذلك السيدة جيرترود بَيل(1)، بينما مثلها في لندن تشرشل يدعمه هيوبرت يونغ مساعد سكرتير شعبة الشرق الأوسط في وزارة المستعمرات، الذين أوصيا بإقامة دولة مستقلة للأكراد تكون بمثابة حاجز يحمي الدولة العربية الجديدة (العراق) من أطماع الأتراك الذين عادوا يخططون للعودة إلى مناطق نفوذهم القديمة من خلال إثارة الشغب وأعمال العنف في كردستان والموصل وكركوك.
وبهذا تكون مسألة كردستان قد خضعت لثلاثة مستويات من النزاع، رغم أن مؤتمر (سيفر 1920) الذي صفى السيطرة العثمانية على الأقاليم التي احتلتها أوصى بمنح سكان كردستان حق تقرير مصيرهم. كذلك فعل مؤتمر القاهرة الذي ضم كبار الضباط والإداريين الإنكليز العاملين في مناطق الانتداب ورأسه ونستون تشرشل من 12 إلى ٢٤ آذار ١٩٢١ في القاهرة، والجلسة الثانية في القدس وأستمرت لغاية الثلاثين من آذار حيث جرى الإتفاق فيه على التعامل مع كردستان على ضوء مؤتمر سيفر “واقترح فيه الميجر يونك وكذلك الميجر نوئيل ، أن يمنح الأكراد حكومة لإدارة أنفسهم، وحتى تي إي لوارنس الذي كان متعاطفاً بشدة مع العرب ، كان رده على سؤال وجهه أليه تشرشل حول الموضوع يتطابق مع الآخرين، حين قال: من رأيه يجب أن لا يودع الأكراد تحت أشراف حكومة عربية”
كانت وجهة نظر تشرشل في مصير كردستان عملية، وذات بعد استراتيجي ذكي عندما حدد لهذه المنطقة مصيراً مستقلاً على غرار نيبال التي كانت الهند تطمع فيها.
“في لقائه بالملك فيصل في بغداد تشرين الأول من عام 1921، أسهب هيوبرت يونغ في شرح تصورات وزراة المستعمرات عن العلاقة بين إقليم كردستان الجنوبية والمملكة العراقية، مؤكداً على أن أهداف بريطانيا ليس دعم الإمبريالية العربية لفرض حكم عربي على الأكراد ضد رغبتهم، وإنما تشجيع القومية العربية، أي تلبية طموحات العرب في إنشاء دولة في المناطق العربية. وأضح يونغ أن الحل لا يكمن أيضاً في تحويل الإقليم إلى مجرد محمية بريطانية بحتة، إذ في كلا الحالتين ستستغل تركيا الكمالية استياء السكان الأكراد ضد بريطانيا وضد المملكة العربية. فالحل العملي للعلاقة بين الإقليم الكردي والمملكة العربية الجديدة حسب تصورات لندن هو الاهتمام بالمشاعر القومية الكردية عن طريق تشكيل كيان كردي منفصل يكون صديقاً للمملكة العربية ةيرتبط معها بعلاقات استراتيجية عسكرية واقتصادية وثيقة، فمن جهة سيكون الكيان الكردي درعاً متيناً يحمي العراق من التهديدات التركية، بينا سيزود العراق الكيان الكردي بالسوق والمنفذ البحري الهامين اقتصادياً” (ص 10-11)
إذن، كان تشرشل قد حدد هدف وزارته بجعل كردستان الجنوبية “متميزة عن البلدان العربية كما نيبال بالنسبة للهند” غير أن السير كوكس الذي تأثر بأفكار جيرترود بيل عن دولة عراقية تضم كل ولايات ما بين النهرين من جهة، وحماسته لأطماع الشريف فيصل بضم الإقليم إلى ولايتي بغداد والبصرة من جهة ثانية، عمل لإحباط مساعي لندن.
كان الملك فيصل يدعي أن كردستان هي أرض عربية، مما جعل كوكس يتآمر على وزارة المستعمرات، أولاً: بإرسال تقارير غير صحيحة عن نزاعات بين قادة الأكراد لا تسمح لهم بالإجماع على دولة مستقلة، ثانياً: بتأخير إرسال التقارير التي تدعم فكرة الاستقلال حتى بروز ظروف جديدة تعطل أهميتها.
مع ذلك، وفي صيف عام 1921 أمرت الحكومة البريطانية بإجراء استفتاء في كردستان حول مبايعة فيصل ملكاً على العراق، فجاءت النتيجة ضربة قوية لمحاولات كوكس وفيصل، إذ رفض غالبية الأكراد التصويت لقبول فيصل ملكاً عليهم. حيث كان الاستفتاء للتأكد من ادعاءات الضباط العرب في بغداد القائلة إن الأكراد يؤيدون الانضمام إلى دولة عربية يحكمها الشريف فيصل.
قدم الاستفتاء نتيجة حاسمة لما يريده الأكراد بالنسبة لمصير كردستان، مما دعم موقف تشرشل ويونغ، لكن فيصلاً، من خلال السير كوكس، قدم مشروعاً جديداً يقضي بضم كردستان إلى الدولة العربية على أساس فيدرالي، يُمنح فيه الأكراد حكماً ذاتياً كاملاً في مناطقهم، كما يسمح لهم باختيار موظفيهم الكبار. مع ذلك بقي تشرشل يدرس ويناقش المشروع ببطء انتظاراً لتطور وجهات نظر الحكومة البريطانية والبرلمان الذي كان يميل إلى فكرة الاستقلال تجنباً لمشاكل قومية مستقبلية. لكن سقوط حكومة العمال ومجيء المحافظين بدلاً عنهم، الذي صاحبه تغيير في سياسة بريطانيا تجاه كردستان الجنوبية إذ تم التراجع عن إنشاء كيان سياسي مستقل، ساعد كوكس على تنفيذ مشروعه عندما أصدر بياناً عراقياً – بريطانياً مشتركاً في كانون الثاني عام 1923 يطلب من الاكراد القبول بفكرة الفيدرالية مع العراق.
وعكس ما وعد به فيصل وكوكس الأكراد من حكم ذاتي، جعلت الدولة العراقية الجديدة كردستان تابعة لها، ومنفذة لقوانين بغداد المركزية في كل الشؤون. أكثر من ذلك قاومت رغبة الأكراد بالحق في التعليم باللغة الكردية، أو تعيين موظفين أكراد في المناطق الكردية وفقاً لرغبات السكان كما تعهد به مشروع الفيدرالية. ثم جاءت كل سياسات الحكومات العراقية منذ ذلك التاريخ حتى عام 1991، امتداداً وتقليداً لسياسة فيصل وأسلوبه المخادع في التعامل مع سكان كردستان، لذلك لم يجن الأكراد ولا العرب من الضم غير المشاكل والحروب الداخلية والتمردات على الحكومة المركزية وطغيان شعور التعصب لدى العراقيين العرب تجاه الأكراد، وإتهامهم بالعمالة للخارج في ثوراتهم القومية التي عادت تطالب بحقهم في تقرير مصيرهم بعد المعاناة التي ألمت بهم نتيجة ضم أرضهم إلى الدولة العراقية العربية!
لقد أكد الأكراد منذ صدور قرار مجلس الأمن عام 1991 الذي يحميهم من جيش صدام حسين وطيرانه، أنهم قادرون على إدارة منطقتهم وحكمها بأنفسهم من خلال انكبابهم على بناء كردستان وتنمية اقتصادياتها وبسط الأمن عليها عكس ما يجري في بقية مناطق العراق. رغم ذلك، ورغم فداحة تجربة الضم، ما زال الكثير من العراقيين والعرب يعتبرون حصول الأكراد على حكم ذاتي بمثابة تهديد للدولة العراقية بحجمها المصطنع الكبير، أسوأ من ذلك ينظرون بحسد إلى ما يحققه الأكراد من تطور مهم في مناطقهم التي عانت طوال 74 عاماً من حملات الجيش العراقي، التي اتسمت بالقسوة والتخريب المتعمد وتهجير السكان من مدنهم وأراضيهم وتوطين العرب فيها، كما كانت تفعل دول الاستعمار قبل مائة عام!
* كاتب وروائي عراقي يقيم في إنكلترا
arifalwan@yahoo.com
(1) يمكن الإطلاع على أفكار ورسائل السيدة بَيل وأفكار لورنس العرب في أرشيف المعهد على الرابط التالي: http://www.iraqstudies.org/