بعد أن نشرت مقالة عن التقويم الميلادي وصلتني بعض الرسائل، طالبتني ببعض التوضيحات والتفسيرات أو ذكر المراجع المعتمدة (الحمد لله لم تنهمر عليّ الرسائل بالمئات وتغرق إيميلي!!)/ لذا إرتأيت أن أصيغ هذه السطور بما يفي، لرفع اللثام عن بعض الإشكاليات العالقة.
بداية أذكّر بأني تناولت نظرية الباحث الألماني هربرت إليغ H. Illig التي طرحها في كتابه الذائع الصيت (القرون الوسطى المبتدعة) Das erfundene Mittelalter ، والذي صدر عام1998 وأحدث دويّا، هزّ قيلولة الأوساط الأكاديمية. وللتذكير، فقد طرحت نظريته على عجالة وأشرت إلى أن الكاتب استطاع بجهد علمي رصين أن يعثر على ثغرة زمنية في جدار التقويم الميلادي، تمتد من سنة 614م حتى911م. وحسب رأيه يمكن اعتبار هذه الفترة، زمنا شبحيا خاليا من التاريخ، ويمكن شطبها وإزالتها من التقويم الميلادي بدون رحمة، رغم أنها تربوعلى 297 سنة. فكل ما تحتويه من سلاسل ملوك وبابوات وحروب، وأحداث، هي فراغ تاريخي، وبهذا يصبح شارلمان (768م،814م) مؤسس المسيحية الأوروبية، حسب هذه الدراسة، أحد أهم الضحايا، إذ يمكننا اعتباره أيضا شخصية أسطورية، فبركتها الأجيال المتأخرة!! وقد اعتمد الكاتب على دراسات مقارنة لمجمل الأحداث والآثار المنسوبة لتلك الفترة (كرونولوجيا، مسكوكات، عمارة كنائس، تقارير فلكية ، بروتوكولات ، أدب ، شعر….) واستطاع أن يطمئننا ويقول لنا: ضعوا أرجلكم بماء باردة ، فنحن ما نزال نعيش..بحدود عام 1710 ميلادي!! ما قدمته للتو هو خلاصة لعمل بحثي مسهب ومعقد، تتشابك تفصيلاته. ولتوضيح الصورة، (أرجو أن لا زيدها إبهاما وغموضا)، أجد من المناسب القول أن الكاتب تناول فترة شارلمان تحت مجهره، حيث درس ما يسمى بالحوليّات الملكية، التي ذكرت عصره ومآثره كمؤسس لأوروبا المسيحية (أو بلاد الفرنجة) ثم تناول بشكل تفصيلي عمارة الكنائس وتطور بناء القبب.. ومنها خلص إلى البرهان على فرضيته المذكورة. لكني سأكتفي بجزء فلكي تفصيلي، شكّل للكاتب مفتاحا أساسيا لفتح بوابة هذا البحث الفريد:
أول من التفت إلى ضرورة إصلاح التقويم (الكالندر) كان يوليوس قيصر( 44 ق.م). آنذاك كان الرومان، يعتمدون مزيجا من التقويم القمري، ونظام السنة المالية (Fiskal، وكانت الخطوة الأولى بالعودة، إلى النموذج المصري(الشمسي) المعروف منذ 238 ق.م بتشريع كانابوس، وهو يعادل دورة الأرض حول الشمس، في 365 يوم مع إضافة يوم كل أربع سنوات ( كبيسة). لكن وقبل التعرض إلى اصلاح البابا غريغور الثامن، التي حدث عام 1582م أرجو أن نتوقف عند هذا الجدول :
نوع التقويم طول السنة كمية الإنحراف
الفلكي( بواسطة الأجهزة الحديثة) 365يوم 5ساعات 48 دقيقة 46 ثانية 0
الغريغورياني(البابا غريغور) 365يوم 5ساعات 49دقيقة 12 ثانية +26 ثانية
اليولياني (يوليوس قيصر) 356يوم 6 ساعات + 674 ثانية
من الجدول أعلاه، يمكننا ملاحظة الخلل وكمية الإنحراف في التقويم اليولياني، فسنته، تزيد عن السنة الفلكية بمايعادل 11دقيقة. هذا يعني أن الإنقلاب الربيعي (في 21 آذار) وتساوي الليل والنهار، سيختل مع مرور الزمن. وعليه يمكننا حساب الخلل الحادث، من يوليوس قيصر( 44ق.م) حتى البابا غريغور( 1582م) والذي يبلغ 12.2 يوماُ. لهذا السبب ولكي تعاد تركيبة السماء فوق روما (هكذا في اللغة القديمة)، قرر البابا غريغور إصلاح التقويم، وقد أنجزه بتمزيق عشر أوراق من أيام الروزنامة مرة واحدة، والقفز من 4 أكتوبر إلى 15 اوكتوبر!!! السؤال يكمن هنا؟؟ كيف استطاع البابا من خلال حذف عشرة أيام، إعادة النظام الفلكي فوق روما (وقد عاد فعلا)؟ ماذا عن 2.2 يوم المتبقية من الخلل اليولياني المتراكم، والتي تعني بلغة السنين ما يعادل 297 سنة!! (أرجو القيام ببعض الحسابات البسيطة للتأكد).
طبعاَ هنالك من شعر بالخطأ، لهذا داخ الحسّابون، حتى عثروا على أسطورة تنقذهم من ورطتهم. فقد ادعوا أن إصلاحا آخرا كان قد حدث أثناء المؤتمر الكنسي الأول، الذي سمحوا له أن ينعقد في نيقيا عام 325م (وهذه قصة تضحك ربات الحجال البواكيا) فتشريعات وقرارات هذا المؤتمر، لم تتحدث مطلقا عن إصلاح للتقويم؟ لأنها ببساطة انشغلت بقضايا الهراطقة واليهود والجنس. لا بل يعتقد البعض أن مؤتمر نيقيا لم يُعقد إلا في أذهان اكليروس عصر النهضة. وهنا أجد الطريق إلى الباحث توبر (Topper) صاحب: التزوير في التاريخ الأوروبي Die Fälschung der europäischen Geschichte الذي اقتبست منه في المقالة الماضية: قررت الكنيسة بشكل نهائي، استخدام التقويم الميلادي عام 1443م، وحتى ذلك التاريخ كانت تستخدم تقويم IRA أو السنة الإسبانية المشابه للتقويم اليولياني( 44 ق.م) رغم أن أولى التوصيات بضرورة إعتماد السنة المسيحية، بدأت مع المؤتمر الكنسي، في تراغونا ( كاتالونيا) عام 1180م ، لكن تطبيق تلك التوصيات استغرق أجيالا، (بدأ تنفيذها فعليا في كاتالونيا وأرغون بحدود عام 1350م ثم فالانسيا، وفي كاستيليا بحدود عام 1382م أثناء حكم خوان الأول، أما في البرتغال فقد بدا التقويم الميلادي في زمن الملك خويو عام 1422م.) أما الأمر المهم الذي فضحه الكاتب، فهو طلب كونزانوس (اعتلى العرش البابوي لاحقا) في مؤتمر بازل 1332م طلبه من البابا، احداث حساب زمني (كالندر) جديد. وقد علل الأمر، بأن الكنيسة أصبحت محط سخرية الأوثان ( يقصد المسلمين) الذين كانوا أكثر تفوقا في هذا المجال!! وهنا يكشف النقاب عن أن مؤتمر نيقيا المزعوم عقد عام 666 يولياني (622م) ردا على ظهور الإسلام، وتأسيسا للكنيسة كسلطة عالمية، ثم تم ترحيل هذا المؤتمر لاحقا إلى 325م وبهذا فإن الفرق بين 622 و325 يعطي نفس الرقم 297سنة؟؟ وهي نفس المدة الشبحية التي تحدث عنها إليغ، وإن إختلف الباحثان في تحديدها على المسطرة الزمنية.
ما أريده من وراء ذلك الوصول إلى نتيجة مفادها: إن تاريخ أية دوغما دينية ارتبط دائما، بفضاء الحكاية والأسطورة، والتشافه (اصطلاح اقترحه: للنقل الشفهي) ووراء ذلك اختفت دائما هراوة السلطة والمصلحة وإرادة القوة المهيّمنة. فما ندرسه في كتب التاريخ ليس حقيقة (بل فتات لحقيقة غائبة). الأكثر من ذلك أن حاضرنا المعاصر يختفي أيضا وراء أكاذيب غوبلزية مخزية؟؟ فكل من قرأ عن حضارة الأنكا والأزتك في أمريكا الوسطى، لا بد سمع عن القرابين البشرية التي قدمها الهنود الحمر للآلهة، والتي تمت بصورة همجية مرعبة (كشق صدر الضحية بخنجر، وانتزاع قلبه وهو حيّ). هذه الصورة الدموية للهنود، رسمها أولا برنال كاستيو أحد الفاتحين الإسبان عام 1555م، وأكدها قائد آخر، في رسالة للملك الإسباني كارل الرابع، أثناء تدمير الإسبان وإبادتهم لحضارة الأزتك .. وهكذا استمرت هذه الأسطورة المرعبة عن الهنود، تحكم كتب التاريخ حتى عام 1982م، حيث توصل عالم الإثنيات بيتر هاسلر، من إثبات العكس. فقد تبيّن أن تقرير الإسباني كاستيو هو تلفيق وافتراء، لتبرير جريمة الإسبان بحق السكان الأصليين.. خمسمائة عام كنا نعيش فيها على كذبة مدججة بالنحوت والصور المزيّفة. أخيراَ ها كم هذه الحادثة فقد تلخص الكثير.
في كتاب: موسوعة التزوير لفيرنر فولد (Werner Fuld) يقرأ المرء عن قصة حيوان مثير وغريب، له جسم تمساح وسبعة رؤوس تشبه أفاعي شرسة في حالة الهجوم. هذا الحيوان كان قد حُنط ووضع في كنيسة في براغ لعشرات السنين، وأثناء الإجتياح السويدي (إبان حرب الثلاثين سنة) للمدينة، وقع هذا الحيوان، غنيمة حربية ذهبت للقائد السويدي، ثم باعه أحد ورثته عام 1720م بمبلغ عشرة آلاف من الفضة إلى تاجر ألماني، ليصبح من مقتنيات مجموعة التاريخ الطبيعي في هامبورغ. عام 1735 طلبت حكومة مدينة هامبورغ، من عالم الطبيعيات كارل فون دينيه إضافة هذا الحيوان إلى موسوعته العلمية اللاتينية Systema Naturae، لكن العالم اكتشف المخادعة بسهولة: لقد كان هذا الحيوان الخرافي نسيجا من سبع أفاعي، فتحت بطونها في الوسط، ثم خُيّطت مجتمعة بمهارة فائقة، بعد أن حُشيّت بالتبن، لتبدو كجذع تمساح، تتقدمه سبعة رؤوس لأفاعي مرعبة؟؟ القصة لم تنته هنا، فقد توجب على هذا العالم مغادرة هامبورغ في نفس الليلة، كي ينجو بجلده!! بعد أن فضح أكذوبة، تقتات عليها السلطة. وما تاريخ الدوغما الدينية، في خلاصته العميقة إلا مخادعة أنجزت بمهارة وحيلة، وأحيانا بغباء وغطرسة، ولهذا كلام آخر.
naderkraitt@yahoo.de
الموضوع السابق:
نادر قريط : أكذوبة التقويم الميلادي!!
ما نزال نعيش بحدود عام 1710
مواضيع ذات صلة:
Did the Middle Ages Really Exist
Dr. Hans-Ulrich Niemitz