إذا صح ما تناقلته الأنباء عن قرب وصول قوات كردية للمشاركة في الخطة الأمنية الخاصة ببغداد (القدس العربي 26 شباط 2007) إلى جانب فيالق حكومة المالكي والقوات الأمريكية، تكون القيادة الكردية في العراق قد ذهبت، في مغامرتها هذه، بقدرها وقدر الشعوب الكردية إلى الغرق في مستنقع تأزم الاحتلال والمشاريع الإقليمية التي تتنشط شرق أوسطيا على قدم وساق انطلاقا من تداعيات العراق، وتناوب أعمال القتل والتهجير وجرائم اغتصاب، تتشارك بها قوات الشرعية الحاكمة ( وزارة الداخلية ) وتلك المحتلة (الأمريكية ـ البريطانية) مع الميليشيات النظامية وعصابات الارهاب، سواء بسواء، بفتاوى مستولدة من ثقافتين تكمل الواحدة الأخرى، واحدة تقول بمواجهة التكفيريين الإرهابيين، والأخرى تقول بشرعة المقاومة ضد الاحتلال والمتعاونين معه. فالرمال العراقية المتحركة، تكاد تودي بأقوى جيش في العالم، وتعجز قوى الاحتلال عن أن تجد لنفسها طريقا مشرفا للخروج منه، لقوة وشدّ التعقيدات الداخلية والإقليمية ذات البعد الدولي يظهر في ثالوث اللعنات:
ـ لعنة الاحتلال الذي لم يعد يعرف حجم احتلاله ولا مداه الزمني.
ـ لعنة تمركز الصراع الإقليمي في نقطة ملتهبة لشعوب المنطقة، وتداخل مصائر أنظمته الاستبدادية.
ـ لعنة الفوضى التي تستقطب كل المغامرات التي تفضي إلى أبواب جهنم الفتنوية حروب مذهبية وأهلية في فضاء الثروات المنهوبة.
كل المؤشرات تقول أن الوضع في العراق العربي قد بلغ نقطة التأزم التي لم تعد تنفع معها، فالعراق وقد دمرت سلطته المركزية، بعمودها الفقري الجيش والإدارة، منذ الأيام الاولى لسقوط نظام “صدام حسين”، غدا ملعب عبث الجيران الذين نقلوا إليه كل غسيلهم القذر، ومعاركهم المنظورة وغير المنظورة، سواء أكانت تركيا اللاعب المنافق على كل الموائد، أو إيران ومشاريعها الإمبراطورية المذهبية، للسيطرة على الخليج النفطي، أو سوريا حليفة إيرانوعصا جزرتها، أم الحكومات العربية السنية فاقدة الحيل والحَول ؟ عبث يوحي بأن المستقبل لن يعفي الحدود القائمة ومصائر شعوبها من المجهول والتغيير، بيوم سيبكي فيه الكثيرون على سايكس ـ بيكو.
يبقى من غير المفهوم والمستهجن هذه الاستضافة الجديدة للشروال الكردي الذي يترصده ألف لغم ولغم، ولا نعرف ما الذي يدور في ذهن القيادة الكردية وهي تغامر بهذه الخطوة غير المحسوبة، وكأنه لم يبق للكرد من هم غير ترف الانزلاق إلى هاوية الفوضى. خاصة وأن القيادة هذه، فوتت على نفسها وشعبها أكثر من فرصة تاريخية منذ العام 1991، مرورا بإقامة المنطقة الكردية الآمنة، وصولا إلى اشتداد الحصار على نظام صدام عشية سقوطه، إلى وسقوطه الذي حرر الكرد من كل الالتزامات والموانع القانونية والحقوقية في فوضى انهيار الدولة سلطة وشرعية دولتية.
لقد فوتت القيادة الكردية العراقية فرصا تاريخية لإعلان دولة كردية مستقلة في شمال العراق بما فيه كركوك، وملفاتها التي تذهب إلى التعقيد يوما عن يوم، منذ اليوم الذي أقرت له المنطقة الآمنة، وهي تتعفف عن إحراج الحلفاء الغربيين!!!، وهي لم تخطو الخطوة الصحيحة مع الحكومة المركزية العراقية طيلة سنوات الحصار حين كانت الحكومة المركزية، أحوج ما تكون إلى حل بالتراضي مع الكرد تذهب إلى حد الاعتراف باستقلالهم شرعا وقانونا أو على الأقل بدستورية حدود إقليمهم بما فيه كركوك. لقد أمضت القيادة تلك، عشر سنوات تتقاتل فيما بينها على إيرادات الجمارك والبحث عن الحظوة لدى الجيران للاستقواء بهم على بعضهم في ترسيم حدود عشائرها بدل تثبيت حدود كردستان الحقوقية والاقتصادية مع سلطة مركزية، كانت تنهار كل يوم على ضعفها وكثرة وشدة خصومها بمن فيهم الحكومات العربية كلها.
وها قد مضت أربع سنوات على سقوط السلطة المركزية في بغداد، وإيران والإطراف الشيعية تقضم العراق قطعة، قطعة، وتفككه حارة تتلو حارة، وقوى الإرهاب الدولي تفخخه جدارا، إثر جدار، وغدت أحلام الكرد بتصحيح وضع كركوك أسيرة استعصاءات أمراض النفس الخبيثة لجعفري والمالكي بوجوههم الكالحة، عن تنفيذ الاتفاقات التي على ظهور الكرد ومنطقتهم الآمنة أصبح هؤلاء المشبعون بالشعوذة المذهبية، حكام فعليين للعراق الذي حولوه إلى محمية إيرانية، هذا في الوقت الذي لا تنفك تركيا ترفع كل يوم البطاقات الحمراء والصفراء في وجه قيادة اقليم كردستان، عن حصتها في مناطقهم بحجة ضمان حقوق خمسة آلاف تركماني في كركوك، تعطي لنفسها حق تقرير مصير أكثر من ستة ملايين من الكرد، عنهم في أرضهم، وفضائهم، وغدا ربما يتدخل السيد أردوغان أو رئيس أركانه، في عدد وزمن ساعات نوم الكرد.
أن تركيا التي قسمت قبرص إلى دولتين أمام بصر وسمع العالم المتمدن/ الفاجر، بالشرعة الدولية لأجل مائتي ألف مستوطن تركي في قبرص، ها هي تتدخل في تفاصيل الحياة الكردستانية العراقية بحجة حقوق تركمانها دون أن نسمع من القيادات الكردية ولو من باب ردّ الابتزاز، والدفع بمثله موقفا، كردستانيا، في مواجهة تركيا التي تنكر لأكثر من عشرين مليونا من الكرد في كردستانهم الملحقة بتركيا الكمالية بشرعة الفجور القانوني الدولي، كما لا نسمع لهم، القيادة الكردية في العراق، رجاء وهم يرتادون مقامات الأئمة في طهران لرفع الحيف الإلهي عن عشرة ملايين كردي في كردستان إيران حين تتعاون الجيوش الإيرانية والتركية في قصف مناطقه بحجة مطاردة الثوار الكرد وهم هاربون هائمون من التعسف والطغيان التركي/ الإيراني، ما عدا التصريحات المرتجلة التي نسمعها من وقت لآخر من السيد مسعود البرزاني عن حق الكرد في الاستقلال قبل أن يطويها النسيان لتعود ثانية للحديث في مناسبة أخرى.
لقد كانت حاجة الإدارة الأمريكي للكرد، كذريعة، وفضاء لوجستي لاسقاط نظام صدام حسين، فرصة تاريخية لان يرفع الطرف الكردي المستقوي بمنطقته الآمنة، والمستقرة، اجتماعيا واقتصاديا شروطه ليس على الاحتلال وحده، بل على الطرفين الاقليميين الذين يحتلون أجزاء كبرى من كردستان يخضعون به أكثر من ثلاثين مليون كردي لعسفهم واضطهادهم بحرمانهم من معايير الحد الأدنى لشرعة حقوق الإنسان. لكن للأسف، بدل من ذلك أخضعت القيادة الكردية مصالحها الإقليمية ومصالحها الكردستانية لرغبات موظفين أمريكيين أمثال “خليل زاد” وقبله ” بول بريمير” بحجة الوفاء للأصدقاء، ومتى كان لأمريكا أصدقاء غير مصالحها الوقتية؟ ومتى كانت مساعدة الأصدقاء تتقدم على مصالح وحقوق الأمة والوطن؟
إن الحكمة والقدسية القومية، تحتم على القيادات الكردستانية في أن تلتف من حول القضية الكردستانية باعتبارها الحجر الأساس للأمن القومي الكردستاني في عالم يقوم على الأحلاف والاستقطاب والمصالح، في غابة متوحشة، فضلا عن أنه سيكون من الحماقة أن ينعزل الكرد، عن محيطهم الأوسع شرق أوسطيا، حليفهم الثقافي في الإطار الإسلامي واقصد الجماعة العربية، اقصد الشعوب العربية ونخبها المتنورة.
أن السياسات التي تؤسر القيادة الكردية العراقية تخسر القضية الكردية، بضم التاء، والشعوب الكردستانية كل يوم أرضية مشتركة، بدونها، سيؤكل الجميع يوم أكل الثور الأبيض، فالخصوم المحيطين بالكرد من الجشع لدرجة لن ترحم خصما عنيدا فكيف بحلفاء ضعفاء مثل الكرد الذين يتخلون طواعية عن سلاحهم الأقوى، ” الوحدة الكردستانية ” وفضاءها الجغرافي بثرواته الهائلة: المائية، والنفطية، على أطراف الحدود، وهم في المستوى عينه يخسرون الجمهور العربي المهزوم، والمنكفيء، بفعل استبداد حكامه وتداعي أنظمته في مواجهة الاحتلالات والصراعات المذهبية.
يغدو استمرار القيادة الكردية في تعاونها مع القوى الشيعية سكوتا، يحمـّل وزره كل الكرد، عن جرائم شركائهم قادة الميليشيا الشيعية في العراق: الجعفري والمالكي والحكيم فضلا عن الصدر و السيستاني في تنظيم وتنفيذ عمليات التهجير والقتل المنظم، وآخرها عمليات الاغتصاب الشائنة، ليس في عرف شعوب المنطقة وإنما في الأعراف الدولية لفحشها الإنساني. وأخشى ما نخشاه في ظل الإدانة الدولية الشعبية المتزايدة للاحتلال الأمريكي وأعوانه في العراق في فوضى الحرب الأهلية القائمة، أن يصبح الكرد موضع إدانة هذه الشعوب، التي طالما تعاطفت معهم بالنظر إليهم كضحايا سياسات عنصرية استبدادية.
أن الشرق الأوسط يذهب بخط مستقيم إلى استقطابات مذهبية متصارعة، تنذر بحروب أهلية بدأ اشتعال نارها، وفي الوقت الذي يحشد الجمعان حشودهما وثقافتهما التعبوية، تغط القيادة الكردستانية في نوم أهل الكهف فلا نرى لها طحنا، ولا نسمع لها حتى جعجعة، فما الذي يدور بخلدهم غير التشكرات التي أسبغها السيد “جلال الطالباني” على النظام السوري، المتواطىء مع أشد خصمين للكرد وكردستانهم، النظام الإيراني والدولة التركية، هذا في حين ضاق وقته عن استقبال القيادات الكردية السورية أكثر من نصف ساعة، فهل تكلموا في نصف الساعة هذه، في قضايا الكون والمجرات أم حدثهم عن لا حيله وضعف قوته أمام الحكيم والجعفري والمالكي. وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، في زيارته الأخيرة لدمشق، خرج زعيم الميليشيا الشيعية الشاب ” مقتدى الصدر” من القصر الجمهوري إلى مدينة ” الرقة ” ليزور المركز الشيعي الإيراني مقام ” ويس القرني” الذي أهداه حافظ الأسد للدولة الإيرانية.
ماذا لو أن النباهة أخطرت للسيد الطالباني زيارة الجزيرة وعفرين وكوبانة؟ لتقديم واجب العزاء لشهداء الكرد بدل تكلف عناء السفر إلى “قرداحة” ليبكي على قبر حافظ الأسد حسبما ذكرت الأنباء.
bachar_alissa@hotmail.com
* كاتب سوري