حينما تطرح قضية التجدد والحياة الجديدة أو الحديثة، فإن أول من قد يعتبر عدوّها، أو يقف ضد وجودها وتطورها، أو يستغلها ارضاء لتفسيره الديني وتماشيا مع مصالحه السياسية والاجتماعية والاقتصادية أيّما استغلال، هو صاحب الخطاب الديني ومفسر الدين الفقيه رجل الدين.
ورغم وجود أسباب عديدة ومتباينة تفسر ذلك العداء، إلا أن السبب الأبرز في هذا الإطار هو: الصراع بين العقل (الحر، المستقل عن أسر الماضي، المرتبط ارتباطا وثيقا بالحداثة) وبين النقل (أو الكلام التاريخي، الذي يستند أنصاره إليه في بناء الحاضر، كما يعتبر أساس منهج الخطاب الديني). والسؤال الذي يمكن طرحه هنا هو: لماذا برز الصراع بين العقل الحر وبين النقل التاريخي الماضوي؟ وكيف ساهم رجال الدين في هذا الموضوع؟ ولماذا – بالتالي – أصبح الفقهاء مناهضين للعقل الحر ومن ثم للحداثة والتجدد؟
يمكن وصف الحياة الجديدة بأنها ثورة في جميع أبعاد الحياة بما فيها الدينية. لكن الفقهاء رفضوا تلك الثورة وواجهوها بكل ما يملكون من سلاح، مستندين في ذلك إلى النقل أو النص التاريخي، واشترطوا لقبول أي منجز عقلي جديد، الذي لم يمس الوسائل فحسب بل المفاهيم، كما مس أيضا منهج التفسير الديني، أن يكون متوافقا مع التاريخ ومع التراث وبالتالي مع خطابهم الديني. فالبعض منهم أظهر قبوله لبعض أطر الحداثة ليستغل وسائلها لتحقيق مآربه السياسية والاجتماعية والمالية، فيما البعض الآخر واجهها بكل صراحة ووقف في الضد منها، وبالذات مفاهيمها التي باتت تشكل تهديدا رئيسيا لمفاهيمه القديمة التي يستند إليها لدعم سلطته الدينية.
لقد ظهرت، بفضل الحداثة، مفاهيم جديدة في الحياة، كما تغيرت العديد منها ممن كانت تمثل أسس الحياة القديمة. لذلك عارض الفقهاء هذا التجدد وواجهوا هذا التغيّر، وكانت المواجهة في كثير من الأحيان عنيفة، واعتبروا الأمر بمثابة تحد للدين ومن شأنه أن يعرض للخطر الصورة التاريخية الكامنة في ذهنهم بشأن الحياة.
فالحياة الجديدة هي انقلاب بكل المقاييس على الحياة القديمة، فكيف يمكن لأنصار القديم والماضي والتراث أن يقفوا مكتوفي الأيدي أزاء ذلك؟ كيف يمكنهم أن يستغنوا عن مفاهيم بنت لهم قوتهم وحضورهم في المجتمعات؟ وبما أن الشأن التقليدي المحافظ كان السمة البارزة للحياة القديمة، فإن الحداثة والتجدد هي سمة الحياة الجديدة.
وفي هذه الحياة الحديثة الجديدة، توجد علاقة وثيقة بين منابع المعرفة القديمة، التي كانت جزءا من حياة الإنسان وهي الآن في طور الزوال، وبين منابع المعرفة الحديثة. لكن كل قديم من شأنه أن يفنى ما دام الجديد قادرا على أن يحل مكانه. إن الحداثة، كما يشبه أحد المفكرين، هي بمثابة عملية استبدال الأجساد الميتة بأجساد جديدة حية. فالإنسان حينما يصل إلى مرحلة يستنتج خلالها أن الآلة المحركة لمنابعه لم تعد تشتغل بصورة جيدة، أو أنها فقدت تأثيرها في الحياة، فإنه يتجه بصورة طبيعية إلى منابع أخرى قادرة على الانتاج.
هذا المبدأ يعتبر، بالنسبة للتراثيين المحافظين أنصار الدين التقليدي من فقهاء ورجال دين، هو أحد الأخطار الرئيسية، إذ يستند اعتقادهم إلى عدم التفريط بالقديم ولو كان الجديد أفضل منه. مثال على ذلك هو الموقف من المفهوم الحديث لحقوق الإنسان، إذ في الحياة الجديدة تغيرت النظرة إلى الإنسان وظهر مفهوم جديد حوله وبات وجود الإنسان يستند إلى “حقه” في الحياة انطلاقا من استقلال عقله لا إلى ما يملى عليه من “تكاليف”. فمن خلال تلك الحقوق ظهرت التكاليف الواجب أن ينفذها، وانطلاقا من ذلك تغيرت النظرة إلى حقوق الإنسان، وبات احترام حقه في الحياة بغض النظر عن دينه ولونه وجنسه وجنسيته هو الأصل. في حين لا تزال النظرة الدينية الراهنة إلى الإنسان نظرة قديمة، نظرة تعتمد على النص التراثي الذي يكبل الفرد بأغلال تاريخية دينية واجتماعية. فلا يزال الدين (المسلم وغير المسلم) والجنس(الذكر والأنثى) والعبد والحر والنسب وغيرها هي معايير تحدد احترام الإنسان للإنسان. ولا يزال مفهوم المساواة بنظرته الحديثة يواجه صدا وتحديا من قبل الخطاب الديني وأنصاره. فالمسلم لا يزال يعيش تحت كنف مفهوم التكليف. فما يكلفه به رجل الدين الفقيه من أحكام دينية ودنيوية واجب عليه سمعها وطاعتها وتطبيقها حتى لو عارضت تلك الأحكام المبادئ الحديثة لحقوق الإنسان المتفق عليها دوليا أو تصادمت مع الدساتير المحلية الحديثة. فالذي له أولوية في الطاعة ومن ثم في التطبيق، وفق الفهم الديني، هو أحكام الدين المنطلقة من أفواه الفقهاء الناطقين باسم الله. فهو صراع بين العقل الحر والنقل التاريخي الديني الاجتماعي، الذي أفرز هذه المواقف وجعل لكل جهة فريقا يدافع عنها. فالعقل حينما تحرر من أسر الدين والتراث والنقل استطاع أن يحقق قفزات نوعية في الحياة، ظهرت نتائجها في التطور الذي نشاهد منجزاته راهنا في جميع مجالات الحياة، المادية منها والمعنوية وغيرها. وما معارضة رجال الدين الفقهاء لذلك التحرير إلا دليل على خوفهم من: فقدان سلطتهم الدينية، وضياع مصالحهم الشخصية.
ssultann@hotmail.com
*كاتب كويتي