غرس فينا أبي منذ الصغر أن من يفرط بأرضه يمكن بسهولة ان يفرط في عرضه (بكسر العين)، رغم أنى كطفل لم استوعب معنى كلمة “العرض” (بكسر العين)! ثم ذهبت للمدرسة، وأيضا تعلمنا كلمات مثل العرض (بكسر العين) والشرف وقيل لنا انه:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم.
وأعجبتني جدا هذه القصيدة من شعر المتنبي (أعظم من كتب الشعر العربي) ولكني لم اعد اذكر منها سوى هذا البيت، وبيت آخر يعجبني جدا من نفس القصيدة:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
رغم أنى وقتها كنت مراهقا ولم افهم بالضبط ما هو المقصود بالشرف، ولماذا الشرف “الرفيع” تحديدا هل هناك شرف رفيع وشرف تخين؟
ولما كنت مغرما بالسينما جدا فقد عرفت معنى آخر للشرف من الفنان العظيم يوسف وهبي عندما قال كلمته الخالدة:
“شرف البنت زي عود الكبريت.. ما يولعش إلا مرة واحدة بس”.
فعرفت ان الشرف الرفيع والعرض المقصود بهما فيما يبدو “شرف البنت”، او بمعنى أكبر شرف بنات القبيلة بشكل عام.
فعندما كانت قبيلة تهاجم قبيلة أخرى كانت تستولي على الغنم والإبل والنساء. والحقيقة التي فهمتها أيضا ان استيلاء القبيلة على أغنام وأبل القبيلة الأخرى مفهوم، لانه يمكن الاستفادة من ألبانها ولحومها أيضا. ولكني لم افهم تماما سر خطف النساء. وعرفت فيما بعد أيضا ان الهدف كان تمريغ شرف القبيلة الأخرى في الوحل، لذا كان يلزم على افراد القبيلة التي خطف نساؤها ان يحاولوا استعادة شرف القبيلة الرفيع بإراقة دماء القبيلة ألأخرى.
…
ولما كنت صغيرا لم أكن افهم السر في ان الشرف والعرض (بكسر العين) يخص شرف وعرض المرأة فقط، وماذا عن الرجل؟ ألا يكون لديه شرف؟ هل يمكن ان يكون شرف الرجل مثل الولاعة يمكن ان “تولع عدة مرات” بدون أي مشكلة؟ وبعدين فهمت السبب، وهو ان البنت تحمَل وتنفضح بعد عدة أشهر من فقدان “شرفها”! لذلك اخترع الطب موانع الحمل العديدة التي ساهمت في الإقلال من أهمية شرف البنت، وأصبح هناك مساواة بين شرف البنت وشرف الولد تقريبا. وأصبح العالم يهتم أخيرا بالشرف الحقيقي: مثل الأمانة والصدق واحترام العلم والعمل.
…
كانت هذه مقدمة طويلة لما حدث لي مؤخراً. فقد ورثت عن أبي وجدودي ارضاً خارج المدينة قمت بزراعتها لاستخدام أسرتي وأهلي، وما زاد عن حاجتنا نبيعه في السوق ونستخدم حصيلة البيع لشراء ما نحتاجه مما لا ننتجه.
وكنا نعيش بهناء وراحة بال إلى حد كبير. وفجأة، في صباح يوم سبت قبل نهاية سنة المحصول، فوجئت بمجموعة كبيرة من المسلحين تهجم على الأرض والبيت، وكان معهم بعض الجنود الذين يرتدون بدلات رسمية، ولم يتضح لي ان كانوا من الجيش ام من الشرطة او من قوات اجنبية!
ثم طلبوا منا جميعا الخروج من البيت رافعين أيدينا، ودخلت مجموعة منهم البيت وعبثت بمحتوياته بشكل بشع، ومجموعة أخرى قامت بحراستنا خارج البيت وطلبوا منا رفع أيدينا لاعلى والتوجه بوجوهنا إلى جدار البيت.
:وبعد عدة ساعات جاءني رئيسهم ولم يكن يرتدي أي زي رسمي، ووجه كلامه لي:
…
ودخلت مع أفراد أسرتي داخل البيت وهالنا ما أصاب البيت من دمار وفوضى، وبعد التشاور مع كل افراد الاسرة خرجنا بموقف واحد بإجماع الآراء.
وخرجت إلى قائدهم وقلت له بمنتهى الفخر:
وذهل قائدهم من قراري وقال: أنت مجنون!!
القضية الفلسطينية