(الصورة منقولة عن “الأخبار”)
أنا لا ألوم المتمسّكين بالسلطة، ألوم فقط هؤلاء الذين يظهرون استعداداً أكبر للانصياع.
توسيديدس (القرن الخامس ق.م.)
عيد العمل وعيد الاستقلال هما العيدان الرسميّان الوحيدان في لبنان حين تُلزم المؤسسات قانوناً بالإقفال في المطلق. عيدان استثنائيان في المبدأً، إلا أنهما أصبحا من دون محتوى، لا يرتكزان إلى واقع موجب بل إلى نقيضه. لذلك فالمناسبتان هما مناسبتا حزن لا عيد.
بدأت مرحلة فقدان لبنان لاستقلاله في العام 1969 باتفاق القاهرة مع المنظمات الفلسطينية. والهيمنة السياسية والعسكرية استمرت من قِبل النظام السوري، وهي لا تزال قائمة حالياً من النظام الإيراني. نصف قرن تقريباً من استقلال منقوص، نصف قرن من سياسات تابعة، خائفة، تنظر أولاً إلى مصلحة القوة المهيمنة التي تضع حدوداً سياسية وأمنية لا تسمح بتخطيها وإلا … إن كل مشاكلنا السياسية والاقتصادية والأمنية والخارجية، وحتى البيئية والنفسية، تنبع من مصدر أساسي واحد هو فقدان حرية القرار الوطني. وفقدان حرية القرار يستتبعه بالضرورة انحلال في المحاسبة وفساد نراه يتفشّى منذ سنوات من دون أي مساءلة. نعاني صامتين تحت ظلال الانصياع لسلطة خارجية تستعمل لبنان واللبنانيين، وحاضرهم ومستقبلهم، لمصالحها الخاصة. سوف يكون من المستحيل تخليص لبنان من أزماته المستفحلة من دون استعادة الاستقلال.
وعيد العمل هو أيضاً من دون موجب في لبنان. فالعامل اللبناني، بالتأكيد، لا يعيش حالة احتفالية وعيد العمل لا يعني له شيئاً. العامل اللبناني (والعامل، بمعناه العام، هو كل من عمل مقابل أجر) يعاني من تواطؤ قائم منذ بضع سنوات بين المؤسسات الخاصة والسلطات الرسمية التي تغضّ الطرف عن استبدال عشرات الآلاف من العمال اللبنانيين بعمال سوريين، مما يساعد المؤسسات الخاصة في خفض تكاليفها لمواجهة الكساد في أسواقها. هذا وضع فريد حقاً، إذ ليس من دولة في العالم يعترف مسؤولون فيها، كما في لبنان، بزيادة البطالة بمئات الآلاف من عمالها المواطنين من جراء استبدال هؤلاء، وبشكل غير قانوني، بعمال أجانب. ولا تفعل الدولة بكل مؤسساتها شيئاً إزاء هذا الواقع. الوضع القائم ليس أقل من مجزرة بحق العامل اللبناني الذي يتم استبداله بالعامل الأجنبي بشكل متفش وظاهر في كل القطاعات الاقتصادية، وعلى مستوى كل المهارات. إن جزءاً فقط مما يحدث للعامل اللبناني كافٍ في غالبية بلدان العالم لإثارة انقلاب سياسي أو على الأقل ثورة اجتماعية.
لا يجوز بتاتاً إلقاء اللوم على العامل السوري، وخصوصاً النازح، لأن لا خيار للنازح سوى العمل بأي أجر لكي يعيش وعائلته. هو لا يتحمّل أي مسؤولية عن الوضع القائم. اللوم يقع على السلطات اللبنانية، وهي المسؤولة الأولى لأنها لا تحترم القوانين وتعمل ضد مصلحة مئات الآلاف من مواطنيها بشكل لا مثيل له في العالم. واللوم يقع ثانياً على المؤسسات الخاصة التي هي أيضاً لا تحترم القوانين وتستبدل عمّالها اللبنانيين بعمّال أجانب لخفض تكاليفها وزيادة أرباحها نتيجة دفع أجور أدنى من دون تقديمات اجتماعية، محتفظة في الوقت نفسه بحرية طرد العامل الأجنبي عند الحاجة من دون أي تعويض أو إنذار.
مأساة العامل اللبناني أنه أصبح أعزل، وحيداً، ليس من يمثّله أو يدافع عن مصالحه، أو حتى على الأقل يعبّر عن هواجسه. فالنقابات العمالية اختفت فجأة، والأحزاب أو التيارات اليسارية يقتصر وجودها الرمزي على شعارات، لا علاقة لها بواقع المواطن أو العامل، تُطلقها في بضع مناسبات لتؤكد لنفسها قبل الآخرين أنها لا تزال فاعلة. وكل الأحزاب والتجمعات السياسية الأخرى تتجاهل الموضوع كلياً، وهو الموضوع الاقتصادي – الاجتماعي الأهمّ منذ الاستقلال. أما السلطات السياسية، التنفيذية والتشريعية وكل توابعها، فتوزّع اهتماماتها على أمور عدة لا يشمل أي منها المصالح العمالية أو حتى المصالح الاقتصادية عامة للمواطن اللبناني. وفي كل الأحوال، لقد اختفى “المواطن” اللبناني من العمل السياسي ومن الخطاب السياسي في لبنان لتحلّ محلّه “أقليات” مذهبية وطائفية تُستعمل عند الحاجة لتجنّب المساءلة والمحاسبة.
إذا تعذّرت، لأي سبب كان، إدانة المسؤولين أو إزاحتهم، كما هي الحال في لبنان، يجب على الأقل مضايقتهم، ليس بهدف المضايقة بل للتأكيد أن في لبنان مواطنين يرفضون واقعاً يتوجب رفضه. والاستمرار في المواجهة العلنية ضروري للتأكيد أيضاً أن السلطة، أي سلطة، تأتي من المواطن، وليس من فوق، ولا يحق للسلطة الاستمرار في الحكم والتحكّم من دون موافقة المواطن. كم أصبحت الممارسة السياسية في لبنان بعيدة عن هذا المبدأ الأول والأساسي في المجتمعات الديموقراطية!
أقترح على الحركات المدنية، وعلى كل مواطن ناشط، أن يركّزوا مطالبهم على نواحٍ محددة من الخلل في تصرفات السلطات إذ إنها تخفي عادة مراتب مختلفة وعديدة من الفساد. هل تعرفون أن المؤسسات العامة الأكثر أهمية، التي تنفق مليارات الدولارات سنوياً، لا تنشر أي ميزانية عامة وحساب أرباح وخسائر منذ سنوات عديدة، ولا مسؤول يبالي؟ لذلك، يجب المطالبة بنشر أرقام حديثة ومصدّقة عن وضع وعمليات كل المؤسسات العامة. فالقانون يفرض هذا الأمر، ومن حق المواطن طبيعياً الاطلاع على هذه الأرقام المتعلقة بمؤسسات يملكها هو ويغطّي خسائرها مباشرة من خلال الضرائب التي يدفعها، وبصورة أهم من خلال ان أي انهيار مالي سوف يتحمل المواطن عواقبه وسوف يُلزم هو، وليس من في السلطة، تمويله حكماً.
أشير تحديداً وأولاً إلى شركة كهرباء لبنان ومصرف لبنان، ومن ثم إلى كازينو لبنان وشركة انترا. والشركتان الأخيرتان هما مبدئياً شركتان خاصتان، إلا أنهما بمثابة مؤسسات عامة لأنهما تخضعان عملياً من خلال الإدارة والتعيينات للسلطات الرسمية، بالأخص لمصرف لبنان.
هذا مثال واحد صارخ، وثمة مسائل أخرى عديدة يمكن الحركات المدنية تسليط الضوء والأسئلة عليها، بالأخص في مجال الموازنة العامة. فمن المعلوم أن آخر موازنة عامة قانونية كانت للعام 2005. هذا وضع غير اعتيادي في أي بلد في العالم، ويتم الإنفاق العام منذ أكثر من عشر سنوات متوالية من دون موازنة أقرّتها السلطة التشريعية. إلا أن السلطات الرسمية في لبنان ليست متحمّسة لموازنة قانونية تقيّد توزيع نفقاتها. وتنفيذ الموازنة يتوجّب تساؤلات عديدة. نذكر على سبيل المثال واردات الضريبة على القيمة المضافة والرسوم الجمركية. فمجموع هذه الواردات تدنّى منذ العام 2010 بحوالى نصف مليار دولار إلى ثلاثة مليارات ونصف مليار دولار في العام 2015 في حين أن الناتج المحلي، الذي يمثّل اجمالي الحركة التجارية، ازداد بأكثر من الثلث خلال الفترة نفسها. لماذا هذا النقص الكبير في الواردات في مقابل ارتفاع لافت في الناتج المحلي؟ أوَ تعلمون أيضاً، في مجال النفقات مثلاً، أن المعاش التقاعدي للعديد من الأساتذة في الجامعة اللبنانية يتعدّى ما يعادل خمسين ألف دولارسنوياً؟ نعم، خمسون ألف دولار، أي أكثر من المعاش التقاعدي السنوي في العديد من أهم الجامعات الأميركية والأوروبية.
غضب دفين يعتمل في صدور العديد من اللبنانيين من كل الطبقات الاجتماعية والمناطق ضد المسؤولين السياسيين، غضب قد ينفجر يوماً بشكل غير متوقع. غالبية الغاضبين هم من العمال الذين يعيشون منذ بضع سنوات مرحلة هي الأسوأ في تاريخهم الحديث. السلطات السياسية والاقتصادية والدينية محظوظة لأنه ما من منظّم لهذا الغضب الذي قد يتحوّل ضدها، فجأة ومن دون إنذار.
gaspall5@cyberia.net.lb
كاتب وخبير اقتصادي