«إلى الشعب الكويتي الكريم.. شعبي العزيز:
من الجلي أنني سعيت وما زلت أسعى لتوفير جميع أسباب الرفاهية والطمأنينة لبلادنا العزيزة في السر والعلن. وما زلت أسمع ما لا أحب أن أسمعه عن بعض الشباب الذين لا يقدِّرون عواقب الأمور ولا ينظرون النظرات البعيدة، لكني أتحاشى تكديرهم، راجياً أن ينتبهوا من أنفسهم أو يسمعوا نصائح العقلاء. لقد نبهت المرة تلو المرة عن تكدير العلاقات بيننا وبين جميع أصدقائنا وإخواننا من العرب، وذلك حسبما تقتضيه مصلحة البلاد. إذ لا فائدة لنا من تكدير علاقات يجب المحافظة عليها طيبة ما أمكن، ولكن هؤلاء الشباب ركبوا رؤوسهم وتعاموا عن المصلحة العامة، حتى بلغ بهم الجهل إلى التمادي عليَّ شخصياً في المجتمعات، على رغم مما عرف عن عهدي من رفاهية وخيرات نحمد الله عليها ويغبطنا عليها الكثير من الأمم. أما الأخطاء والانتقادات التي يرون أنها موجودة في بعض الدوائر فإنها أخطاء لا يخلو منها أي بلد مهما بلغ من التمدن والنظام، وهي حالات صائرة إلى التعديل والإصلاح في القريب العاجل إن شاء الله. ولقد أوعزت بردع هؤلاء عن التمادي في جهلهم، مؤملاً أن يكون بذلك سد ثلمة قد تأتينا منها ريح لا نريدها. وكما قيل: «ومن السموم الناقعات دواء». وإني أرجو كل أفراد الشعب العزيز أن يهتموا بصلاح أمورهم الخاصة، وإن بابي مفتوح لمن يتقدم باقتراح أو شكوى أو بيان صحيح، ففي ذلك تعاون صحيح بين الحاكم والمحكوم ووطنية صادقة. أما الجهل فعاقبته معروفة. والله يهدى الجميع».
عبدالله السالم الصباح
حاكم الكويت (4–2–1959)
هذا الكلام قيل قبل 64 عاماً، فما أشبه اليوم بالأمس!
* * *
على الرغم من كل الحب والاحترام الذي نكنه جميعاً لحكامنا المحترمين، فإن للشيخ الراحل عبدالله السالم، نكهته الخاصة، وكان فريداً، حتى بعقاله الأبيض، وبما أنجز في فترة حكمه، القصيرة نسبياً (1950–1965).
في مقابلة للإعلامية نايلة تويني مع الشاعر والمفكر الكبير أدونيس، وأنا أحد أشد المعجبين بفكره، وصف العرب بالكسل، فهم يبحثون عن السهل من الأمور، ويتجنبون البحث والقراءة. وقال إنه لم يجد يوماً، على الرغم من كل قراءاته، حاكماً عربياً واحداً سعى للسلطة، وسأل نفسه كيف يبني مجتمعاً حراً وعادلاً، بل كان همه الاستمرار في الحكم، والاستفادة المادية من وضعه الاستثنائي!
لا ألوم مفكرنا الكبير عدم معرفته بشخصية الراحل عبدالله السالم، الذي كان ظاهرة ليس في الكويت ولكن في محيطها أيضاً، مع ضرورة وضع الأمور في إطارها الزمني، وسياقها التاريخي. كما أتمنى عليه، وعلى بقية مفكري الأمة، على ندرتهم، التخلي عن مشاعرهم الفوقية تجاه عرب الخليج، فلدينا حقيقة أمور تدعو للفخر، لكنهم غالباً لم يعرفوا بها، أو يسعوا لمعرفتها!
* * *
كانت امتيازات التنقيب عن النفط، منذ ثلاثينيات القرن الماضي، وفي كل دول المنطقة، تتم بين الحاكم وبين الشركات الأميركية والأوروبية. أي إن الشركة النفطية تدفع كامل حصة الحاكم مما تقوم باستخراجه من نفط، ليتصرف به بطريقته الخاصة. وحده عبدالله السالم، قام، ومن تلقاء نفسه، وبما اشتهر به من زهد وحكمة، بالتنازل للدولة عن «حقه»، ووجه كل العائدات لها، بعد إقرار دستور الدولة، وأصبحت الموازنة العامة تقر من البرلمان، وتخضع لتدقيق الجهات الرقابية. كما قام بالتنازل عن أرصدة حساباته الشخصية في البنوك البريطانية، التي تجمعت من عوائد البترول، للدولة، فشكلت تلك الأموال بداية استثماراتنا في الخارج، والتي تجاوزت اليوم 750 بليون دولار، وكل ذلك بفضل ما اتسم به من «إنكار للذات».
كما وافق على أن تحدد مخصصات أمير البلاد السنوية، بقانون، وهذا ما استمر العمل به حتى اليوم.
كما قام، وأيضاً بمبادرة شخصية منه، بالتنازل عن سلطاته المطلقة كحاكم، ووضع الأمر بيد الأمة، وجعلها مصدر السلطات. وفي عهده تم تنظيم أراضي الدولة، وسحب مساحات شاسعة منها من أيدي المتنفذين، وإقرار الدستور، الذي اعتمده من دون أن يجري أي تعديل على أي من مواده، وغير ذلك من منجزات لا نزال ننعم بها، والتي ربما لم يسمع بها مفكرونا… الكبار.
عبدالله السالم سيبقى رمزاً خالداً.
سمعت سيرة الشيخ عبدالله السالم، لأول مرة، من “معارض كويتي”. فالشيخ عبدالله السالم كان ممن يمكن أن يطلَق عليهم “الآباء المؤسّسين” لبلدهم ونظامهم. وهو “رمز” يلتقي عليه الكويتيون رغم كثرة تنابذهم. في فئة “الآباء المؤسسين” يفخر الأميركي بواشنطن وجيفرسون وهاميلتون، ويفخر اللبناني بـ”بشارة ورياض” العظيمين. هنالك طبعاً نوع من عنصرية “مشرقية” خصوصاً إزاء “الخليجيين”، وإزاء اليمنيين أيضاً. والشيخ عبدالله كان نموذجاً لما يمكن أن يسمّى “رجل دولة”. ومثله السلطان قابوس الذي ترجمت سيرته ونشره “الشفاف”: جهاز الإستخبارات العُماني: أول تجربة عربية للمصالحة مع المعارضة (إضغط هنا: https://wp.me/p6sGh8-blJ). عموماً، أدونيس ليس مرجعاً في حكام العرب. فيمكن للسعوديين مثلاً أن يفتخروا بإنجازات… قراءة المزيد ..