استغلال مراسم دفن المخرج السينمائي داريوش مهرجوئي وزوجته، وعلى رغم كل الجهود التي بذلتها أجهزة النظام الأمنية لكشف ملابسات الجريمة المروعة التي أصابت الوسط الفني والثقافي، لم تستطع إقناع الوسط المثقف والقوى الاعتراضية بعدم وجود نيات مبيتة وأهداف أعقد وراء جريمة القتل هذه، وأنها قد تصب في جهود النظام للانتقال إلى مستوى جديد من سياسة كم الأفواه والقمع لإعادة ضبط الأمور بناء على ما ينسجم مع سياسته في إدارة البلاد والمجتمع.
وجهود النظام للتسريع في كشف ملابسات جريمة القتل هذه لم تمنع أيضاً أو تقطع الطريق على اعتقاد هذه الأوساط بإمكان وجود قرار تصفية عن سابق تصميم وتصور، في تذكير بمسلسل الاغتيالات السياسية التي شهدتها إيران بداية عهد الرئيس محمد خاتمي، بخاصة حادثة مقتل أو اغتيال أو التصفية السياسية لزعيم حزب الشعب الإيراني وعضو الحكومة الانتقالية داريوش فروهر وزوجته طعناً، كما حصل مع مهرجوئي قبل أيام.
وعلى رغم أن الاعتقاد السائد بين جميع الأوساط الإيرانية السياسية والحزبية أن الجهات التي تقف وراء شعار “لا غزة ولا لبنان… روحي فداء لإيران” هي جهات تنتمي لبعض أو لمعظم تشكيلات الأحزاب المعارضة في الخارج، وأن هذا الاعتقاد ازداد بعد الزيارات التي قامت بها هذه الجماعات والأحزاب إلى تل أبيب واللقاءات التي عقدتها مع القيادات الإسرائيلية.
إلا أن هذا الأمر وهذه الحقيقة لا ينفيان أو يلغيان وجود مزاج واسع داخل المجتمع الإيراني لا يتردد في إعلان معارضته لسياسات النظام الإقليمية، بخاصة الدخول الكامل والكبير في القضية الفلسطينية وتبنيه أطرافاً داخل الشارع الفلسطيني تخدم مصالحه الاستراتيجية.
في البداية كانت الأصوات المعترضة على الانغماس الإيراني في الأزمات الإقليمية خافتة نوعاً ما، وبدأت بالارتفاع مع تزايد الازمات الاقتصادية الناتجة من العقوبات الاقتصادية الدولية التي فرضت على إيران، ليس فقط بسبب البرنامج النووي بل للدور الداعم الذي تقدمه للجماعات والأحزاب على الساحات الإقليمية، وذلك ضمن معادلة الحاجة الداخلية مما أوجب الطموحات الخارجية والتوسعية، أو طبقاً للمثل القائل “إذا كان البيت بحاجة للزيت فإنه يحرم وَهبُهَ للجامع”. وهذه الأجواء والأصوات الخافتة تحولت إلى مسار لدى أوساط داخل إيران ترى في سياسات النظام الداعمة لقوى في الإقليم تخدم الجهود التي تبذلها منظومة السلطة من أجل تعزيز مواقعها على الخريطة السياسية الإقليمية والدولية، أداة لقمع الداخل الذي قد يرفع الصوت بالمعارضة واعتباره تهديداً للمصالح الاستراتيجية والقومية لإيران والنظام الإسلامي فيها.
لا شك في أن النظام الإيراني بنى موقفه من القضية الفلسطينية على تراكم شعبي مؤيد لقضية الشعب الفلسطيني انطلاقاً من اعتبارين. الأول يقوم على معارضة سياسات النظام الملكي الذي ذهب إلى تطبيع علاقاته مع تل أبيب والتعاون الاقتصادي والأمني والسياسي مع إسرائيل. والثاني الموقف الذي اعتمدته بعض المرجعيات الدينية مثل آية الله محمود طالقاني ونواب صفوي من هذه القضية والدعوة إلى دعمها من منطلق ديني عقائدي، ومبدأ الانتصار للمظلوم ضد الظالم، فضلاً عن أن هذا الموقف دخل في سياق الصراع السياسي بين هذه المرجعيات والنظام الملكي.
ومن هذه الأجواء والأرضية تبنى زعيم الثورة السيد الخميني قضية الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي ووضعه في مقدم اهتمامات إيران الإقليمية والبعد العقائدي للنظام الإسلامي وثورته. وهو موقف لم يفتقر إلى التأييد الشعبي في بداية الثورة، بخاصة أن الربط بين الثورة الإيرانية والثورة الفلسطينية بدأ باكراً، وكانت القاعدة الشعبية على تماس مع شعار “اليوم إيران وغداً فلسطين“، عززته الزيارة التاريخية التي قام بها الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات إلى طهران والمشهدية الشعبية التي رافقت هذه الزيارة، حتى وصل الأمر بمحمود دعائي، وهو أحد أبرز قيادات الثورة وكان مقرباً من المؤسس، أن يرى في تقبيل يدي الخميني وأبو عمار في يوم واحد فرصة لن تتكرر، لأن القبلة على يد عرفات كانت بمثابة قبلة لفلسطين، بحسب تعبيره.
وأمام التركيز والاهتمام الذي اعتمدته منظومة السلطة في التعامل مع القضية الفلسطينية، فقد ولدت انقساماً بين أولويات النظام والقواعد الشعبية وبعض النخب السياسية والحزبية، باستثناء الشرائح الشعبية والنخب المؤدلجة المؤيدة للنظام في مشروعه، فضلاً عن الدولة العميقة التي ترى في تبني هذه القضية مدخلاً يسمح لإيران ونظامها بحجز مقعد ومكان لهما في المعادلات الدولية والإقليمية، يمكن توظيفها إيجاباً لتمرير ملفات أخرى مثل البرنامج النووي.
هذه النظرة إلى القضية الفلسطينية وإدخالها في صلب الأمن القومي للنظام وإيران أسهما في انحسارها على المستوى الشعبي، بل وحولها في كثير من الأحيان إلى مادة سجالية في الصراع السياسي بين النظام والسلطة مع القوى المعارضة أو المختلفة معه وغير الموالية لرؤيته العقائدية والأيديولوجية، لذلك فمن غير المستهجن أن ترتفع أصوات تعارض أي تورط لإيران والنظام في الحرب إلى جانب حركة “حماس”، وأن تظهر إلى المشهد حال شعبية واضحة غير مبالية وغير معنية بما يشهده قطاع غزة من حرب إسرائيلية مدمرة، بناء على الهوة العميقة بين سياسات النظام ومصالحه وبين المخاوف الشعبية من أن تدفع إيران وشعبها فاتورة هذا التدخل والدعم، سواء في الحرب المباشرة أو في وعود الدعم وإعادة الإعمار التي يطلقها النظام والتي ستكون على حساب معيشته وتفاقم أزماته الاقتصادية، واعتقاده أن مصالحهم الوطنية تحولت أو ستتحول إلى ضحية للقضية الفلسطينية.
وهذه الأصوات المعترضة على الدور الإيراني في القضية الفلسطينية لم تعد في حدود شعار يرفع هنا أو هناك، مستغلاً مناسبة اجتماعية ما أو حركة اعتراضية في الشارع، بل ارتفعت لتعلن عن موقفها بكل وضوح ومن دون خوف. وقد وصل الأمر إلى حدود جهر بعض الشخصيات والفعاليات السياسية والاجتماعية بموقفها المتردد بإعلان الدعم والتأييد لأهالي غزة وما تتعرض له من اعتداء وحرب وقتل للأطفال.
ولعل ما قاله مصطفى تاج زاده الذي يعتبر من الإصلاحيين المتشددين خلال مقابلة مسربة من سجنه في إيفين من أنه “لطالما دعمت وأيدت نضال الفلسطينيين من أجل تحصيل حقوقهم الضائعة، لكن هجوم ’حماس‘ والقوى الفلسطينية الأخرى الذي حصل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري خطأ وأثمانه كبيرة، بخاصة أن الأدلة تشير إلى حصول أعمال تتعارض مع حقوق الإنسان ضد المدنيين قام بها المهاجمون”.
وهذا الموقف جاء ملطفاً إلى حد ما في البيان الذي أصدرته نحو 300 شخصية من الناشطين السياسيين والمثقفين والاجتماعيين والمدنيين، عندما أكدوا رفضهم “أي نقض لقوانين الحرب من أي طرف كان، وهو أمر مدان ونحن نعتبر أن قتل المدنيين من كلا الطرفين يتعارض مع القيم الإنسانية والأخلاقية وحرمة دم الأبرياء“، معتبرين أن الحل للقضية الفلسطينية هو العودة لحل الدولتين والاعتراف بهما.
في حين يرى الاختصاصي في السلوك الاجتماعي “أحمد بخارايي” أن “المجتمع الإيراني يعارض حروب الوكالة لإيران، لذلك فهو لا يبدي أي تفاعل أو إيجابية مع هجوم ’حماس‘ ومعارضة الشعب هذا الهجوم نوع من التعبير عن موقفه المنتقد والمعارض للدولة”.