عادة ما توصف الأقاليم الجنوبية في الكثير من البلدان بأنها “متخلفة” في أحوالها الإقتصادية والمعيشية والتنموية مقابل شمال مزدهر ومستقر، لكن الهند الراهنة أثبتت خلاف ذلك.
فعلى حين نجد أن ولاياتها الجنوبية تعيش حالة من الإستقرار والتناغم الاجتماعي معطوفة على إزدهار اقتصادي وصناعي بحيث صارت اليوم من قلاع تكنولوجيات البرمجيات وغيرها، نجد أن ولاياتها الشمالية تواجه الكثير من المشكلات وسط احتقانات محلية سياسية وثقافية واجتماعية، وحالات من التشنج والتعصب. وعلى الرغم من هذه الحقيقة فإن جنوب الهند لا يحصل على مكافأة مالية معتبرة على أدائه الجيد قياسا بما يحصل عليه الشمال، حيث تقوم الحكومة المركزية في نيودلهي بجمع الضرائب من جميع الولايات ثم توزعها على ولايات البلاد بناء على توصية من لجنة مالية مختصة ووفقا لمعايير الاحتياجات.
وهكذا فإن ولاية شمالية كثيفة السكان ومتأخرة في التنمية البشرية وفاشلة في الانتاجية وفي الحد من الانفجار السكاني مثل “أوتار براديش” تتلقى تمويلا فيدراليا أكثر مما تتلقاه الولايات الجنوبية ذات مؤشرات التنمية الأعلى. أضف إلى ذلك أن نسبة تمثيل ساسة الجنوب في الحكومة المركزية عادةً ما تكون منخفضة، بل أن زعامة الهند لم تذهب إلى ساسة جنوبيين إلا مرتين في التسعينات حينما تولاها “تشاندرا شيكار” ثم “هاراداناهالي ديفي” على التوالي زمن ضعف الأحزاب الكبيرة.
في تفاصيل أوضاع الجنوب الهندي، نجد مثلا أن مدينة “بنغالور”،عاصمة ولاية كارناتاكا الجنوبية، التي تعرف بـ”وادي السليكون” الآسيوي، تمثل ثلث صادرات البلاد من البرمجيات. فيما تشتهر ولاية جنوبية أخرى مثل “تاميل نادو” بالتصنيع وتمثل وحدها ثلثي صادرات الهند من السيارات، على حيت تشتهر جارتيجها (ولاية أندرا براديش وولاية تيلانغانا) بكونهما مركزا لصناعة الدواء، حيث تمثلان معا نحو 22.5 بالمائة من جميع مرافق تصنيع الأدوية في الهند. أما ولاية “كيرالا” التي باتت من معاقل صناعة السياحة وفرص العمل في الهند، فقد أصبح قطاعها السياحي مسؤولا عن نسبة 10 بالمائة من اجمالي الناتج المحلي للولاية، ومسؤولا في الوقت نفسه عن توفير نحو 24 بالمائة من فرص العمل بدليل تحولها في السنوات القليلة الماضية إلى مقصد للملايين من أبناء الشمال الهندي بحثا عن وظائف ودخول أفضل.
إلى ما سبق، يمكن القول أن ولايات الجنوب الهندي بصفة عامة تتفوق على بقية الولايات الهندية لجهة الصحة والتعليم والفرص الاقتصادية والبنية التحتية المصرفية ومبادرات القطاع الخاص التنموية ومؤشرات التنمية البشرية. فمثلا ولاية “كيرالا” لديها أعلى معدلات المعرفة والتعليم والتدريب المهني. وإذا كان قياس ازدهار أي ولاية يعتمد على الناتج المحلي الإجمالي (GSDP) ونصيب الفرد من الدخل، فإن أربع من أصل خمس ولايات جنوبية مصنفة اليوم ضمن أفضل عشر ولايات في الهند لجهة الأمن والتخطيط التنموي ودخل الفرد والبنية المعرفية الرقمية والموارد البشرية المؤهلة.
وحينما يبحث المرء في الأسباب والعوامل التي جعلت ولايات جنوب الهند متقدمة ومتفوقة على نظيراتها الشمالية، سيجد أن العامل الحاسم هو انشغال الجنوبيين بالعمل والتعليم واستخدامهما كسلاح لثورة اجتماعية يغيرون بها أوضاعهم نحو الأفضل، فيما ظل الشماليون يراوحون مكانهم بسبب انشغالهم العميق بالسياسة والعمل الحزبي والمسائل الدينية والطائفية، وتأثرهم البالغ بالوعود والإغراءات العاطفية التي تصاحب عادة الانتخابات المحلية والفيدرالية، ونجد تجليات ذلك في انتشار الجماعات الدينية القومية التي رسخت التمييز والطائفية والهويات الفرعية في سعيها للوصول إلى السلطة عبر عقلية القطيع ( a herd mentality) في التصويت، ما أدى إلى احتكار أحزاب بعينها للسلطة على مدى عقود دون تغيير. ومثل هذه الحالة لا نجدها في الجنوب، حيث يسود تناغم إجتماعي وثقافي في ظل تعددية سياسية راسخة ومنافسة سياسية شريفة وتبادل سلس للسلطة المحلية. فلا نرى مثلا أحداث عنف أو صعود جماعات متطرفة، ولا نرى احتكارا طويلا للسلطة أو الكرسي التشريعي.
ناهيك عن بُعد المواطن ــ بصفة عامة ــ عن تسييس ما لا يجب تسييسه.
والمعروف أن أجواء المنافسة السياسية الصحية، البعيدة عن المهاترات واللعب على العواطف وتأجيج مشاعر الجماهير دينيا أو طائفيا، تساعد الحكومات المنتخبة على الأداء بشكل أفضل، كما أنها تعزز مشاركة ونشاط المواطنين، ناهيك عن أنها تؤدي إلى جودة الحكم والإدارة، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى التنمية والإزدهار، على العكس من حالة سيطرة الحزب الواحد لمدد طويلة على مقاليد الأمور بكل ما يفرزه من فساد وطغيان وجمود في السياسات والأجندات.
وفي التفسيرات الأخرى لأسباب الفارق بين جنوب الهند وشمالها، يبرز التفسير القائل بأن الأمر يُعزى إلى الطبيعة العرقية والثقافية للمواطن، بمعنى أن سكان الشمال، ومعظمهم من الهنود الآريين، الذين يعتبرون أنفسهم عرقا متميزا، وتكسو طباعهم القسوة والرفض لفكرة العدالة الإجتماعية، يختلفون اثنيا وثقافيا عن سكان الجنوب من القومية الدرافيديونية التي يعتنق أفرادها مباديء مثل احترام الذات والتسامح والعدالة والعقلانية ومقاومة التقسيم الطبقي ورفض الهيمنة “البراهمية”، نسبة إلى طبقة البراهمة (البراهمة في جنوب الهند كانوا في الأصل مهاجرين آريين من شمال الهند، وكانوا يتحدثون باللغة “الستسكريتية” وجلبوا معهم “النظام الطبقي”).
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
الأستاذ عبدالله
شكرا على هذا السرد الجميل.
إضافة صغيرة. وجود الصين وباكستان على حدود الهند الشمالية والشمالية الشرقية جعل سكان الشمال الهندي أكثر إنشغالا بالقضايا الدينية وأكثر تطرفا في كل ما يتعلق بها، ونقلهم بعيدا عن الصناعة والتكنولوجيا، والتقدم