نبدأ بما هو خارج المشهد قبل الدخول فيه. فأصحاب فيديو استتابة الأطفال يطلقون على أنفسهم تسمية “سفينة النجاة الدعوية”. نعرفُ أن أهم، وأشهر، سفينة للنجاة، في مخيّلة الإنسان، على مر العصور، هي سفينة نوح، التي ينجو بها قاطنو الأرض من بشر وطير وحيوان، من طوفان يُغرقها، لتبدأ بعدها أرض نظيفة، وحياة جديدة، غسلها الطوفان من الذنوب.
هي، إذاً، بداية جديدة أشبه ما تكون بالمشهد الافتتاحي في سفر التكوين، والحد الفاصل بين المُدنّس والمُقدّس، عمادها الماء، العنصرُ الرئيس في كل طقوس الطهارة. ولنلاحظ أن النار هي العنصر الرئيس المكافئ الذي ينتظر الفاشلين في امتحان النجاة: كلاهما مُطهِّر. وكلاهما سكن مخيّلة الإنسان على الأرض، منذ آلاف السنين، وأسهم في توليد ما لا يحصى من رموز ودلالات تحضر في كل ما نفكر ونفعل.
تبدو محاولة المحاكاة والتماهي، هذه، وبدلالات كهذه، مع أهم، وأشهر، سفينة في تاريخ المُخيّلة البشرية، بالمعنى المجازي، ومن جانب لاجئين فقراء، في مكان سينضب منه الماء الصالح للشرب، بعد سنوات قليلة، يعيش على صدقات العرب والعجم، ويعتبر أكبر سجن في العالم، مبالغة أبعد من كل وزن وعيار.
فلا يمكن لأحد التحليق على أجنحة خيال كهذا، وبسرعة طائرة نفّاثة تكسر حاجز القرون، إلا إذا كانت معارفه، في مطلع قرن وألفية جديدين، عن الأرض وسكّانها، وحيتانها (حضارات زاهرة، وجيوش قاهرة، وحريّات باهرة، ومدن ساحرة)، فقيرة لا يشد من أزرها سوى فقر في معرفة الذات، وإلا إذا تملكته نـزعة انتحارية تتقنّع بقناع القيامة، في عالم ينتظر الطوفان.
وهنا، تسند بعضها، وتتضافر، جملة أشياء. ففي مجرد فعل المحاكاة والتماهي، حتى بالمعنى المجازي، مع سفينة كللتها القداسة، في ظل، ونتيجة، فقرٌ معرفي مزدوج، يسوّغ قطيعة معرفية باهظة التكاليف، ما ينم عن التطاول على، وانتهاك، تعالي وحرمة المُقدّس نفسه.
وهذا ما لا يتحقق دون شرط “الميغالومانيا”، أي التضّخم المرضي للذات. فلن يتمكن فرد، أو جماعة، من ادعاء تقمّص وتمثيل سيرة، ومسيرة، حلول المقدّس في التاريخ، دون شرط كهذا. ولن يتوفر شرط كهذا، تحت قناع القيامة، دون قطيعة معرفية مع العالم، والأزمنة الحديثة. والمُلاحظ، أن القطيعة المعرفية، كأداة للتحليل، لا تحتل مكانة تُذكر في الجهد النظري المبذول لفهم معنى ومبنى الظاهرة الداعشية، مثلاً. ويبدو أن كل الجهود، في هذا الصدد، ستظل قاصرة ما لم تعتمد أداة كهذه.
على أي حال، قبل الدخول إلى المشهد تبقى فكرة يصعب الاستغناء عنها. كان من الممكن، مثلاً، أن تُبحر السفينة، وتنتشل الناجين، دون تصوير. فما الذي أوحي للسفينة وقبطانها، بضرورة الكاميرا؟ ربما نعثر، في هذا الصدد، على إجابات مختلفة من بينها:
أن الشريط المُصوّر هو الدليل الحي على ما حدث، فقد يحتاجه المُشغّلُ والمُموّلُ لتبرير التشغيل والتمويل، إضافة إلى التحقق من جودة الإخراج، وكفاءة الأداء. كما أن الفيديو يُجسّد رغبة أصحاب السفينة، وقبطانها، في توثيق فعالياتهم. ويمكن للفيديو نفسه أن يكون أداة دعائية في حال رفعه على الإنترنت، وإيصاله إلى ما لا يحصى من المستهلكين، في أربعة أركان الأرض، لتحقيق الغايات نفسها.
المهم، في هذا كله، أن ثمة معرفة مُسبقة، لدى القائمين على الأمر، بوجود الكاميرا. وفي مجرد معرفة كهذه ما يعني أن عيناً تراك ولا تراها. أكثر مصادر الفزع في تجربة الإنسان، على الأرض، أن يُرى وألا يَرى (لماذا نلتفت، بطريقة لا إرادية، لنكتشف أن شخصاً ما يرمقنا من بعيد). هذا إحساس فرضته غريزة البقاء منذ أزمنة سحيقة. لا تهدد الكاميرا، وعين مَنْ لا نرى، في الأزمنة الحديثة، الوجود الفيزيائي للإنسان، ولكنها تفرض على لغة الجسد قيوداً استثنائية، وفي هذا ما يستدعي، ويعزز، من إرادة ودلالة التمثيل.
بهذا نجتاز العتبة، وندخل ثنايا وتفاصيل المشهد، لنلاحظ، أولاً، ما لا يمكن تصنيفه في باب المصادفة، فالأكثر حماسة بين الواقفين قبالة أطفال يفترشون الأرض يقول لهم، وللكاميرا، ولمَنْ لا يَرى: “لسنا في عرض مسرحي، وإنما لطرد الشيطان من القلوب والعقول”.
وثمة، هنا، ما يستوجب الكلام عن الحيل اللاشعورية في علم النفس، التي تتجلى في الدفاع عن الأنا بواسطة الإسقاط، كأن يُلصق شخص بغيره صفة يخجله الاعتراف بوجودها لديه. لذا، في محاولة سعت لنفي شبهة العرض المسرحي، ما يبرر وضعها في مرتبة التمويه، وزلاّت اللسان، بالمعنى الفرويدي. فلم يكن ليخطر على بال أحد من المشاهدين الفعليين، أي الأطفال، ولا على بال مشاهدين مُفترضين وافتراضيين، أنهم أمام عرض مسرحي.
وفي أفضل الأحوال، فلنقل إن المحاولة تنُم عن توتر، من نوع ما، خلقه الإحساس بعين الكاميرا، وعيون المشاهدين الفعليين والمفترضين والافتراضيين. وهؤلاء، كلهم، مصدر تهديد مُحتمل للمسكوت عنه، والمكبوت. ولنلاحظ، أيضاً، وفي السياق نفسه، كولاج الثياب “الإفرنجية”، والمايك، والكاميرا، منتجات هذا الزمن، مع أزياء ومنتجات بلاغية من زمن آخر، تحضر في إعادة اختراعٍ مشهدية وإرادية للذات. وهذا مصدر إضافي للتوتر يستدعي نفي، وإقصاء، شبهة التمثيل.
وماذا عن “طرد الشيطان من القلوب والعقول”؟
هذه حكاية يطول شرحها. كان الغرض، في البداية، معالجة الفيديو بمقالتين، ولكن توارد الأفكار، أو التداعي الحر، في لحظة الكتابة، استدعى مساحة أكبر. لذا، سنفكر، معاً، في مسألة “طرد الشيطان” في معالجة لاحقة، على أمل العثور على مفاتيح، وتفكيك دلالات كثيرة، محتملة، في ما أصبح فيديو غزة، وما نحن فيه، وأصبحنا عليه.
khaderhas1@hotmail.com