(ترجمة فاخر السلطان)
لا يمكن ان نكون لا مبالين تجاه الإرث الثقافي للبشرية، سواء كان ذلك إرث الفلاسفة أو العلماء (علماء العلوم التجريبية الطبيعية والإنسانية) أو العرفاء أو اللاهوتيين أو الشعراء أو كتّاب الروايات أو غيرهم. وأي لا مبالاة تجاه منجزهم ونتاجهم إنما هو نوع من البلاهة أو الحماقة. لكن، أي اهتمام من قِبلنا تجاه ما أنتجه أو قاله هؤلاء يجب أن يستند إلى الدليل، سواء برفض ما قالوا أو بتأييد ما قالوا. وهذا الأمر ينطبق تماما على نصوص الأديان والمذاهب. لذلك، من العقلانية أن نستفيد مما جاء في الأديان والمذاهب، لكن شريطة أن نُخضِع نصوصها للفلترة العقلانية. فإذا ادّعى أحد بأنه مثقف ديني أو مفكر ديني حداثي، وأنه يستخدم التفكير العقلاني في نهجه، فأنا معه تماما، وهنا سيسمح لي هذا النهج العقلاني بقبول بعض النصوص وبرفض بعضها وبتعديل أو ردّ أخرى، وهكذا.
أما إذا قال أحدهم بأنه يقبل “كل” ما جاء في، مثلا، الدين الهندوسي، وفي نفس الوقت قال بأنه يريد أن يكون عقلانيا، فإن هذا “الكل” لا يمكن أن يتوافق مع العقلانية. أو قال بأنه يقبل “كل” ما جاء في النصوص الدينية الإسلامية، وفي نفس الوقت يريد أن يكون عقلانيا، فهنا سيحدث التصادم أو التعارض.
-أما إذا قال أحدهم بأنه مُسلِم لكنه يوافق فقط على النصوص الدينية المعتبَرة. هنا سأعرض عليه هذه الأسئلة:
- ما هي المسؤولية الملقاة على عاتق الإنسان لكي يعود للنص الديني لحل مشاكله؟ هو الدليل الذي يلزمه أن يفعل هذا الشيء؟ وإذا لم يرجع الإنسان إلى الدين ليأخذ منه نصائح نظرية وحلولا عملية لمشاكل حياته، هل ستتوقف حياته وتتعرقل؟ ما هي المشكلة الموجودة في حياتنا والتي إذا لم نرجع إلى الدين لن نستطيع حلها؟ ما هو السؤال الذي نستطيع فقط من خلال الدين أن نحصل على إجابة عليه؟
–ثم، ما هو الإلزام فيما لو أردنا العودة إلى الدين، أن نعود إلى دين آبائنا وأجدادنا؟ هل لأنني وُلدت في إيران، لذا يجب عليّ أن أعود إلى نصوص الدين الإسلامي، أي إلى النصوص التي ورثتها عن أبي وأمي؟ بعبارة أخرى، مثلا، هل أستطيع أن أقول لإبني الذي يبحث عن حذاء ليشتريه، أن أقول له إشترِ من أقرب محل من المنزل؟ وهذا ينطبق على الأديان أيضا، إذ هل يجب على الشخص الإيراني أن يلجأ إلى الدين الإسلامي، ليس ذلك فقط بل أن يلجأ إلى المذهب الشيعي، وأن يكون المذهب اثنا عشريا لا زيديا ولا إسماعيليا؟ ولماذا؟ هل لأنه يُعتبر أول محل ديني يجب أن يلجأ إليه ويشتري منه، مع أن هناك آية في القرآن تقول “إنّا وجدنا آباءنا على أمة وإنّا على آثارهم مقتدون”؟ السيد الخميني حينما أراد تغيير الدستور الإيراني بعد الثورة الإسلامية قال بأنه يجب ألاّ نقتدي بدستور آبائنا وأجدادنا، لكن حينما أراد الجيل الإيراني الجديد في إيران أن يغيّر الدستور الإسلامي رفض المرشد ذلك. بينما القرآن يقول “أوَلَو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا”؟
–السؤال الثالث، لماذا نريد أن نجمع بين الدين والمذهب وبين الحداثة ممثلة بالعقلانية الجديدة والاخلاق الكونية وحقوق الإنسان الجديدة؟ مشكلتنا لم تكن الجمع بين هذين الاثنين، مشكلتنا تتعلق بمعالجة آلام ومشاكل ومعاناة الإنسان. لماذا تحول الموضوع من موضوع المعالجة إلى موضوع الجمع؟ وكأن الموضوع هو أنه لا توجد لدينا آلام ولا معاناة، أو أن حل هذه الآلام وتلك المعاناة يتم من خلال الجمع بين الدين والمذهب وبين الحداثة.
– السؤال الرابع: كيف يمكن إثبات الحجة المعرفية للوحي؟ أو من أي طريق يمكن إثبات هذه الحجة؟ لا يمكن الاستدلال بأن الوحي هو أحد مصادر المعرفة سواء من خلال استدلال القياس او استدلال الاستقراء. نعم، هناك مصادر عدة للمعرفة وهي ستة، لكن لا نستطيع الاستدلال بأن الوحي مرتبط بالواقع.
-السؤال أو البحث الخامس مرتبط بافتراض أن للوحي حجة معرفية، أو أن الوحي يستطيع أن يوصلنا إلى الواقع. لكن السؤال، كيف يمكن إثبات أن النص المقدس هو وحي؟ أو مِن أين أتت الوثاقة التاريخية للنصوص المقدسة؟ بمعنى كيف يمكن الإستدلال بأن ما يوجد بين الدفتين، سواء كان قرآنا أو كان كتابا مقدسا آخر، هو كلام نبي مرتبط بالوحي؟ كيف نستطيع إثبات ذلك، خاصة وأننا نتعامل في هذا الإطار مع التاريخ، أي مع الظن والاحتمال لا مع اليقين؟ فأي موضوع تاريخي هو في المحصلة موضوع ظني لا يقيني. فعلم التاريخ يخضع لمنهج، وهذا المنهج مهمته إنتاج الأخبار والآراء المحتملة، أي الأخبار والآراء التي يطلق عليها ظن، لا الأخبار اليقينية والآراء القطعية. فكيف يمكن التأكيد، مثلا، على أن نصوص الأسفار الخمسة (التوراة) هي نصوص قطعية ويقينية؟ لذلك، لا نستطيع أن نقول بأن ما هو موجود في الكتاب المقدس هو وحي، أو من جانب الوحي. كذلك، من الممكن ان تكون هناك آيات في الكتاب المقدس لا تنتمي إلى الوحي، ومن الممكن أيضا أن تكون هناك آيات وحيانية لم يتم إدراجها في الكتاب المقدس.
–البحث السادس مرتبط بالسؤال التالي: ما هو الدليل الذي نستطيع من خلاله أن نثبت وجود “توافق داخلي” بين النصوص المقدسة؟ فإذا كان هناك عدم توافق داخلي بين النصوص، بمعنى أننا نرى عدم توافق بين النصوص بعضها مع بعض، ستكون نتيجة ذلك أنها لا تستطيع أن تُطابق الواقع. ومن أمثلة عدم التوافق، وجود تناقضات بينها. ومما لا شك فيه أن مسألة اجتماع النقيضين محال واجتماع الضدّين محال، تُعتبر من ألف باء العقلانية والمنطق. لذلك، إذا رأينا في النصوص المقدسة هذه الأمور، كيف يمكن الدفاع عن الكتاب المقدس؟ كيف، مثلا، يمكن الجمع بين “وجعلنا من الماء كل شيء حي” وبين “وخلق الإنسان من صلصال كالفخار” و”خلق الإنسان من طين” و”خلق الجان من مارج من نار”؟ كذلك حول قوم عاد، فإذا سلّمنا بوجود هذا القوم، وبوجود نبي لهم، وكذلك سلّمنا بأن قوم عاد أسلموا لنبيهم، وأن الله قرر معاقبتهم لعصيانهم، وأن تلك العقوبة الإلهية دنيوية وليست أخروية، ألا يحق لنا أن نسأل القرآن كيف أنزل الله عقوبته على هذا القوم؟ القرأن يطرح 4 إجابات على هذا السؤال: يقول في مكان أنه أرسل الرياح عليهم في يوم واحد، وفي مكان آخر أرسلها في 3 أيام، ثم في 7 ليال و8 أيام، وفي إجابة رابعة يقول بأنه أرسل عليهم صاعقة. هذا التفاوت يدل على وجود عدم توافق داخلي بين النصوص المقدسة. لذلك، هل نستطيع القول بعد ذلك إن القرأن يحتوي على آيات متناقضة؟ يقول المفكّر الفيلسوف ديفيد هيوم إن أحد الفروق بين الكتب الوحيانية وبين الكتب التي كتبها البشر هو أن الإنسان يستطيع ان يصف جملة ما في الكتاب البشري بأنها خاطئة وجملة أخرى بأنها صحيحة، أو أنه يقبل بهذه الفقرة من الكتاب ولا يقبل بفقرة أخرى، لماذا؟ لأن الكتاب البشري لم يأت من خلال طرف اسمه الله، لذا يبحث البشر عن الحق وعن الباطل في الكتاب البشري. بينما إذا بحثنا عن الحق وعن الباطل في الكتب الوحيانية سنصل إلى نتيجة بأنها لم تأت إلينا من الله، وبالتالي كيف يمكن أن نقبل بأن الكتاب الوحياني كلّه حق؟ وإذا كانت هناك آية في الكتاب المقدس لا يمكن معالجة الخطأ فيها، فهذ أدلّ دليل على أن الكتاب المقدس لم يأت إلينا من الله. وإذا قبلتَ بأن الكتاب المقدس لم يأت إلينا من الله وإنما ألّفه النبي، أقول نعم لا إشكال في ذلك لكن في الكتاب آيات أو عبارات متناقضة وبالتالي لا أستطيع قبوله والاعتماد عليه.
–البحث السابع مرتبط بعدم توافق آيات القرآن مع الواقع الخارجي، فمثلا القرآن يقول “وكسونا العظام لحما”، لكن جميعنا يعلم أن هذه العبارة ليست صحيحة. وهذا ينطبق على وقائع أخرى عديدة، منها وقائع تاريخية وأخرى طبيعية.
–البحث الثامن مرتبط بالمنهج أو بالطريقة. فأحد أمثلة منهج القبول العقلاني، هو أن نقول بأن ألف هي باء، وباء هي جيم، إذن ألف هي جيم. بينما في الدين الأمر ليس كذلك. فالمتديّن يقبل المسائل على أساس “التعبد”، أي أن منهجه في قبول المسائل هو منهج “التعبد”. فيقول مثلا أن ألف هي باء لأن شخصا ما قال ذلك، لأن مثلا بوذا قال ذلك، أو لأن عيسى قال ذلك، أو لأن علي بن أبي طالب قال ذلك. فمثلا لأن عيسى قال أنا الطريق وأنا الحياة، فإن عيسى بالنسبة إلى المسيحي هو الطريق وهو الحياة. فالمسيحي لم يقل يوما بأنني أثبَتُّ من خلال الدليل أن عيسى هو الطريق وهو الحياة. وهذا يسمى في المنطق “مغالطة اللجوء إلى المرجعية”. البعض يقول بأن هذا ليس تعبدا، وإنما نحن نملك الدليل على ما يقول النبي، فالنبي بالنسبة إلينا هو صادق وأمين، لذلك إذا قال كلاما فنحن لا نقبله على أساس التعبّد وإنما نقبله على أساس أنه صادر من شخص صادق وأمين، أي أن دليلنا على صحة كلام النبي أنه صادر عن شخص معروف بصدقه وبأمانته وبتواضعه وبإنصافه وبثقة الناس به ولم يخلف بوعده أبدا، فإذا قال هذا الشخص بأن ألف هي باء فلا يمكن أن يكون كاذبا. هنا سنواجه على الأقل إشكالين اثنين: الأول هو أن الإنسان الأخلاقي لا يمكن أن يطلق كلاما يخالف عقيدته. لكن السؤال هو هل العقيدة التي أنا أؤمن بها تتطابق مع الواقع؟ أي أن الصدق الأخلاقي لا يعنينا هنا، إنما الذي يعنينا هو الصدق المنطقي. فالصدق الأخلاقي هو بمعنى أن شخصا قال قولا يتطابق مع عقيدته، سواء قال هذا القول النبي عيسى أو النبي موسى أو غيرهما، لكن هل عقيدته تتطابق مع الواقع؟ أو هل هذا الذي يقوله النبي أو الذي يقوله مؤسس أي دين ومذهب يتطابق مع الواقع أو لا يتطابق؟ إذن، الصدق الأخلاقي لا يكفي هنا، وإنما يجب أن يكون القول صادقا بصورة منطقية. الإشكال الثاني: لو أنا كنت إنسانا ذكيا جدا، كيف كنت سأعيش؟ لو اقترضتَ منك مالا، كنت سأردّه إليك سريعا. سأكون صادقا في كل حديث أقوله لك. لن أوجه تهمة لك ولأي شخص. لن أستغيب أحدا. كل أمانة سأردّها إلى صاحبها. سأوفي بأي وعد. سأقوم بكل ذلك، لكي كذبتي سيتم تصديقها حينما أريد في نهاية الأمر أن أكذب عليكَ كذبة كبيرة. فالإنسان الذكي لا يكذب فجأة كذبة كبيرة، وإنما يضع هذه الكذبة لوقت آخر بعد سلسلة من الأقوال الصادقة. وأنا لو كنت نبيا، لوضعت جانبا المال والشُّهرة والسُّلطة، ولكنت محترما وذي سمعة طيبة، ولمارست التواضع والإحسان للناس والوفاء بالوعود، لكي ادّعي بعدها ادعاء كبيرا. أي أنني مستعد للتضحية بالكثير من الأمور في سبيل إني أستطيع الإدّعاء بأنني نبيّ. لذلك، هذا الإستدلال غير مقنع. وعلى الرغم من أن الفرد قد يطرح استدلالا خاطئا، لكن ذلك لن يقلل من ادعاءات العقلانية في طرحه. أي أن هذا الفرد لا يزال عقلانيا رغم أن استدلاله الخاطئ. لكن يجب الإشارة هنا بأن على الرغم من كونك عقلانيا، إلا أنه حينما تتم تخطئة استدلالك يجب عليك على الفور أن تتجنب هذا الإستدلال وأن تضعه جانبا. يتساءل المفكر الدنماركي “سورين كيركغور” هل يمكن أن يبني الإنسان سعادته على قبوله بعض المسائل التاريخية التي تتأسس على الاحتمالات؟ لنفترض أن هناك إلها عادلا حاكما على كل الكون ويتصف بالخير المطلق والعلم المطلق والقدرة المطلقة، هل يستطيع هذا الإله أن يبني سعادة الإنسان على المسائل التاريخية المبنية على الشكوك والإحتمالات وعدم اليقين. فالشيعة مثلا يطالبون جمهورهم بقبول حادثة الغدير، على الرغم من أن الغدير ليست إلّا حادثة تاريخية، ومن ثَمّ هي محتملة وليست يقينية.
–البحث التاسع مرتبط بالسؤال التالي: هل يرجع الناس في أمور حياتهم إلى الدين؟ مثلا في الشأن الأسري، والإقتصادي، والسياسي، والتشريعي القانوني، والتعليم والتربية، وفي الشأن العلمي والثقافي والفني، وفي العلاقات الدولية، هل نرجع في تلك الشؤون إلى الدين؟ حتى لو دققنا في حياة أكثر الأشخاص تديّنا، هل سنجد بأنه يرجع إلى الدين لحل مشاكله؟ نعم، كل متديّن يمارس المناسك والشعائر الدينية، لكن هل يرجع إلى الدين لحل أي مشكلة من مشاكله الحياتية؟..
–البحث العاشر، هو أنه إذا لجأ المتديّن إلى استدلال خاطئ لأي مسألة من المسائل فإنه لا يزال ينتمي إلى مدرسة العقلانية، لأن الفرد العقلاني يمكن أن يخطئ. لكن سؤالي للمثقف الديني المدافع عن العقلانية: هل يمكن لهذا المثقف أن يقر بخطأ نص ديني وأن يغيّر رأيه حول ذلك، في حين أن نصا دينيا يقول “وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول” وآخر يقول “وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إِذا قضى الله ورسوله أمرا أَن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعصِ الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا”؟ ما أريد أن أقوله هو أنه مهما رفعنا شعار العقلانية ووضعناه كطريق، فإن النصوص الدينية تقف في وسط هذا الطريق وتعرقل سير العقلانية. أو بتعبير آخر، إذا اختار المتديّن العقلانية كطريق، فإنه سيجد نفسه خارج الدين، لأن النص الديني يقول له من البداية إن هذا الطريق خاطئ. وعليه، فإن المثقف الديني او المجدّد في الدين، أيّا كانت التسمية، يسير في طريق يخالف “وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول”. لذلك، سيصطدم “مشروع التفكير الديني الجديد” لا محالة بنَصّ أو بسقف يمنعه من الاستمرار بمشروعه…
هذه أسئلة أو نقاط عشرة، على المثقف الديني أن يجيب عليها أو عليه أن يوضّحها..
*ترجمة موسّعة لمحاضرة الفيلسوف الإيراني الدكتور مصطفى ملكيان بعنوان: تأمّلات في مشروع التفكير الدیني الجدید