(ملصق الدراسة الاستقصائية لمركز راديو زمانه)
لم يحمل الوصول إلى مطار الإمام الخميني مفاجأة خاصة بالنسبة لي في هذه المرة من المرات العديدة التي أزور فيها طهران، إلا من مسألة تتعلق بالاجراءات الروتينية المرتبطة بختم الجوازات والدخول. ففي هذه المرة كما المرات السابقة اتسمت الإجراءات الأمنية بالصرامة، لكن المعاملات المرتبطة بختم الجواز والدخول كانت سهلة وسلسة ومريحة.
في قاعة استلام الحقائب المطلة على مستقبلي المسافرين، كان انعكاس شعار “المرأة، الحياة، الحرية”، وهو شعار الاحتجاجات التي عمت إيران لمدة تجاوزت الستة أشهر، واضحا وجريئا. فغالبية النساء من دون حجاب، ولا ترى عناصر مِن الأمن مَن يقوم بحثهن أو بإجبارهن أو بترهيبهن لارتدائه، على الرغم من أن الإيرانيات اللائي لم يكن يرتدين الحجاب داخل الطائرة، ارتدينه فور ما حطت الطائرة على الأرض ونزلن ثم مررن من مركز الجوازات.
سألت قريبة لي كانت في استقبالي ولم تكن ترتدي الحجاب، قبل مغادرة المطار: هل لا تزال المرأة تمارس تحديها في هذا الشأن، خاصة وأننا في المطار، أي أننا في مركز من المفترض أن يعكس الوجهة الأيديولوجية للنظام؟ قالت: “موضوع عدم ارتداء الحجاب الإجباري أصبح أمرا عاديا إلى حدٍّ كبير. هناك تحدّ بشأنه يمارسه أفراد النظام في أماكن معينة، وهناك غرامات ثقيلة تُسجّل ضد غير المحجّبات، وكذلك هناك محاكمات في انتظارهن، لكن يبدو أن كل هذه الضغوطات لم تعد تجدِ”.
LE VENT DU CHANGEMENT souffle sur Ispahan (nesfeh jahan).
Les "Ninja girls" à l'oeuvre sur le pont 33 pol.
Rien ne sera jamais plus comme avant en #Iran. pic.twitter.com/As6qaIoora
— Armin Arefi (@arminarefi) July 4, 2023
يطلق عليهن بنات النينجا، أثناء استعراض للرقص في مدينة إصفهان
وأضافت: “النظام يعلم بأن الغرامات وغيرها من ضغوطات لن تغيّر من الأمر شيئا، لكنه يحاول أن يرسل رسالة للإيرانيين بأنه لن يتراجع، وفي المقابل هناك رسالة شعبية واضحة تؤكد على عدم تراجع المرأة وعدم خضوعها”.
بعد أيام من وصولي إلى العاصمة الإيرانية، قال لي موظف قريب من الستين، صادفته مع أحد الأصدقاء، ويعمل في شركة الغاز الإيرانية وهو في صدد التقاعد عن العمل، وقد ساهم بفعالية حسب ادعائه في الاحتجاجات الأخيرة: “المرأة الإيرانية أيقونة الاحتجاجات بدون منازع. هي لم تبهر الإيرانيين بشجاعتها وصمودها فقط، بل أبهرت العالم كله”. وأضاف: “إنها تمثّل تحدّيا شجاعا ضد أيديولوجيا النظام قل نظيره، وبالتأكيد هي لن تتراجع أمام ضغوطات فرض ارتداء الحجاب الإجباري”.
وأكد هذا الموظف أنه أثناء الاحتجاجات شهد بنفسه العديد من المواقف التي انسحب فيها الرجل أمام شراسة قوى الأمن، فيما أبت المرأة إلا أن تصمد وأن تسجّل مواقف تاريخية شجاعة. وأضاف: “في الفترة الأخيرة، وأمام إصرار النظام وسعيه لتركيع المرأة، فإنها ارتأت إلا أن تمارس العناد إن صح التعبير. ففي إحدى المرات التي أصدر النظام قانونا إداريا يمنع من خلاله دخول المرأة غير المحجبة إلى محطات مترو العاصمة، وبالفعل منع رجال الأمن النساء غير المحجبات من الدخول، قامت مجاميع كبيرة من النساء المحجبات بنزع حجابهن تضامنا مع غير المحجبات”.
ماذا يعني ذلك؟ ولماذا تصرّ النساء على الاستمرار في مواجهة السلطات في مسألة الحجاب؟
من الواضح أن الإيرانيات المنتميات لمعسكر “المرأة، الحياة، الحرية” يعتبرن موضوع عدم ارتداء الحجاب الإجباري والإصرار على مواجهة قمع السلطات الإيرانية لهن، هو السلاح الأبرز في الصراع، بل السلاح الأخير المتبقي لهن للتحرّر من سلطة النظام الإسلامي ومن القوانين القامعة لحريتهن في اختيار طريقة حياتهن.
قالت إحدى النساء المشاركات بانتظام في الاحتجاجات إن النظام يتسامح في موضوع الحجاب في مواقع، ويتشدّد في مواقع أخرى، مؤكدة أن التشدد مردّه سعي النظام لعدم التفريط بهذه الورقة بسهولة، مضيفة أن سياسات النظام الاقتصادية والمعيشية قد تثير الشارع مجددا، ولا يريد النظام أن يبقى الحجاب ورقة أساسية في أي احتجاجات مستقبلية.
يقول موسى غني نجاد، وهو دكتور اقتصاد مشهور وأستاذ في جامعة “صنعت شريف” ومن الشخصيات المعروفة بتوجهها الليبرالي ومن منتقدي ما يسمى “نظام الاحتكار الاقتصادي” في إيران، إن النظام قادر بسهولة على حل مسألة الحجاب الإجباري وفقا لمبدأ المصلحة، عن طريق التخلي عن فرض ارتدائه انطلاقا من القاعدة الفقهية التي تقول إن مسؤولية حفظ نظام الجمهورية الإسلامية تفوق في أهميتها جميع المسؤوليات الأخرى بما فيها تلك التعبدية كالصلاة والصيام والحج. ويضيف غني نجاد أن النظام لن يُقدم على أي خطوة تراجعية في مسألة الحجاب لسبب بسيط، وهو أنه يعتبر الحجاب خط الدفاع الأخير عن بقاء النظام، وأن هذه المسألة تفوق في أهميتها المسائل الأخرى التي تُعتبر من فروع الدين في المذهب الشيعي.
حينما تتجوّل في شوارع طهران، من شمالها إلى وسطها ثم إلى جنوبها، يمكنك بكل وضوح أن تلاحظ مشاهد التحدّي بين أنصار الحجاب الإجباري وبين المناهضين له، ومن خلال ذلك تستطيع أن تقسّم النساء إلى قسمين رئيسين فيما يتعلق بمسألة ارتداء الحجاب، إضافة إلى قسم ثالث صغير يتمثّل في النساء اللائي يرتدين الحجاب انطلاقا مما يمليه عليهن التكليف الديني الفقهي وما يفرضه القانون الإسلامي. أما القسم الأول من النساء فهن غير المحجبات اللائي يرفضن ارتداءه، بينما القسم الثاني فهن غير المحجبات اللائي يراعين القانون الفقهي ويرتدينه مجبرين. أو بعبارة أخرى، فإن المحجبات الملتزمات (في مقارنة غير علمية وإنما بناء على مشاهدات ميدانية) يمثلن أقلية صغيرة في العاصمة الإيرانية بالمقارنة مع غير المحجبات (القسم الأول والثاني).
وتظهر نتائج دراسة استقصائية حكومية حول النساء اللواتي لا يرتدين الحجاب الإجباري (ونشرت في ٢٨ يونيو الماضي) أن معظم نساء طهران يعتقدن أن “ارتداء الحجاب ليس بأمر من الله”.
وبحسب ما توصل إليه مركز “تيام” للأبحاث الثقافية التابع لمعهد باقر العلوم للدراسات الإسلامية، فإن أكثر من نصف الذين أجابوا على أسئلة الدراسة قرروا “عدم ارتداء الحجاب”. وتظهر نتائج الدراسة أن 70٪ من أزواج “اللائي لا يرتدين الحجاب” موافقون على “عدم ارتدائه”.
نتائج دراسة إستقصائية أخرى (غير حكومية)، تظهر أن الضغوطات والتهديدات التي اتخذتها الحكومة ضد حرية ارتداء النساء للملابس “ليس لها أي تأثير”.
فقد أكد 85٪ من المشاركين في استقصاء مركز “راديو زمانه” أنهم يعتقدون أن تطورات الأشهر العشرة الماضية جعلت من قضية رفض الحجاب الإجباري أحد المطالب الرئيسية للشعب. ويقدّر معظم المشاركين في الاستقصاء أن أكثر من 60٪ من عامة الناس يعارضون ارتداء الحجاب الإجباري. فيما قال أكثر من 90% إنهم يعتبرون أن دافع الحكومة لطرح “قانون الحجاب والعفة” هو “خلق جو من الرعب” بين النساء. واعتبر أكثر من 70٪ أن التهديدات والإجراءات الحكومية ضد النساء “غير فعالة”.
لذا يبدو أن الطرفين، الحكومي والمعارض، باتا يعتبران الحجاب العنوان الرئيسي للصراع بينهما.
فيما تنطوي تحت هذا العنوان بقية مسائل الصراع، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمعيشية والفكرية وحتى الأمنية. فتحدّي استمرار أو عدم استمرار أيديولوجيا الحكم الديني، تغلّف بعنوان “الصراع حول الحجاب الإجباري”. أي أن الإصرار على نزع الحجاب ودور المرأة غير المحجبة في هذا الإطار ووقوف الرجل إلى جانبها، بات يشكّل تهديدا مباشرا لنظام الجمهورية الإسلامية بصيغته الفقهية المتشددة القائمة على مركزية حكم الولي الفقيه…