في عبارات أوباما نقرأ خروجا على المألوف في الدبلوماسية وصلفا واعتدادا بالذات، مع تهجم مستغرب بصراحته على رؤساء وقادة من حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين أو الشرق أوسطيين.
تعتبر مقالة “عقيدة أوباما” التي نشرتها مجلة آتلانتيك، مرجعا لا غنى عنه لفهم مقاربة الرئيس الأميركي للعالم ودور واشنطن فيه، لكنها لا تسهم في فك ألغاز تردده وخياراته. وأكثر ما يبرز من خلالها خيبة أمله من الشرق الأوسط، استخفافه بأوروبا، وملامسته ازدراء النظام العربي الرسمي الحليف لبلاده.
نقرأ في عبارات أوباما خروجا على المألوف في الدبلوماسية وصلفا واعتدادا بالذات، مع تهجم مستغرب بصراحته على رؤساء وقادة من حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين أو الشرق أوسطيين. ويبدو أن الرئيس الذي ينهي ولايته آخر هذا العام لا يأبه كثيرا بقواعد اللعبة التقليدية.
عبر هذه المقالة المطولة تطلع علينا مرافعة الرئيس المحامي في الدفاع عن حصاده في البيت الأبيض، من دون أن يكلف نفسه أي نقد ذاتي. لكن التبرير للخطوات والمواقف يستند إلى تمحيص وتفكير أراد به أوباما التميز عن أسلافه الذين يسخر منهم أيضا. بيد أن هذا الرئيس المفكر لم يكن بالطبع الرئيس الفيلسوف الذي تصوره أفلاطون نظريا وتطبيقا، بل رافقته عقد طفولته وأصوله، ويبدو أحيانا أنه يتصرف كشخص من خارج المؤسسة وأنه عبر إسداء النصائح يتصور أنه يرسم الإطار لمن سيخلفه في البيت الأبيض، بينما اعترى مفهومه للسلطة تناقضات على المكشوف، إذ لا نرى معه متى يتوجب اللجوء إلى القوة الناعمة ومتى يتوجب استخدام القوة الصلبة. إنه ينتقد الرئيس الروسي لأنه يفكر بأساليب القرن التاسع عشر في اكتساب النفوذ، ولأن القوة ليست الشرط لتحقيق الأهداف (يتباهى أوباما بقدرة بلاده على الإقناع وتسيير شؤون العالم) لكنه يعود ليطلب من المملكة العربية السعودية أن تتقاسم النفوذ مع إيران، وفق المنطق الذي انتقده أعلاه.
يفتخر أوباما، من دون مواربة، أن أهم قرار اتخذه كان عدم القيام بعمل عسكري ضد النظام السوري في 2013 عقب استخدام السلاح الكيميائي، ولا نلـمح بين سطور مرافعة سيد البيت الأبيض أي اعتراف بحيز معين لمسؤولية سياساته عن أهوال الكارثة السورية، أو عذابات الشرق الأوسط، أو صعود ما هو أعتى من القاعدة التي يعتبر أن تصفية زعيمها كان من إنجازاته الملموسة.
انطلاقا من تركيزه على أخطاء أسلافه في الحروب الخارجية، يستنتج أوباما أن الشرق الأوسط عصيّ المسار، إذ أنه مع تدخل أميركي في العراق لم يصبح الوضع أفضل، ومع قيادة أميركية من الخلف تحول التدخل في ليبيا إلى فشل آخر، ومن دون تدخل في سوريا يبقى الوضع مأساويا.
وهكذا يقوده التحليل بالإضافة إلى حنقه ممن أسماهم “المتسلطين الأذكياء” وفشل “الربيع العربي” إلى اعتبار الشرق الأوسط منطقة “حروب الجميع ضد الجميع”، ولذا لا يجب أن تندرج في أولويات الانخراط الأميركي لأنها لم تعد استراتيجية اقتصاديا مع وجود مصادر جديدة للطاقة، ولأن ذلك يقود واشنطن إلى الاهتمام أكثر بآسيا حيث يكمن مستقبل العالم حسب رأيه.
بيد أن هذا الانسحاب، أو شبه الانسحاب، يتغاضى عن مفاعيل الهيمنة الأميركية وسياسات واشنطن في الإقليم منذ خمسينات القرن الماضي. وهذا اليأس من الشرق الأوسط يناقض تبشير أوباما نفسه ببزوغ فجر جديد لهذه المنطقة في خطاب له في برلين إبان الشهور الأولى لحكمه.
بالطبع، إن تعقيدات صراعات مزمنة وحجم شبكة المصالح الإقليمية والدولية وعدم وجود دول ناجحة (تأخر في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، ووزن الأساطير الدينية، ومأزق الإصلاح ونماذج الحداثة) تلقي بثقلها في تحول الشرق الأوسط إلى بركان ملتهب في السنوات الأخيرة، لكن مما لا شك فيه أن إدارة باراك أوباما عبر فشلها في ملف السلام الإسرائيلي الفلسطيني، وعبر تعاملها مع التحولات العربية التي اختصرتها، بعدئذ، في أولوية الحرب على الإرهاب، كانت تعمل على خط ينطلق من قراءة أخرى لصعود التطرف الإسلامي، ومن خلال التركيز على الوصل مع إيران، بهدف إيجاد تركيبة جديدة في الشرق الأوسط.
وهذه القراءة الأوبامية للمشهد السياسي الشرق أوسطي وللعلاقة مع إيران لم تكن ظرفية، بل كانت نتاج تفكير بالخطط المستقبلية استنادا إلى ستيفن والت، البروفيسور في جامعة هارفارد وصاحب نظرية “التوازن الجيوسياسي بين السنّة والشيعة”، التي تبرر الاعتماد لاحقا على إيران كشريك محوري.
في مقاربة تطبيقية اعتبر أوباما “أن هدف الإدارة في الشرق الأوسط هو التوصل إلى توازن جيوسياسي” بين دول الخليج (السنّية) وإيران وهذا يؤدي إلى نوع من التنافس أو حتى الشك من دون إشعال حروب دموية أو حروب بالوكالة. إنها سياسة تنظيم أو مواكبة “الحرب الإسلامية – الإسلامية” على الأرض العربية وأكبر مثال لهذا الاستنزاف ما يحصل في سوريا ويمتد لباقي بلاد الشام. وهذا النزيف يطال الشعوب العربية ووحدة كياناتها ومجتمعاتها.
بعد توقيع اتفاق فيينا، كان أوباما يعلم أن استمرار هجوم إيران الإقليمي سيكون صداه عكسيا عند شركاء واشنطن التاريخيين في الإقليم، لكنه يحمّل المملكة العربية السعودية مسؤولية تأجيح النزاعات إقليميا ومذهبيا، وفي ذلك نوع من التعالي والقراءة المنحازة لمسار النزاعات. والأدهى من ذلك أن أوباما لا يلقي محاضرة أكاديمية، بل يدافع عن سياساته التي أدت إلى تدهور في العلاقات مع الأصدقاء التاريخيين من إسرائيل إلى تركيا ومصر والمملكة العربية السعودية.
في العلاقة مع الرياض بالذات يبدو أوباما قصير الذاكرة بخصوص العلاقات المتشابكة والمصالح المترابطة بين واشنطن والرياض، ويبدو متجنيا وكأنه يحمل ضغينة تتصل بها مقارباته لنزاعات الشرق الأوسط مع قراءته للإسلام وخشيته من التحولات فيه. يحاول الرئيس الأميركي إظهار الاهتمام السعـودي والخليجي بشـؤون المسلمـين في إندونيسيا وآسيا بمثابة غزو ثقافي وكأن ارتداء الحجاب للتعبير عن هوية أو انتماء أصبح من المحرمات في بلد مسلم. ولكنه يركز على الـدور السلبي للإســلام العـربي، وكأنه لا يعلم أنه بالرغم من وجـود مليار وحوالي ستمئة مليون مسلم (غـالبيتهم في الكتلة الآسيوية) فإن القرآن الكريـم “عربي اللسان”، ولا يمكـن حـذف دور العرب في عـوالم الإسلام وفي العالم، بالرغم من أخطاء النظام العربي الرسمي التي هناك مساحات أخرى لنقاشها.
وفي هذا الشأن يلـمح أوباما إلى مسؤولية نظرات معينة للإسلام في صناعة الإرهاب، لكنه يغفل وصية بن لادن التي تم كشف بعض أجزائها وفيها إظهار لعلاقات القاعدة المصلحية مع إيران، ومن غير المعقول أن يتناسى أوباما دور بلاده في حقبة الجهاد الأفغاني وفي سقوط شاه إيران، مما مهد الطريق لصعود البعد الديني في العلاقات الدولية.
عبر قراءة آراء أوباما ومداخلاته كما أظهرها تحقيق جيفري غولدبيرغ، يتبين أن لا مكان للأحاسيس والمشاعر لديه، وأن حامل نوبل للسلام يحتاج ربما إلى التفتيش عن سلامه الداخلي عند مغادرته البيت الأبيض، الذي سيخرج منه والعالم أقل أمنا وأكثر اضطرابا.
ومما لا شك فيه أن كيله الانتقاد للعرب وأوروبا لن يعفيه من مسؤولياته. إن تعامل رئيس القوة العظمى مع مأساة سوريا سيلعب دورا في حكم التاريخ عليه.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس